صحيفة المثقف

خُلِقْتُ أَلُوفاً..

عبد الله سرمد الجميلأَنْ يبكيَ الشاعرُ على الشبابِ بعدَ أَنْ وخَطَ الشيبُ رأسَهُ، فهذا مألوفٌ والشواهدُ عليهِ أكثرُ من أن يُستدلَّ بها. أمَّا أن يألَفُ الشاعرُ شيبَهُ بلا جَزَعٍ، وينظرَ إليهِ بلا حسرةٍ، فهذا ما جاءَ بهِ شاعرُ العربيةِ العظيمُ أبو الطيّبِ المتنبّي وهو يقولُ:

خُلِقْتُ أَلوفاً لو رجَعْتُ إلى الصِّبا

لفارقْتُ شيبي مُوجَعَ القلبِ باكيا

والبيتُ من قصيدتِهِ المشهورةِ في مدحِ كافورٍ الإخشيديِّ، وهيَ أوّلُ قصيدةٍ يُنشدُهُ إيّاها بعد مفارقةِ سيفِ الدولةِ:

كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا

وحَسْبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا

إنَّ في جملةِ (خُلِقْتُ أَلوفاً) ما يُفسِّرُ لنا استسهالَ المتنبي كَثرةَ تَرحالهِ وتنقّلاتِهِ هنا وهناكَ؛ فهوَ يألَفُ بيئتَهُ الجديدةَ، وليسَ هذا فقط، بل يألَفُ زمانَهُ أيضاً، إذن هيَ أُلفةُ مكانٍ وزمانٍ وما يترتّبُ عليهما من تأثيرٍ في الروحِ والجسدِ كثنائيّةِ الشبابِ والمَشيبِ، فيقولُ: (لو رَجَعْتُ إلى الصِّبا لفارقْتُ شيبي مُوجَعَ القلبِ باكيا). فإذا كانَ الشعراءُ والناسُ يحِنّونَ إلى الشبابِ لملذّاتِهِ، فإنّ المتنبي يسافرُ عبرَ الزمنِ، ليَحِنَّ إلى الحاضرِ والمستقبلِ! فهلّا فطَنَ لهذهِ الصورةِ الشعريةِ الفلسفيةِ دارسو الحداثةِ والمُعاصرةِ، ليُوقنوا كم أنَّ في تراثِنا من كُشوفاتٍ معرفيّةٍ، لو قرأناهُ بأناةٍ ورَوِيَّةٍ

 

عبد الله سرمد الجميل - شاعر من العراق من العراق

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم