صحيفة المثقف

أحاديثٌ للموسيقى

عادل بن خليفة بالكحلةالحديث الأول: على ضفاف النبوة:

كلنا نعزف الموسيقى، عندما نتكلم ونصمت، وعندما نقوم ونقعد... لكل واحد منّا موسيقاه؛ ولكل لهجة موسيقاها، ولكل لغة موسيقاها... للبرق موسيقاه، وللريح موسيقاه، ولحفيف الأشجار موسيقاه، ولأصوات الحيوان موسيقاها المختلفة...المؤذن الوهّابي له موسيقى تدميرية لأنّ إلَهَهُ غير رحيم، غير جميل، متحالف مع الملوك، غشوم، كموسيقى السعودي السديس... أما المؤذن المتصوف بمدينة طوبى السّنغالية أو مدينة عين ماضي الجزائرية، أو المؤذن بطهْطا أو أسيوط، فلهم موسيقاهم الرقيقة، الحنون، لأن إلههم هو الرحمان الرحيم إله الرحمة لكل العالمين. فهو كما قال محيي الدين بن عربي: «إن الله تعالى ما أوجد العالم إلا عن حب»... من سوء الحظ لم يقرأ لي أحد كتابي: الفن والاجتماع في عالم الاسلام، الذي أدعي أنني جددت فيه جذريا في أنثروبولوجيا الموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح والسينما في الإسلام... كأنما حرثت في البحر!

لا يقوم التّأسيس العرفاني لإبِسْتِمية الموسيقى في الإسلام على مقولتيْ «الحلال» و«الحرام»، فهما تابعتان لهذا التأسيس لا مستقلتان، ولا يقوم كذلك على مقولة «المُباح».

فمحيي الدين بن عربي يجعل المخيال الفني قائما بين مقولتي «الحب» و«الجمال»: «مَنْ أحبَّ العالم لجماله، فإنما أحب الله»[1]. وما دام الإحساس بالجمال متفاوتًا بين الإحساس بالجمال «المقيّد» والجمال «المطلق» يكون العمل الفني متفاوتا بين هاتيْن الدّرجتين.

لقد كُنّا في نَظر ابن عربي «في جوهر العَمَاءِ»[2]، ولم يكنْ شيء، إلاّ لما قال الحق كلمة: ﴿كُنْ﴾ (سورة يس، 82)، هُنالك كان الشيء: «سَمِعَ، فالتدَّ بسماعه. فلم يتمكن له إلا أن يكون»[3]. ولهذا كانت الموسيقى، عنده، اسمها «سماع»، فأساسها الأنطولوجي سماع كلمة ﴿كُنْ﴾ بكُلِّ موسيقاها الإيجادية. فكان الخالق، زَابِرُ موسيقىً في الآن نفسه، في حركة الأفلاك، وخفيف الأوراق، وخرير المياه، وفي أصوات آلات الموسيقى...

ويتفاوت «السماع» بين «سماع طبيعي» بسيط، القريب من الحالة الأولى للإنسان، فإذا ارتقى الإنسان، ارتقى سماعه لموسيقى الكون، فسمِع «السماع الروحاني»، وهو «صَرْف الأقلام الإلهية بلوْح الوجد المحفوظ مِن التعبير والتبديل»3.

فإذا اكْتَنَهَت النفسُ العاقلةُ السماعَ الروحاني، كانت مُبدعًا موسيقيًّا أرقى من الموسيقيّ الطبيعي، فيكون أكثر التزامًا بالمصير الفردي والمصير الجماعي والمصير الكوني.

فإذا ارتقى الإنسان أكثر، عرفانيا، سمع «السماع الإلهي» فيتجاوز «النغمات المعهودة في العُرْف»[4]، حيث يكون «الكون كله سماع»[5]، فيكون التحقق بالحق، ويكون كل العالم مُؤَوِّبًا لموسيقى العَارِفِ: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ (سورة سبأ، 10)، والتأويبُ في معناه الأوّلي هو: الترداد، وفي معناه العرفاني: التَّماهي بنور العُرَفاء.

إنه لمن الصعب أن نجد تأسيسًا للموسيقى، كتأسيسها التطوّري إِبِسْتِميًّا، في السياق الإسلامي[6].

الحديث الثاني: حين احتفت نهاد حدّاد بالنبيّ محمد:

مَنْ مِنا لا يعرف صدق «فيروز» في تمثّلها الموسيقيّ للنبيّ محمد (ص) الذي سرت معه إلى مدينة القدس و إلى فلسطين:

يا ليلـــــــة الإســـــــــــراء           يا دَرب مَنْ مرّوا إلى السماء

عيوننا إليك ترحل كل يوم             وإنــــــني أصــــــــــلّي

مَنْ مِنّا، لا يعرف صدق فيروز حين تحملنا إلى مكة الأصليّة الجميلة، (لا مكة التي دمَّرتْها جرَّافات العمارة السعودية المتغرّبة):

غنيت مكة أهلها ا الصّيدا

و العيد يملؤ أضلعي عيدا

فرحوا فلألأ تحت كل سما

بيت على بيت الهدى زيدا

مَنْ هُم أهل مكة الصّيدُ عند الشاعر العظيم سعيد عقل، والرحبانيّين؟ هل هم أبو جهل وأبو سفيان وأخته حمّالة الحطب؟! لا... هؤلاء غزاة لمكة.. إنما كان قصد الشاعر والرحبانيين: محمدًا، وخديجة، وياسر، وعمّار بن ياسر، وأبا ذرّ، والحدّاد: خبّاب بن الأرت، والتاجر الصغير بعد تحرّره مِن العبودية: بلال بن رباح، وسُميّة... هؤلاء هُمْ أهل مكة، و«صِيدها».

كانت ذروة بَوح «الفيروزج» عن عشقها للنبي محمد (ص) هو قصيدة الرحالة المتصوّف العظيم: ابن جبير  الأندلسي:

أقول واّنست بالليل نارا لعلً سراج الهدى قد أنارا

وإلا فما بالُ اُفق الدُجى كأنً سنا البرق فيه استطارا

وهذا نسيمُ شذا المسك قد أًعير أَم المسكُ منه استعارا

بشائر صبح السًرى اّذنت بأنً الحبيب تدانا مزارا

جرى ذكرُ طيبه ما بيننا فلا قَلبُ في الًركب إلا وطارا

حنينا إلى أحمدَ المُصطفى وشَوقا يهيجُ الضُلوع استعارا

ولما حللنا فناءَ الرسول نزلنا بأكرم خلق جوارا

وقفنا بروضة دار السلام نُعيد السلام عليها مرارا

إليك إليك نبيً الهُدى ركبنا البحار وجبنا القفار

دعانا إليك هوى كامنٌ أثار من الشوق ما قد أثار

عسى لحظةٌ منكَ لي في غد تمهد لي في الجنان القرارا

فما ضل من بسُراك اهتدى ولا ذُلً من بذراك استجارا

يا الله !! كم أحبّكم أيها الرحابنة العظماء، لأنكم عَمَّقتم فهمي للرحمة لكل العالمين، وربطتموني بها رَبْطا أنطولوجيّا سَعَاديًّا يمنح الحياة، ويعيد ولادة الحياة...

الحديث الثالث: حين أنشد وديع الصافي للتدين الإسلامي:

وديع الصافي، المسيحي، لم يقُمْ بـ«بِدْعة» حين أنْشد للإسلام، لأن المسيح عربي- سوري ومحمد عربي- حجازي، ولأن المسيح إبراهيمي ومحمدا إبراهيمي، لأن الإسلام المحمّديّ لا يكتمل إلا بإيمانه بحضور المسيح في قيامة العَالَم، أي في تغيره جذريا :«كيف أنتم [هل ستكونون في المستوى المطلوب] إذا نزل ابن مريم فيكم؟!» (البخاري).

لحّن الوديع الصافي للشاعر المسلم سعد الله آغا القلعة:

شهرنا السمحُ قد بدا .. خيّراً يغدقُ الندى

يمنحُ الطيبَ والسنا .. يرسلُ النورَ والهدى

يسعدُ المؤمنَ الذي .. نالَ بالصومِ مقصدا

قال يا رب نجّني .. واستمع دعوة النِدا

إنني جئتُ أرتجي .. من تجلى وأرشدَ

إقبل التوبة استجِب .. للذي جاءَ قاصدَ

بابكُ اليوم غايتي .. فاهدني انتَ من هدا

انتَ ذخري وموئلي .. من اذا شاءَ أنجدَ

ولحّن للشاعر المسلم موفّق شيخ الأرض: «صائمون».

وهاهو يغني أيضا: «قصيدة مكة»…

الحديث الرابع: يا نسيم الروح مُحَمَّدٍ، هل تَذْكر رَشا مكّة و عطف النبي عليه؟! (مرسال خليفة والرحمة للعالمين):

يُنْشِدُ مرسال خليفة سمو التدين. ولكنه يتأسف لأن أهل التدين الحق قليلون في زمن الأنانيات:

في فوق سجادة الصلاة  وِلِّي عَمْ بِيصَلّو قْلاَلْ

[الصلاة سجادة عالية]  [ومَنْ يُصلّون قليلون جدًّا]

ورغم غياب هذا المتدين، فهو حاضر في كل إيجابيات الحاضر:

بغيبتك نزل الشتي    قومي أطلعي عالبال

في فوق سجادة صلاة  و اللي عم بيصلوا قلال

صوتهم مثل مصر المرا    و بعلبك الرجاااال

ع كثر ما طلع العشب بيناتنا   بـــــيرعى الغزال

كان عظيمًا جدّا، وغير متوقّع، أنْ يكتشف العظيم مرسال خليفة محمدًا (ص) بواسطة عشق الحَلاج له، لأنّ الحلاج مدينة صعبٌ دخولها، فدونها جواز سفر خاص.

جاء الحلاج بعد سفر طويل إلى مكة... هناك في بيدائها، رأى الرشا... تذكّر أن مُتْرفي مكة هدَّدوه بعبثهم بالانقراض الناجز، ولكن محمدا(ص) الرحمة لكل العالمين، حرم صيده، لما دخل موطنه مكة دخول العَبْد (لا دخول الفاتحين المدمّرين) دون قتالٍ (وتلك في حد ذاتها عظمة الفتح المبين، الفتح الحقيقي). التفتَ بعد تثبيته الأمن التام في مكة التي كانت عدوانية، تآمرية، إلى رشا مكة، فحنَّ له بقلبه السماوي، إذ حرَّم صَيْدَه حتى يُصبح غير مُهَدَّد فعلا بالانقراض ... فلم يُسمح بصيده إلا بَعْد حواليْ 40 سنة من وفاة الرحمة للعالمين، بعد أن زال تهديده بالانقراض...

فعندما يرى عاشق محمد غزال مكة، ولا يتذكر سبب بقائه، لن يكون حلاَّجا، أي صَانعًا لقُطن القلوب السالكة. فالحلاج يريد من النبي أن ينقذه مثلما أنقذ الرشا:

يا نسيم الريح قولي للرشا      لم يزدني الورْدُ إلا عَطَشا

[لم تزدني أوْرَاد الصلاة على النبي إلا عطشًا لحبه]

لي حبيبٌ [هو الذي عطف علي وجودك، فحَرَّم صَيْدك وقتْلك!]

حُبّه وسط الحشا     إن يشأ يمْشي على خدّي مَشَى

[والخدّ عند السالك هو الاجتهاد في عبادة المحبوب: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود﴾.

الحديث الخامس: رِبْعيّة الحقل الموسيقي في إيران:

يقول الفيلسوف علي عزت بيكوفيتس: « الدين والفن والأخلاق فروع سلالة واحدة».

من حُسن الحظ أن الموسيقى في إيران ثورية ذات رِبْعة(استقلال ذاتي)، لأنها لا تنفك عن الدين، أي عن الحياة الأنطولوجية دون تجزئة ولا انفصام..

يقول مُربّي السلوك بَانَاهْيَان:

«قال لي أحد الأساتذة في الموسيقى: (شيخنا، لا تتصعّبوا كثيرًا في الموسيقى). فقلت له: (ولكننا لا نتدخل الآن بشأنكم!). قال: (صحيح، ولكن الموسيقى مهمّة جدّا، وأنا أتوقع أن في المستقبل سيستخدمون الأرْعن في المساجد ويعزفون الموسيقى، كما يستخدمونها في الكنائس). فقلت: (ولماذا يستخدمونها في المساجد؟) قال: (لأن بعض أنواع الموسيقى تستهوي القلوب وتجذلها، بل إنها معنوية وعرفانية، وتجذب القلوب صوب الله). فقلت: (المشكلة هي أنك لم تلتفت إلى نقطة). قال: (وماهي؟). قُلت: (هي أن الله يريد أن نتوجه إليه بلا استعانة). قال: (وما الإشكال في ذلك؟). قلت (هو أنه قد أعدّ صلاة الليل، وقال لا يُفترض أن يأتيك مدّاح أو خطيب أو ناعٍ في ذلك الوقت. ينبغي في ذلك الوقت أن تكون على حقيقتك. فلا تشغّل شريطا، ولا تبث شريط مناجاة، بل كُن على حقيقتك. ولا داعي لأدائها جماعة، بل ائتني وحدك. إنْ لم يتجه قلب: امرء إلى الله إلا بالمحاضرة، فهذا غلط، وإذ كان المرء لا يتجه قلبه إلى الله إلا في جلسة المناجاة العامة فهذا غلط. جلسات المناجاة العامة في محلها، ولكن فليحافظ على المناجاة بشكل خاص أيضا، وليكن له واعظ من نفسه. فعظ نفسك بنفسك!)».

حياة الحقل الموسيقي باستقلاله الذاتي إذ يحتوي الكينونة الإنسانية، على حقيقتها، كما خلقها الله تعالى. هنالك يلامس شواطئ النبوة ذلك ما تكتشفه مع محمد اصفهاني في: «امشب در سر».

الحديث السادس: مسيحي أرْمَني من إيران يكتشف قَلب النبي محمد، ومجيد انتظامي موسيقيّ يَنْظُمُ وِفق رُسُوم بَهزاد:

الموسيقيّ الإيراني، الأرْمني العظيم لُورِك تْجِكْ نَافُورْيَانْ (مولود عام 1937) يؤلف سنفونية: «رسول الحب والأمل» عن النبيّ محمد، عام 2015. كم سمعناها من مرة في مهرجاناتنا العربية؟! كم سمعناها من مرة في قنواتنا التلفزيونية العربية؟! هل هي موجودة في إنترنتنا «العربيّ»؟ لم نسمعها مرة واحدة!!!

لماذا يحب الأرمني المسيحي-الإيراني محمّدًا مُعبّرًا عنه موسيقيًّا؟؟ هل هذا موجودٌ لدى اليهودي التونسي والمسيحي المصري أو الأردني؟؟ لماذا؟

أمَّا مجيد انتظاميّ، فهو غارقٌ بتمَاهِيه الإنساني في الأنطولوجيا الإسلامية. فيكتب: قميص يوسف، رثاء قائد، رسالة إلى كوثر، سفينة النجاة، ملحمة خُرَّمْشَهْر، مِعْراج، أيلول الشهداء... واضح جدّا أنه مستغرق في أسطورة شعبه ونماذجه الدينية، وفي الأحداث المفصلية للتاريخ الراهن إذ يعيد صياغة ملاحم أمته ومآسيها... وهل كان بِتْهُوفْن وسيباستيان وأنطونيو فِيفَالْدي إلا معيدين لإنتاج الكتاب المقدَّس ومتعمقين فيه لفهم الأحداث العظيمة بعصرهم؟!

الحديث السابع: حسين علي الحسيني: عالِم دين يخطو خطوة نحو الموسيقى... ولكنها ليست بحجم خطوة جلال الدين الرومي:

في السياق التشيعي اللبناني، نلاحظ أن عبّاس الموسوي، كوَّن الفرقة الموسيقية للمقاومة، ضِمْن مؤسّساتها الأُولى زمنا، وكان شراء آلاتها الموسيقيّة من ماله الخاص. وكان محمد حسين فضل الله، مُدَافعًا عن حق مرسال خليفة في تلحين آية من سورة يوسف، عكس علماء دين سنيين أدانوه.

فالموقف الفقهي الشيعي من الموسيقى (والممارسة الفنية عمومًا) إمّا محلّل، أو راجئ للأمر إلى تقدير المكلّف، أو صامِت، على عكس الموقف السني الغالب الذي هو التحريم والشيطنة[7].

يقول المجتهد سيد علي الحسيني: «إن جميع الحناجر الإنشادية تُخرج أنغاما تنطبق على هذه الأجهزة (الإيقاعات) الإثنتي عشر. فهذه ليست محرمة، إذ أن الموسيقى ليست سوى هذه الأنغام والإيقاعات والأدوار. وعليه ليست محرّمة إلا إذا داخلها شيء محرَّم»[8]. والعمل الفني لديه مرتبط بالاستقلال الذاتي لمبدعه، إذ «الفنان لوَحْدِهِ عالَمٌ»[9]. ولذلك ينبغي أن لا تكون الرسالة الفنية –في نظره- نَمطيّة، فَجَّة الوعظ، بل يجب أن تَتَحمل الفرادة المنفتحة على الناس والحياة و«هموم الناس البسطاء»[10].

كان عالِم الدين، السيد محمد علي الحسيني، قد شغل كثيرًا من الناس، بعزفه على آلات موسيقيّة، بالأنترنت، فأيده ناسٌ واحتجَّ عليه الشق الإخباري مِن علماء الدين الشيعة. لقد التزم هذا الشق الصمت على السيد محمد علي الحسيني عندما كان يمارس الموسيقى في صمت دون إعلان للعموم(ويشاركه في ذلك عالما دين شيعيان لبنانيان إثنان بالأقل).

إنها لحظة  تاريخية أن يكون عالم الدين الشيعي فارابيا وسينويا معترفا بالموسيقى ممارسة مثلما اعترف بها نظريا. ومن العيب أن لا يكون عالم الدين داوديا تؤوب معه الجبال والطير. بل من العيب أن ينفصل الحقل الديني عن الحقل الفني وقد كانا حقلا واحدا منذ بداية الإنسان، قبل أن  بنفصلا في الغرب الحديث. فمن هذه الناحية تعتبر لحظة السيد محمد علي الحسيني انخراطا في التاريخانية الابستيمية الشيعية_السينوية.

ولكن رغم ذلك كان السيد محمد علي الحسيني، خارج السياق العرفاني-التشيعي التاريخي.

فنحن نلاحظ أن الحضور الموسيقي للسيد محمد علي الحسيني لا يتجاوز المرحلة الموسيقيّة الأولى في تنظير محيي الدين بن عربي لتطور الممارسة الموسيقيّة. فهو ضمن مرحلة «الموسيقى الطبيعية»، مُسْتجيبًا للحالة السّماعية الأولى.

ولم نجد لدى السيد محمد علي الحسيني هفوًّا للمرحلة الموسيقيّة الثانية في تنظير ابن عربي: مرحلة «السماع الروحاني»، حيث الإصرار الإبداعي بالالتزام الأنطولوجي الكادح. فلم نجده إلاّ مصرّا على المَشهديّة، أي «إلقاء الضوء على عالم الدين باعتباره إنسانًا عاديًّا»، وعلى الحقوق الأنَوِيَّة، إذ أن عالم الدين «يحق له ممارسة هواياته»، فلا يعنيه تراث «الضيعة» ولا أوضاع «الناس البسطاء»، فلا علاقة له بأنطولوجيا الفن عند ابن عربي وسيّد علي الحسيني.

فهو عادة ما يكرّر إبداع الآخرين، مع ألحان ذاتية قليلة لا تحمل بحثا معمّقا في الموسيقى، ولا يحمل تموقعا ضمن أنطولوجيا الموسيقى الداودية وأنطولوجيا الفن لدى جلال الدين الرومي.

لقد صَمت جل النسيج الحوزوي على ممارسة عالِم الدين فضل مْخدَّر التشكيليّة (وإن لم يتجاوز مرحلة الفن «الطبيعي» كثيرًا)، فلم يحْتَفِ به ذلك النسيج، إمّا لإخباريّةٍ متماهية بالموقف السّلفي-السني المرتاب من الفن، أو لتقيَّة مِن النسيج العُلَمَائي السني الذي قد يَصِمُ الحوزةَ بالبدعة الفنية (موسيقى، سينما، مسرح، رسم، نحت...)، فمحمد قُطب في منهج الفن الإسلامي يُقْصي الفنون من الحِلّية.

وإجمالاً مازالت الثقافة الحوزوية ثقافة غير خلاّقة، غير متفهمة للممارسة الفنية، نظرا للأغلال غير الواعية للمدرسة الإخبارية المسيطرة عليها لاشعوريًّا. وقد كان صوت الموسيقىَ أعلى من صوت اللوحة، ولذلك كان الغضب(بل افتعال الغضب) على السيد علي الحسيني عاليا، وكان الموقف الحوزوي من الممارسة التشكيلية للشيخ فضل مخدّر هو الصمت.

إنّ المدرسة التّشَيعية – التي انتمى إليها ابن سينا والفارابي، فأنتجَتْ لدَيْهما فلسفة موسيقى وفلسفة فن، ضروريّان لمدينتهما،- مازالت دون تلك الفلسفة اليوم، تنظيرًا حديثًا وممارَسَةً، رغم الإمكانيات الثورية الضخمة فيها.

الحديث الثامن: إلياس الزحلاوي رجل دين مسيحي يضيء المودة لمحمد والإسلام والوطن!

إلياس الزحلاوي عالم دين مسيحي سوري، مولود عام 1932. درس اللاهوت والفلسفة في القدس. شارك في كتب سسيولوجية («الهوية والعنف»...). كان صديقا لرجل الدين المقاوم: المطران هيلاريون كبوجي، وكان مثله مقاوما فكان عضوا في «اللجنة الشعبية لدعم المقاومة». اهتم بالطفولة والشبيبة. درس اللغة اللاتينية وتاريخ المسرح.

أسس«فرقة هواة المسرح العشرون»، وأسس «جوقة الفرح». أشهر مسرحياته: «المدينة المصلوبة» (عن مقاومة مدينة القدس للصهيونية)، و«وجبة الاباطرة». وترجم «فكر هيغل السياسي» وغيره ...

اِنْتَقَد مجلس الكنائس العالمي لصمته عن الحرب العالمية على سوريا منذ عام 2011، مستعيدا كلام المسيح: « دَيْنُونَةً وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ أَعْظَمَ».

وكان صوته هدارا ضد الإساءة للنبي محمد (ص) . كان مع أبنائه في «جوقة الفرح» في كنائس فرنسا و الولايات المتحدة، وهو يلهج معهم:

طَلَعَ البَدْرُ عَلَينَا مِنْ ثَنيَّات الوَدَاعْ

وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا لله دَاعْ

كم لدينا من عالم دين مسلم له ثقافة إلياس الزحلاوي المتنوعة من العلوم الدينية إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية والمسرح والموسيقى وجوقات الفرح؟

كم من موسيقي مسلم لحن أشعار المسيحيين: إلياس قنصل وجورج جرداق وإلياس فرحات وجاك شماس ومكرم المنياوي وريمون قسيس وجورج صيدح وبولس سلامة وخليل مطران وغيرهم؟؟!

يا للقلوب الموصدة عن الحب!!

الحديث التاسع: الرحابنة وفيروز الذين يُحبون تونس:

لم يغنّ الرحابنة وفيروز لأي حاكم عربي، ولم يتملقوا أي ملك. غنوا للدول العربية وللوطن العربي ولفلسطين فحسب. على خلاف محمد عبد الوهاب ومرسال خليفة.

لقد زاروا تونس عام 1968 وأنشدوا: إليك من لبنان:

إليك من لبنان اغنية صديقة

يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان

إليك يا سليلة الملاحم

يا نجمة القصائد القديمة

إليك يا قرطاجة العظيمة

حبي وما يحمل من مياسم

لشعبك الأبي من شعبي الأبي

وان مجدا كان ما بين شاطئينا

يبقى على الزمان

إليك من لبنان

 

حين أضعف، فلا أرى من وطني إلا التدهور البيئي و الفساد وضياع «ثورة» الشباب، أتذكر حب الرحابنة له فأخجل من نفسي، وأعود للمقاومة من جديد...

الحديث العاشر: بتهوفن : محمد والكعبة!

في المقطع الرابع من سنفونية أطلال أثينا، تعلو أصوات المنشدين عدة مرات: «الكَعْبة! الكَعْبة!...محمدا محمدا..».. ثم يكون اندماجنا في معراج النبيّ محمد:

في ثنايا أكمامك       حَمِلتَ القمرَ.

الكعبة!  الكعبة!  محمد! محمد!

ولقد امتطيت البُراقَ المنيرَ        لتعرج به إلى السماء السابعة

أيها النبي العظيم!

الكعبة! الكعبة!

بحق محمد، الرحمة لكل العالمين، أصْدقوني القول: كَمْ مِن سنفونية أخرجها المسلمون يعيدون بها صياغة سيرة النبي محمد!

يا لَلْعار! أين حبهم للنبيّ؟ أين إحساسهم بجمال النبيّ ورحيميته؟ أليس تقاعس الموسيقيين المسلمين من أسباب انتشار تصلب القلب المتدين لدى الشبان المسلمين؟!

 

د.عادل بن خليفة بالكَحْلة

(باحث إناسي، الجامعة التونسية)

يوليو2020_ يناير2021

..........................

[1] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2003، جزء3، ص450.

[2] م. س، ج3، ص428.

[3] م. س، ج3، ص367.

[4] ابن عربي، م. س، ج4، ص368.

[5] ابن عربي، م. س، ج4، ص368 أيضا.

[6] راجع: بالكحلة (عادل)، الفن والاجتماع في عالَم الإسلام، معهد المعارف الحِكمية، بيروت، 2016، من ص100 إلى ص110.

[7] راجع: بالكحلة (عادل)، م. س، من ص203 إلى ص213..

[8] بالكحلة (عادل)، م. س، ص213.

[9] م. س.

[10] م. س، ص214.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم