صحيفة المثقف

الدولة كمرجعية للذوق

نبيل ياسينتأخذ الدولة من المجتمع مرجعياته للذوق، وبذلك تكون الدولة مرجعية للذوق العام. حسنا دعونا نحاول تبني مبدأ كيفما تكونوا يولى عليكم، بمعنى ان الثقافة التي يعيش بموجبها الناس تنتج الحاكم المناسب لهذه الثقافة، الثقافة الشعبية التي تؤمن اننا بحاجة الى ديكتاتور تؤمن الطريق لصعود ديكتاتور بطلب منا، اي ان شرعية الديكتاتور هي شرعية شعبية جماهيرية. يقول الفيلسوف الفرنسي منظر الديمقراطية الحديثة ونشكلها، ألين تورين، ان الثقافة الديمقراطية هي الايمان الراسخ بعدم امكانية عودة الديكتاتورية. فلماذا لا تعود الديكتاتورية في حالة ايماننا باننا بحاجة الى ديكتاتور؟ ان ذوق المجتمعات التي عاشت تحت حكم الديكتاتوريات يفسح المجال امام عودة الديكتاتوريات لانها تمنحها الذوق الدكتاتوري ويتجلى ذلك في الفخامة في المباني بغض النظر عن الجماليات المعمارية وفي التماثيل العملاقة والمنصات العالية والنصب العسكرية بحيث تغيب التفاصيل الجمالية والفنية لصالح الكتلة الكبيرة، التي تجسد الشمولية بجبروتها. وتمنح الشمولية للفن والادب وظيفة التمجيد على حساب المجد الحقيقي بحيث يتحول الذوق العام الى وظيفة استعمالية تخلو من الوظيفة الجمالية الذوق العام يمنح الدولة شرعية لان تكون ديكتاتورية. وتقوم باختصار زمن العمل الفني والثقافي استجابة لحاجة الشمولية الى الهيمنة Hegemony لقيادة الصراع بين الطبقات من خلال الأيديولوجيا حيث يضع (ألتوسير) جهاز الدولة الايديولوجي الثقافي وجهاز الدولة الايديولوجي الاعلامي ضمن الاجهزة الايديولوجية التي تشيع الأيديولوجيا بين افراد المجتمع، والتوسير هنا ينتقد مفهوم الهيمنة الثقافية الشائع لغرامشي لكنه لايتخلى عنه.. ان الهيمنة الثقافية الى جانب الهيمنة الايديولوجية، من خلال نشاطيهما عبر اجهزة الدولة تقومان بصنع الرأي العام وضمن هذه المهمة تصنع الذوق العام في كتابها (اسس التوتاليتارية) تتابع حنا ارندت نظامين شموليين هما الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين والمانيا في العهد النازي، وتشير الى (النبوءة) والى (العصمة) باعتبارهما سلاحا ايديولوجيا ينسب الى المؤول قوى رائية مما يشجع الدكتاتوريين على اعلان مراميهم بشكل نبوي. وتأتي بمثلين، الاول حين (تنبأ) هتلر في تصريحه امام المجلس الامبراطوري في شباط ١٩٣٩ عن الحرب وابادة اليهود بادئا كلامه بـ(اليوم ايضا اذكر لكم نبوءة) والثاني خطاب ستالين امام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام ١٩٣٠ الذي (تنبأ) فيه بالتصفية الجسدية لخصومه الذين سماهم (الطبقات المحتضرة). تقوم صناعة الذوق العام لتهيئة المجتمع لقبول هذه النبؤات وتمجيدها. ويلعب الذوق الثقافي للمجتمع دورا في تقبل الجرائم وتمجيدها عن طريق تمجيد الذوق العنيف، ليصبح (نمطا ثقافيا). وتتحول الثقافة الى ثقافة عنف يساهم التراكم التاريخي (الزمني) في تحويلها الى (هوية متلازمة) اي هوية مزيفة تسحق بعنفها الهويات الفرعية والثانوية وتطمس الهويات الاصلية لنسأل الآن ماهي ثقافة الذوق الاجتماعي. وكيف يمكن لهذا الذوق ان يكون الذوق العام للمجتمع؟ ان الثقافة الشمولية ثقافة ديكتاتورية. وهي نمط التفكير والقبول والرفض. نمط تقبل الفكرة الزائفة على انها تنسجم مع الحقيقة، لان الثقافة الشمولية، وعن طريق الهيمنة، تقوم بصناعة الرأي العام المزيف. حيث ينتج التزييف عن طريق التبني العاطفي للفكرة لصنع ذوقا مزيفا يعتبره المتبني له خصوصية وطنية او قومية او دينية.. هل هذا التحليل انصاف ام تعسف؟ سنرى ان الذوق العام في ظل الاعتقاد الايديولوجي النمطي سيعتبره تعسفا على الارجح لان الشمولية الايديولوجية تحل محل الثقافة لاشاعة الاعتقاد بان لها الحق بان تعتقد وتتصرف على انها المالك الوحيد للحقيقة. لكن في الجوهر لم تكن هناك حقيقة وانما صناعة للوهم وتقديمه كحقيقة بدل الحقيقة في النظام الديكتاتوري يتشكل الذوق العام وفق منظورها للفن والثقافة. ففي الدولة الديكتاتورية مثلا تكون هناك لجنة لفحص النصوص الغنائية لتكوين الذوق السياسي فاغاني الحرب التمجيدية الصاخبة كانت تشكل الذوق العام العنصري، الذي ما زال سائدا في مجتمعاتنا التي تمجد الديكتاتور لانه قوي عسكريا كما ان الصحف والاذاعة والتلفزيون تشكل هذا الذوق عن طريق التكرار والضوضاء المصاحبة لعملها. وحين تنتهي الحرب يكون الفراغ قد سمح للاغاني الهابطة واغاني الغجر وايقاعاتها ان تكون البديل فقد كان الغجر في العراق مثلا هم سلوة قادة الدولة المسلوبة الذين اسسوا (ثقافة) كانت خارج المجتمع لتصبح في قلب هذا المجتمع وحين تتوقف الحرب وتستمر مأساة نتائجها فان المحتوى الجديد لمحرري الصحافة يكون هو المتن الفارغ من كل تأثير لانه فقد مهمة (التعبئة) وتحول الى ملء الفراغ حيث يسقط الذوق العام في ورطة لا يخرج منها الا اذا مدت دولة شرعية وحديثة ومؤسساتية ايديها لتأسيس ذوق عام جديد.

 

نبيل ياسين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم