صحيفة المثقف

خمسون صفحة إضافية

صالح الرزوقإتغار كيريت

ترجمة: صالح الرزوق

وصل حيليك حوالي 12 صباحا. سأل:”هل أقاطعك؟”. أومأت له أن يدخل، ولكنه تردد وتمهل عند العتبة. وقال:”إن كنت مشغولا  سأعود لاحقا. لا أريد أن أزعجك أو ما شابه، أشعر بالفضول فقط”.

أعددت القهوة وجلسنا في غرفة المعيشة. لكنه لم يشرب القهوة، ولم يتذوقها، وغاص في الكنبة وحاول أن يبتسم. وقال:”عرجت عليك لأرى كيف تسير الأمور. المحررون في دار النشر على أحر من الجمر، متشوقون لحد الموت بانتظار قراءتها”.

قلت:”كل شيء جيد. الأمور تسير بشكل ممتاز”.

ابتسم حيليك وقال: ”رائع. أنا مسرور. كما تعلم مرت تسع سنوات. أقصد في آذار يكون مر عليك دون كتابة تسع سنوات...”.

قلت:”ولكن. أنا أكتب طوال الوقت. إنما لا يعجبني ما أكتب. هذا كل شيء”.

قال حيليك ويداه فوق فنجان القهوة وسط البخار الحار: ”أريدك أن تعلم أنه رغم سمعتك الطيبة المبيعات ليست كما يرام. أقسم، في أسبوع الكتاب، كان يأتي كل عشرة دقائق إنسان ما ويسأل متى ستنشر كتابا جديدا. اسأل دوبي. بعد حوالي عشرة سنوات، حتى الكتاب السيء يبيع. ولكن إن كنت لا تكتب شيئا جديدا، هذا يعني...”.

قلت:” أنا أكتب. طوال الوقت أكتب. ولكن لا أجد الرغبة في نشر كتاب غير ناضج. حتى لو كنت أنت أو دوبي..”.

قاطعني حيليك قائلا: ”طبعا. لا أحد يريدك أن تنشر شيئا ليس مكتملا. الأفضل أن يكون جيدا ليبيع أكثر. فقط انته من كتابك هذا.. بالله عليك انته منه”.

كنت أعرفه. وهذه ليست أول زيارة له. وسريعا سيكلمني عن ابنته المشلولة، ثم سيبكيها. دائما يختم زياراته بالبكاء. قلت بمحاولة لاستباق الأمور: ”انتهيت منه تقريبا. لكن أحتاج لخمسين صفحة إضافية”.

Foto: Stephan Röhlكرر حيليك بتشاؤم:”خمسون؟”. قلت له لأبدو جادا: ” نعم. خمسون إضافية. أحتاج لأصل مع البطل لجريمة قتل. وأنا بصدد ذلك. أن يقتل شخصا للدفاع عن النفس. ثم سينام مع أخت القتيل دون أن تعلم أنه القاتل. ثم أضيف عدة صفحات قليلة لأسبر بها تفكيره وهو يسير على شاطئ البحر في قيسارية. ثم فاصل قصير في السيارة العامة وهو في الطريق إلى شقته وحينها يسمع من الإذاعة عن انتشار فيروس كورونا، وكما تعلم، يمكن للقارئ أن يضع الحبكة بسياقها التاريخي”.

قال حيليك وهو يقبض على يد فنجان القهوة: ”قلت خمسين صفحة. خمسون صفحة إضافية وفيروس كورونا؟”. وفكر لحظة ثم ارتعشت يده قرابة الجدار، فلطخه ببقعة سوداء بدأت تسيل نحو الأرض. وقال:

” تذكر ماذا قلت لي في آخر لقاء. عشرون صفحة قلت. قلت عشرين!. عشرون صفحة تعالج بها آخر حرب على غزة. إن لم تكن تكتب هذا يعني أنك لا تكتب. ولكن بحق الرب نحن صديقان لما ينوف على 25 عاما، حتى قبل ولادة عفت، فلا تكذب علي”.

لم أتكلم. وصمت حيليك. وأدركت أنه انتبه لفعلته. كانت البقعة لا تزال تسيل، وستصل السجادة حالا. لكنه قال بعد فترة صمت قصيرة: ”هل لديك رقعة؟. لا تنهض من مكانك. فقط أخبرني أين وسأنظف المكان”. نفيت بحركة من رأسي. وفعلا لا أعتقد أنه عندي رقعة من النوع المطلوب.

قال: ”آسف. فقدت التحكم بحركاتي. أمر بوقت عصيب الآن. أعتذر. هل يمكنك أن تسامحني؟”. أومأت. قال حيليك: ”حسنا. سأنصرف الآن. ولا أريد أن أزعجك.. خمسون صفحة.. قلت خمسين؟. عظيم. تقريبا يعني أنك انتهيت. وحاول أن لا تختار نهاية كئيبة جدا. اتفقنا؟. اترك خصلة من الأمل. الناس تحب أن تشعر بوجود فرصة للخلاص”. وتمهل عند الباب ثم قال: ”أنا آسف حقا بسبب القهوة. أنت لست حانقا، أليس كذلك؟. فقط المسألة أن ابنتي تمر بوضع سيء..”. وبدأ بالبكاء المعهود. وضعت يدي على كتفه. نفس الكتف الذي وضعت يدي عليه في المرة السابقة.

قال حيليك: ”الحياة قاسية. عاهرة فعلا. بلا قلب. تطحنك حتى لا يتبقى منك غير الغبار. اكتب عن ذلك. اكتب شيئا عن ذلك. ليس الآن، ولكن في كتابك القادم”.

قلت له قبل إغلاق الباب: ”سأرسله لك حالما أنتهي منه وفورا. لن أستغرق وقتا طويلا. أوشكت على كتابة النهاية”.

بعد انصراف حيليك، جلست أمام حاسوبي وتصفحت عدة مواقع إباحية. أحدها يعرض صورة فتاة بتسريحة مميزة وكان اسمها نكي. وكانت تتكلم لغة لا أفهمها وتشرب كوكتيلا يقدمه لها شخص غير واضح. أغلقت الموقع وفتحت معالج الكتابة. كانت لدي أفكار كثيرة في رأسي. في الواقع الكثير منها. وفي هذه المرة أخبرت نفسي أنه يجب أن أكتب بطريقة مبتكرة. وأن أبدأ من الخاتمة.

وهكذا بدأت:

(همست نكي:”لا ضرورة للكلام عن ذلك الآن”. وغطت فمه بيدها الناعمة. وأضافت: ”ولا ضرورة للتفكير بالموضوع الآن. دعنا نتبادل قبلة ونشاهد غروب الشمس”. كانت الشمس قد غابت تماما في البحر الأسود، ولمعت حزمة منفردة فقط وعنيدة في السماء، بمحاولة أخيرة ويائسة لتمنح العالم الداكن والفاسد ضفيرة إضافية من النور).

ترجمها عن العبرية سوندرا سيلفيرستون Sondra Silverston

إتجار كيريت Etgar Keret روائي إسرائيلي من أصول بولونية. يدعم حقوق الفلسطينيين. من أهم أعماله: سائق الحافلة (قصص)، بلوز في غزة (بالاشتراك مع الفلسطيني سمير اليوسف)، اختفاء كيسنجر (قصص قصيرة جدا)، الأعوام السبع الطيبة (مذكرات) وغيرها....

***

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم