صحيفة المثقف

أزمة التعايش في السينما

لا حاجة للحديث عن التعايش والتسامح إلا في ظل الصراع والعنف والحرب واشتداد الأزمات، وفي ظل هذه الحالات العصيبة فقط تظهر هذه القيمة كحتمية لرأب الصدع وتأطير الاختلاف، أو لتحقيق غائية الإنسان في مسيرته نحو الكمال والسعادة. ولإضاءة عتمات مفهوم التعايش لابد من استحضار سياقاته المختلفة، سواء تعلق الأمر بالوضع السوسيو-سياسي أم السوسيو-اقتصادي، وهو مدخل لفهم هذه القيمة التي ستظل الهدف الأسمى للإنسان، لأنه مفهوم يبقى ناقصا ما لم تتوافر شروطه المبدئية، وما لم تكن هنالك بيئة سليمة لينمو ويترعرع، ومن بين الركائز التي تجاهلتها فلسفة التعايش لدى جون لوك وفولتير المصالحة والعدالة والاعتراف، وهي، في نظرنا، مفاهيم تشكل البيئة السليمة لانبثاق قيم التسامح.

وستأخذنا هذه الإشكالات للحديث عن التعايش والتسامح في السينما، لاسيما في فيلم "أغورا" و"بلات فورم" وغيرهما من الأفلام الأخرى، قيم إنسانية لا يمكن استجلاء مظاهرها في الخطاب الفرجوي السينمائي إلا  بأضدادها، أي اللاتسامح واللاتعايش. والفيلم الأول يعكس مظاهر الصراع الديني بين اليهودية والمسيحية والوثنية الرومانية، إذ كانت القيم الأخلاقية الدينية هي أساس كل الأعمال الإنسانية (التعايش الديني) مقابل العنف القائم أيضا على المرجعية الدينية (الصراع الديني)، والذي كرس بدوره تعايشا مبنيا على القوة والإقصاء والعنف والإيمان، وهو ما سنتحدث عنه في الجزء الثاني من هذه الورقة.

فهل نحن –حقا- في حاجة إلى التسامح؟ ولماذا؟

وهل يمكن للسينما تكريس قيم التعايش في مجتمعاتنا؟

لقد عرفت أوربا في العصور الوسطى تطاحنات دينية مميتة، أودت بحياة آلاف الأبرياء، لذلك انتبه جون لوك إلى هذا الوضع المتأزم، وكتب "رسالة في التسامح"، وهو تسامح لا يمكن أن يقوم إلا في كنف دولة مدنية/علمانية، فرجال الدين يجب أن يكونوا بمنء عن دواليب الحكم حقنا للعنف الديني بين الطوائف المسيحية وغير المسيحية، لذلك يرى أن "كل إنسان مكلف بأن ينبه وينصح ويقنع الاخرين بخطئهم وأن يقودهم إلى الحقيقة بالعقل. ولكن سن القوانين والطاعة والإرغام بالسيف كل هذا من سلطة الحاكم وحده ولا أحد غيره" 1. إن الشاهد يعكس التوجهات الأولى لفصل الدين عن الدولة تفاديا للعنف وسفك الدماء، وهذا إقرار ضمني بأن الكنيسة تكرس قيم اللاتسامح والعنف، والتاريخ الأوربي شاهد على ذلك.

وهكذا يعتقد جون لوك أن تغيير آراء البشر لا يتم إلا من خلال نور الأدلة والبراهين، وأنه ليس من سلطان الحاكم أن يفرض طقوسا معينة لعبادة الله بقوة القانون سواء في كنيسة بروتستانتية أو في أي كنيسة أخرى، بل "إن خلاص النفوس هي المهمة الوحيدة للكنيسة، وهي ليست مهمة الدولة على الإطلاق أو مهمة أي عضو من أعضائها"2 ، وبهذا يكون جون لوك قد انتبه لهذا الأمر، خطر التعصب الديني على الإنسان والدولة، وهو ما أكده فولتير على لسان الإمبراطور الصيني يونغ تشينغ (1722-1735) في رسالة للمسيحيين الذين حاولوا الهيمنة على بلاده: "أنا أعرف تماما أن دينكم لا يعرف التسامح، كما أني أعرف تماما ما فعلتموه في مانيلا وفي اليابان، لقد تمكنتم من والدي، لكن لا تحلموا  بخداعي أنا"3 ، كما استعرض فولتير الجرائم الإنسانية التي ارتكبت باسم الدين المسيحي في أنحاء متفرقة من أوربا وآسيا، وكل هذا إبرازا لخطورة الدين على الدولة المدنية، وتذكيرا بمآسي التعصب الديني.

لقد ظهر التعصب الديني في القرون الوسطى ليكرس العنف والكراهية، فالهوية الدينية أو العرقية للإنسان، غالبا ما تجعله في أسر التعصب، لذلك يقول فولتير منتقدا هذه الهويات المزيفة: "إن الحق في التعصب حق عبثي وهمجي إذا، إنه حق النمور وإن فاقه بشاعة: فالنمور لا تمزق بأنيابها إلا لتأكل، أما نحن فقد أفنينا بعضنا بعضا من أجل مقاطع وردت في هذا النص أو ذاك"4 ، لذلك يبرز من التاريخ الغربي ما يؤكد طرحه الداعي إلى فصل الدين عن الدولة، فها هو يتحدث عن الأخويات قائلا: "فهي مؤسسة في الأصل على ما يبدو على العداء الذي يكنه كاثوليكيو اللانغدوك لمن يسمون بالهوغونوتيين"5 .

لقد كان لابد من الحديث عن التعايش في سياقه التاريخي حتي تتكشف معانيه ودواعيه، غير أن التسامح عند جون لوك وفولتير لا يمكن استيعابه إلا من خلال استحضار التنظير للدولة المدنية التي استغنت عن الدين المسيحي في تسيير شؤونها، لكن المؤاخذات على طروحاتهما كثيرة، إذ اهتما بالتعايش بين الطوائف الدينية المسيحية بعيدا عن التسامح بين الطبقات الاجتماعية، حيث لم ترد أي إشارة على انتقادهما للدولة ونظام الحكم، أو الدعوة إلى القصاص للضحايا الذين سفكت دماؤهم ظلما في محاكم الدولة.

وبهذا لم يسلم هذا التسامح من انتقادات كثيرة، فهو تسامح ليبرالي، له سياقه التاريخي العام كما يقول محمد بن أحمد مفتي، إذ يؤكد أن "التسامح اللبرالي يقوم على قواعد أساسية تشكل منظومة فكرية متكاملة  يحتاج قيامها إلى توافر شروط أساسية ينتفي التسامح بغيابها أو فقد أحدها، حيث لا يعود التسامح تسامحا معبرا عن قيمة لبرالية. وتتمثل هذه الشروط في: أولا: العلمانية (اللادينية) ثانيا النسبة، ثالثا التعددية والديموقراطية"6 . إنه تسامح لبرالي إذن، لا يمكن أن يتأسس إلا في دولة مدنية، لذلك، هل يحق لنا أن ندعو إلى هذا النوع من التسامح في الدول الناطقة بالعربية ذات المرجعية الإسلامية؟

ومهم أن نشير إلى أن هذا التسامح كان يبدو لوقت قصير قيمة لا تحققها إلا المجتمعات اللبرالية، لكن هذه المجتمعات التي اعتبرها فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" اخر المجتمعات التي تحقق للإنسان العيش الكريم، وتضمن حقوقه، وبالتالي نهاية التاريخ بنهاية الإيديولوجيات المتصارعة، بيد أنه تراجع عن أفكاره التي طرحها في الكتاب السالف الذكر، وهذا يعني أن الصراع سيبقى مستمرا ودائما، وبالتالي فإننا في حاجة دائمة للتسامح مهما تغيرت أنظمة الحكم واختلفت.

غير أني أعتقد أن هذا التسامح، سيظل ناقصا ما لم تتحقق شروطه الموضوعة، سواء في سياقه اللبرالي أو الديني، وهذه الشروط تتمثل في:

- المصالحة: إن مأسسة مفهوم المصالحة يقتضي ممارسة نوع من النقد الذاتي أولا، نقد مقرون بالجرأة للنظر إلى الماضي مهما كانت بشاعته، وأن نعترف كبشر بكل المجازر التي ارتكبت باسم الدين (اليهودية، المسيحية، البوذية...) والعرق (الهيتو والتودس في أوغندا، والبوسنة والهرسك في الصرب) والهوية المنغلقة (كوريا الشمالية)... إن هذا النوع من الكشف عن الحقيقة، ومواجة التاريخ بتمحيص أحداثة وإعادة كتابته بناء على حقائق موضوعية لقادر على تحقيق نوع من المصالحة يمكن أن تؤسس للتعايش والتسامح.

- العدالة: لا يمكن للعدالة أن تتحقق إلا في إطار القانون، لذلك لا حاجة للحديث عن الانتهاكات دون استحضار مفهوم العدالة المبنية على رد الاعتبار ومحاسبة المذنبين... والعدالة هنا بمعناها الشمولي، التي تستوجب على الحاكم أن يطبق القانون على المذنب، وأن لا تكون عدالة عرجاء مثل تجارب بعض الدول المغاربية.

- الاعتراف: إن التعايش والتسامح يقتضي الاعتراف أولا، الاعتراف بالآخر باعتباره مختلفا، لأن أي تدمير للآخر كما يقول إكسيل هونيت هو تدمير للأنا بمعنى من المعاني، فهو يرى أن النماذج المعيارية التي تميز الاعتراف هي الحب والحق والتضامن، وكل هذا يحقق تجربة ذواتية تحقق ما يسمى بالأمن العاطفي للإنسان.

نخلص إلى أن التعايش والتسامح عرف طفرات نوعية عبر التاريخ، فقد غُلّف بما هو ديني في القرون الوسطي، قبل تبلوره ليكون مفهوما محوريا في بناء الدولة المدنية مع جان لوك وفولتير في سياق تاريخي هيمنت عليه البرجوازية، غير أنه يبقى، في نظرنا، تعايشا ناقصا ما لم يرتبط بمفاهيم المصالحة والعدالة والاعتراف.

ولأن موضوع مقالنا لا يهدف إلى التوغل في المفهوم، أو تناوله في مجالات مختلفة لاستكشاف مغالقه، فقد تحدثنا عنه باقتضاب شديد، اقتضاب يسمح برصد التسامح في بعض الأفلام السينمائية، ورصده من منطلقات ابستيمولوجية متعددة، بل وإشكالية إلى حد ما.

وعليه يمكن أن نتساءل:

- كيف يمكن للتسامح أن يتجسد في الفعل السينمائي؟

- هل يمكن لفيلمي "أغورا" و"بلات فورم" إظهار قيم التسامح رغم العنف فيهما؟

إن العالم يسير بسرعة كبيرة نحو اللاتسامح، ولعل ذلك راجع إلى التحولات الجذرية التي شهدها العالم منذ ظهور الصور بداية القرن التاسع عشر، هذا العصر الذي سماه رولان بارت عصر الصورة، إنها سلطة شكلت قيما جديدة ومغايرة، وأدت إلى تغيير إدراك الإنسان للعالم والطبيعة، وكانت النهاية بإعلان ألان توريه "نهاية المجتمعات".

أغورا Agora

أغورا فيلم يتحدث عن مكتبة الإسكندرية الشهيرة في القرن الرابع الميلادي، المكتبة التي أحرقت من طرف أنصار المسيحية للتخلص من رموز الوثنية، وفي خضم هذا الصراع بين الأديان، ستظهر قيمة التسامح كصوت غير مسموع، عندما علا صوت التعصب والكراهية، التسامح الذي جسدته شخصية هيباتيا الإسكندرية التي تقمصتها رايتشل وايز في أداء ملحمي.

غير أن على النقيض نجد دافوس، العبد الذي أعتقته هيباتيا، مجسدا للعنف رغم حيرته وتأرجحه بين الوجه المرعب للمسيحية والعلم، وبعد انضمامه إلى جماعة مسيحية متطرفة أصبح جزءا من العنف، لاسيما في العنف الذي استشرى بينهم وبين اليهود، وبعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن الرابع الميلادي، تتداعى أركان التسامح الذي دعت إليه هيباتيا لتقع في يد الكراهية واللاتسامح، تجردها جماعة دينية متطرفة من ثيابها لرجمها بالحجارة في المكتبة الشهيرة، لكن دافوس يخنقها حتى لا تتعذب من طريقتهم التي اعتزموها في قتلها.

هكذا يسعي مخرج الفيلم إلى إظهار حجم العنف والكراهية للتذكير بالعنصر الغائب وهو التسامح، التسامح الغائب الذي حول حياة الناس إلى معاناة يومية، وجحيم لا يطاق، كما أن الفيلسوفة هيباتيا كانت نقطة الضوء في العتمة، عتمة المتلقي الذي يقف مشدوها مما يراه، فقد كان لها مواقف تجسد قيم التسامح والتعايش، سواء الديني أو الطبقي (السيد/العبد) وذلك كمداواة جراح دافوس عندما تعرض للضرب من طرف والدها عندما اكتشف مسيحيته، أو اقتحامها لمجلس الحاكم القائم بأمور الإمبراطورية الرومانية في الأسكندرية لتذكير المسيحيين واليهود بأهمية التعايش كمنطلق لبناء دولة عادلة تقوم على قيم التسامح والتعايش.

مافتئ هذا الفيلم يذكرنا بنتائج صراع المسيحية والوثنية، الصراع الذي تحول لاحقا إلي الطوائف المسيحية، وهو التاريخ البربري الذي اعتمده كل من جون لوك وفولتير للدعوة إلى دولة مدنية، وكل هدا العنف يشكل نوعا من المصالحة مع الماضي/التاريخ لألا تتكرر المجازر مرة أخرى.

هكذا يذكرنا الفيلم بقيمة التسامح لإرساء أسس العيش المشترك بين الناس مهما اختلفت دياناتهم وأعراقهم، عيش ينبني على احترام القانون المدني المتوافق عليه، والذي يضمن حقوق الأقلية كما الأكثرية.

وعموما يبقي هذا الفيلم ملحمة حقيقية تسلط الضوء على تاريخ مخجل من حياة البشرية، بأسلوب مثير ووممتع، سواء على مستوي الموضوع أم المعالجة الفنية، المزج بين اللقطات الطويلة والقصيرة، والإكثار من اللقطات العامة لإظهار الخراب والدمار الذي لحق بالإسكندرية. إنه فيلم يشكل صرخة في وجه العنف والتعصب الديني، مذكرا في الان نفسه بقيمة التسامح والتعايش.

فيلم بلات فورم La Plateforme

فيلم بلات فورم ملحمة إنسانية بكل المقاييس، وهو على النقيض من فيلم أغورا، إذ يرصد الكراهية والعنف بين الطبقات الاجتماعية في قالب سينمائي مثير، جاء في بداية الفيلم "هناك ثلاثة أناوع من الناس، من هم بالأعلي ومن هم  بالأسفل ومن يسقطون"، وهذه الجملة لوحدها كفيلة بنقلنا إلى عوالم الفيلم السينمائي الذي يعالج الصراع الطبقي، وإعلان الحرب على الاخر من أجل البقاء، كيفما كان هذا الاخر.

صراع يقوم على الكراهية والاستغلال ليجعل المتلقي في حيرة من أمره، أو ربما يجعله ليتوقف ويطرح الأسئلة، أسئلة عميقة عن جوهر وجوده وكينونته، بل ويمنحه أملا على الانتصار على كل أشكال الاستغلال والعنف.

نسجت أحداث الفيلم في قالب تراجيدي للتعبير عن معاناة الإنسان الحديث في عصر النيولبرالية، حيث اختفت كل القيم الإنسانية النبيلة التي سقطت أمام سلطة رأس المال، إنه فيلم بأبعاد فلسفية عميقة، يطرح من خلاله فريق العمل مالات الإنسان/الشيء الذي أصبح مجرد الة تبحث عما تلتهمه.

لقد استطاع المخرج بحنكة عالية تقديم عالم من المتناقضات التي تسائل الإنسان في جوهره وقيمه وأخلاقه، هل يمكن لإنسان أكل اخر من أجل البقاء على قيد الحياة؟ وهل يستطيع كل منشد للتغيير التأثير في الهرم الاجتماعي؟

إن الخلاص من كل مظاهر الكراهية والعداء للاخر هو التسامح والتعايش وقبول الاخر باعتباره اخر مختلفا في كل شيء، ومن كل هذا الركام من الصور المتتالية التي برع المخرج في تقديمها سردا ضوئيا لتصل إلى شهادة على التاريخ، هكذا كان التسامح هو القيمة المفقودة التي ينشدها البطل وبعض شخصيات الفيلم، التسامح الذي يجب أن يفدى بالنفس من أجل مستقبل البشرية جمعاء.

 

عبيد لبروزيين

 ...................

1  - جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة مني أبو سنة، المجلس الأعلي للثقافة، ط 1، 1971، ص: 26.

2  - نفسه: ص 44

3  - فولتير، رسالة في التسامح، ترهنرييت عبودي، دار بتر رابطة العقلانيين العرب، ط2009 ص: 36

4  - نفسه 48

5  - نفسه: ص 21

6  - محمد بن أحمد مفتي، التسامح اللبرالي، مجلة البيان.. ص 8

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم