صحيفة المثقف

رحلات جزائري بربوع إفريقيا

بشير خلفأدب الرحلات هو ذلك الأدب الذي يُصوِّر فيه الكاتب بكاميراته، وبقلمه، وربّما بريشته ما رآه، وما عايشه شخصيا، وما جرى له من أحداث، وما صادفه من أمور، وما تعرّف عليه من معلومات في أثناء رحلةٍ، أو رحلات  قام بها إلى بلدٍ، أو عدد من البلدان .

‎ ولأدب الرحلات أهمية كبرى في توثيق الأحداث، والمواقف، والثقافات، بل وحضارات الشعوب، وتعريف المتابع، أو القارئ بأبرز معالم، وعجائب، وموروث تلك البدان، وتاريخها، وعادات وتقاليد أهلها أفرادًا، وجماعات.

في رأيي يُشترط فيمن يقتحم الكتابة في أدب الرحلات أن يكون متمكِّنًا من اللغة التي يكتب بها: تعبيرًا، وتوصيفيا، وذا مقدرة في تقريب المَشاهد الى مُخيلة القارئ؛ كما يجب أن يكون صاحب خلفية ثقافية مناسبة كي يستطيع رفْــد مشاهداته بحقائق جغرافية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو اقتصادية وقت اللزوم.

فما بالكَ إنْ كان هذا الكاتب الرّحّالة إعلاميا ذا ثقافة عالية، وخبرة ميدانية اقتربت من العقد والنصف، وهذا ما لمسته؛ بل عشْت، وتماهيت مع كاتبه، وكأنني رفيقٌ له في رحلته إلى ربوع عشْر دُولٍ إفريقية، أثّث رحلاته إليها في كتاب متميّزٍ آيةٍ في النسج اللغوي البهي، والأسلوب الممتع المُشوِّق الموشّح بجمالية اللغة العربية، وسحْرِ الكلمِ. أخذنا الكاتب القدير الرحّالة الإعلامي الجزائري، نجم الدين سيدي عثمان في رحلاته إلى ربوع عشْر بلدان إفريقية التي دوّنها في كتابٍ متميّزٍ:" رحلات جزائري في ربوع إفريقيا.. حكايات ومشاهدات من مالي إلى ليزوتو في 137 يومًا".

الكتاب من الحجم الكبير، يقع في 270 صفحة، تضمّنت توطئة المؤلف، و تغطية الرحلات العش: السودان، غينيا الاستوائية، مالاوي، جنوب إفريقيا، بوركينا فاسو، ليزوتو، مالي، تنزانيا، البنين، ليبيا. الكتاب صدر عن دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع. 2017م. تغطية الرحلات من المؤلف نجم الدين تفاوتت صفحاتها بين: 21 صفحة، و29 صفحة.

في مقدمة الكتاب ينبّه الكاتب القارئ إلى أن ما سيطالعه في الكتاب هو مشاهدات عايشها ضمْن زيارات متكررة قام بها كإعلامي لعشر دول إفريقية خلال ست سنوات ونصف، تمكّن فيها قراءة المكان والزمان في تلكم الدول، وقف على طبائع، وعادات، وأخبار، وغرائب تلك الدول الإفريقية التي زارها، بناء على انطباعات استخلصها مباشرة مع ناسها، وتجارب حياتية، وتجارب حيّة طوال 137 يومًا، طوال تلك المدّة كان يستنتج، ويختبر، ويدقّق، ويشخّص، ويميّز، ويغربل، ثم يكتب، فكان كتابه الذي بين أيدينا.

بأسلوبٍ شاعريٍّ جميل وكأنه يأخذ بأيدينا معه إلى متعة النصّ الأدبي الرّحلاتي:

2164 رحلات جزائري« كنتُ في كلِّ بلدٍ أحرّك عقارب الساعة إلى الأمام أو الخلف، ثم أتحرّك بحثًا عن المتعة، والدّفْء التي يتوق قلبي إلى مجاهلها على نحْوٍ دائمٍ، إلى غموضها، إلى أسرارها، فأرغب أن أكون هناك على أن أمتطي الطائرة باتجاه أوروبّا، وكنتُ لا أكلُّ، ولا أملُّ؛ وأنا على أرضها، أكتشف الجديد، وألتقي بالناس، ولا أتردّد في السؤال، وكان في خدمتي دليلٌ سيّاحيٌّ متطوّعٌ في كل رحلةٍ، وربّما أكثر من ذلك؛ بينما افتقدْتُه في بلدانٍ لم أجدْ فيها مُعينًا وادًا مثل مالاوي.ص:5 »

ممّا برع فيه الكاتب تشويق القارئ في مستهلّ الحديث عن البلد بعتبة عنوانية يُبرز فيها أهمّ حدثٍ، أو صفة تطغى على ذاك البلد:

" في السودان يوم انفصل الجنوب، وفقد الشمال ساقيْه"، " ليلة الهروب من دكتاتور غينيا الاستوائية"، " في ملاوي أفقر البلدان الإفريقية"،" في جنوب إفريقيا حيث الجنة والنار على مرمى حجر"، في بوركينا فاسو بلد النقاء والشقاء والذهب"،" أيّامٌ مع شعب الباستو في مملكة السماء ليزوتو"، حكايات مالية في فرْن باماكو"، " تنزانيا دار الأمان والهيرويين والنفوذ اليهودي"،" البنين بلد الفودو، وجنّة تبييض الأموال"، " إرهاصات الثورة في بنغازي شهران قبل شرارة 17 فبراير".

إننا نعرف عن إفريقيا غير أنها قارة الأمراض، والفاقة، والحروب، فمن يزورها، ويطلع على حقائقها تأكيدا سيغيّر نظرته، وسيلغي أحكامه السابقة؛ الأفارقة يا ناس ليسوا أبدا شعوب غابات، وإفريقيا ليست أبدا محضن الأوبئة، والأمراض، وشعوبها شعوبٌ طيّبة، ومضيافون كرماء، وقلوبهم تتنافى مع بشرتهم السوداء؛ إلّا القليل الشّاذّ عن القاعدة، كما هو في كل شعوب الأرض.

إفريقيا قارّة شاسعة، قارة الخير والبركة، شعوبها تحبّ أرضها، وتدافع عنها منذ التاريخ القديم، تكوّنت بها ممالك وإمارات، وعمّرت قرونا، وكانت سيّدة؛ لكن البض الغزّاة الزاحفين من أوروبّا هم الذين دمّروا السود، السكان الأصليين أينما تواجدوا في القارّة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، فأذاقوا سكّانها شتى أشكال التعذيب، والتدمير الجسدي والنفسي، وألحقوا بهم الأمراض والفقر المدقع، واستولوا على أراضيهم، وما تحتها من معادن ثمينة، وغير ثمينة؛ بها اغتنوا، وأغنوا بلدانهم الاستعمارية: بلجيكا، فرنسا، اسبانيا، إيطاليا، البرتغال، إنقلترا.

تخلّصت القارّة من الاستعمار إلا بعد منتصف القرن العشرين، لكن بعض دولها دخل في نزاعات إقليمية، أو عرقية، أو حروبٍ اثنيّة مدمّرة، وتحول الأمر من رقّ الاستعمار إلى قبضة أنظمة عسكرية، أو شبه عسكرية. بعد استقلال دول القارة من الاستعمار وجدت نفسها منهكة، ومضطرة لأن تربط نفسها من جديد مع مستعمريها باتفاقيات تتحكّم في مصيرها؛ وإن بدأت بوادر نهضة متميّزة في بعض دولها في السنوات الأخيرة.

السودان بلد السلام

تحدّث المؤلف نجم الدين عن كل ذلك في كتابه، نقّب عن المعلومات، شخّص الأوضاع، غربل المعلومات، دوّن فكان السودان بلد السلام، والمحبّة، والإنسان السوداني بشوش جدا، أساريره منفرجة على الدوام؛ عيون الجميع إلّا ما ندر متّسعة بالرضا، والغبطة، ومشاعر القبول والحمد.. الإنسان السودانيّ نادر في هذا الزمان الأرعن.

من تلك البساطة والطيبة أنّ بإمكانك لقاء المسؤول الكبير، دون مرورك على صغار الموظفين، فالمسؤول الكبير صغيرٌ بالسليقة السودانية. زار الكاتب السودان للمرّة الثانية، في زيارته تلك عاش حدثا تاريخيا في الخرطوم عاصمة السودان الموحّد، عاش إعلان استقلال الجنوب الذي نُظِّم في شهر جانفي 2011م ، ظهرت دولة في الجنوب ليست ورمًا انتُزع من جسدٍ آدميٍّ؛ إنما من جسد السودان، حيث فُصل الساقان اللّذان كان يقف عليهما؛ فضاعت ثرواتٌ ومداخيل المخزون الطّاقويّ المنفرد به الدولة الجنوبية الجديدة.. دخله الكاتب بلدًا واحدًا، وغادره بلديْن.

تنزانيا برُّ الأمان

لئن كانت تنزانيا دار الأمان يأتيها الناس من كل بقاع العالم لتسلّق جبل" كليمانجارو"،أو " شيطان البرد" باللهجة المحلية، وهي أعلى قمة جبلية في إفريقيا، كما حبا الله هذا البلد بطبيعة خلّابة, واخضرارٍ دائمٍ، وأراضٍ خصْبةٍ، وإطلالة بحرية، وبحيرات مثل بحيرة " فكتوريا" التي يقع جزء كبير منها في تنزانيا، فضْلًا عن بحيرة النطرون في شمال البلاد على الحدود مع كينيا؛ البحيرة الوحيدة في العالم التي لونها أحمر؛ فإنّ تنزانيا تبدو الحياة فيها جميلة، منظمة؛ وكأنها ليست بلدا إفريقيا، دار السلام العاصمة تعجّ بالحركة، وتنبض بالحياة. في هذا البلد ثقافة تترسّخ لدى الطفل منذ ولادته، وهي احترام الكبير، وتوقيره. صار البلد ملْجأً لمواطني دول أخرى عانت ويلات الحروب الأهلية، والمجاعة منذ سنوات عديدة متتالية، عدد اللاجئين بالكاد يناهز المليون، تنزانيا فتحت أبوابها للجميع، وقامت، وتقوم بالواجب الإنساني نحوهم. دار السلام مدينة إسلامية بامتياز، بناها المسلمون، هندستها عربية كما أنّ تسعين بالمائة من سكانها مسلمون.

تنزانيا بلد السكر الأبيض، ونعني به الهيرويين، وأسعار استهلاكه في متناول الجميع، بسعْر قطعة جبْنٍ، دليلٌ دامغٌ على كثرة الانتشار، والتناول. مهرّبو الهيرويين، وموزعيه يملكون نفوذا كبيرا، وتأثيرا قوييْن في المجتمع، والسلطة. إسرائيل متواجدة بقوّة في هذا البلد حتى أن علمها في الصدارة لدى البائعين المتجوِّلين؛ ساعدت إسرائيل تنزانيا في إنشاء سدٍّ فوق نهر النيل سنة 2010م، وقامت بإنجازه شركة تابعة للجيش الإسرائيلي، كما قامت بإنشاء منشآت، ومشاريع طبّيّة.

جنوب إفريقيا

مؤلّف الكتاب يؤكد لنفسه عديد المرّات أنهم محقّون في هذا البلد الجنوب إفريقي عندما سمّوا بلدهم "جنوب إفريقيا"، وأعطوْه تسمية جغرافية بسيطة؛ من المؤكّد أنهم عجزوا أمام مئات التسميات الممكنة. كانوا قادرين أن يسمّوه بلد المحميات، والحروب، والعزل العنصري، والجمال، والتنوّع، والامتزاج، والتطوّر، والقوّة الاقتصادية، وغير ذلك.

جنوب إفريقيا عالمٌ بأكمله على أرضٍ واحدة.. هي اجتماع الأضداد في نفس المكان، والزمان تحت سقْفٍ واحدٍ، هي الأمن والرهبة، الخوف والطمأنينة، النّقاء والخبث، الشياطين والملائكة، هي الاخضرار والقفار، هي المحيط الأطلسي، والمحيط الهندي اللذان يلتحمان على شواطئها، هي الجنّة والنار على مرْمى حجرٍ. نهارًا تعتقد أنك في لندن، نمط أكْلٍ، وعملٍ، وبنيان، وتسوّق، وعيش بريطاني؛ أمّا الليل فهو أمريكي صاخبٌ مليءٌ بالمجون والغواية، وحتى الجريمة مع طقْس البحر الأبيض المتوسّط المعتدل؛ وعلى الأرض مزيجٌ من خلْق الله فلا تعرف الأوروبيَّ من الجنوب إفريقي؛ وفي هذا البلد ليس من اللباقة أن تسأل فيه؛ فهناك حواجز عالية مثلما هي عالية أسوار النايات، والمساكن، المسافات شاسعةٌ بين الناس، فالجميع يسكنون في بيوت شائكة، مسيّجة بالكهرباء الصاعقة، الجار لا يعرف جاره؛ الكلّ متوجِّسٌ من الكلّ، والنوافذ معتمة.

الكاتب لم ينظر فقط إلى الجزء الفارغ من الكأس؛ فجنوب إفريقيا قوة عظمى في إفريقيا، وأكثر دولها تطوّرا، بلدٌ جميلٌ جدّا؛ بل قطعة من أوروبا، كل شيء منظّمٌ بشكل أنيقٍ، هندسة الشوارع كأنها مسطرة، الطرق مثل ملاعب لكرة القدم، الفنادق راقية، وبكلّ الأنواع، والأشكال، والأثمان، هنا يمكنك كل أنواع الهوايات حتى التي لا تعرفها، أو لم تسمع بها. مطويّات تقترح عليك تمضية وقتك، شواطئ ساحرةٌ وسياحة طيلة العام، ورحلات منظمة، وطبيعة خلّابة؛ والمقاطعات التسع للبلاد تنفرد عن غيرها بخصوصيّة المناخ، والطبيعة، والثقافة، والتاريخ، وكلّ شيء؛ كل مدينة هي سرٌّ بحدّ ذاته؛ إن هذا البلد له خصوصيّة لم تُعْط لغيره. جنوب إفريقيا أكبر دولة في العالم من حيث عدد المناجم، على أرضها ما يقرب من 90 بالمائة من مناجم البلاتين و 80 بالمائة من مناجم الماغنيز، و73 بالمائة من الكروم، و45 بالمائة من الفاناديوم، و41 بالمائة من الذهب.

يتعرّض الجزائريون المقيمون في هذا البلد إلى الخطر في كل وقتٍ، يموت 5 إلى 6 منهم كل سنة تقريبًا؛ أمّا السطو فيتعرّضون له دائمًا، ولا يمثّل لديهم خسارة كبرى لدرجة أنهم لا يتحدّثون عنه؛ الخوف الأكبر من الموت قتلًا. سمعة الجزائريين تتفاوت، منهم من نجح في التجارة بامتيازٍ، وأصبح مضرب الأمثال؛ ومنهم من اختار الطريق الخطأ كأحدهم الذي نزوّج من شقيقة رئيس عصابة خطيرة تتاجر في المخدّرات، وأصبح صاحبنا الجزائري مع مرور الوقت بارون " كوكايين"؛ وذات العصابة قتلته في " بريتوريا".

مالاوي .. البلد التعس

مالاوي أفقر بلدان إفريقيا والعالم. مالاوي أو رسميا جمهورية مالاوي، هي دولة حبيسة في جنوب شرق أفريقيا، عُـرفت سابقاً باسم نياسالاند. تحدها زامبيا إلى الشمال الغربي، وتنزانيا إلى الشمال الشرقي، وموزمبيق من الشرق والجنوب والغرب. تنفصل مالاوي عن تنزانيا، وموزامبيق ببحيرة مالاوي. ملاوي دولة غير متطورة ويعتمد اقتصاد مالاوي الزراعي إلى حد كبير على دعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ودول أخرى في معاركه مع الاقتصاد والتعليم وانتشار مرض الإيدز.

من مطار بلانتير العاصمة إلى وسط المدينة مسافة 15 كم، مظاهر التخلّف بادية تصدم المرء، وكأن عقرب الزمن عاد به إلى القرن السابع عشر، حياة بدائية وسط الأدغال، أرصفة مختفية، مساكن الصفيح المقامة فوضويا، بعضها الآخر لم يكتمل بناؤه، لكنه يعجّ بالحركة، والجلبة؛ وهناك ما يشبه سوقًا قذرة، وكأنها من قرون غابرة، أطفالٌ عرّاة، نساء يطحنّ الذرّة، ويغسلن الملابس في العراء، جذوع الأشجار تُنقل على ظهور الشبّان، والأطفال، والشيوخ، وحتى النساء، رزمٌ بكل الأحجام من الفحم؛ من يحملونه تلوّثت ملابسهم الرثّة بالسواد، ما رأيتُ أحدًا نظيفًا؛ الناس تمشي في الطريق المعبّد الوحيد؛ كما كانت التلميذات وهنّ خارجات من المدارس قد حلّقن رؤوسهن بالكامل؛ ويصعب التفريق بين التلميذ، والتلميذة. الغاز ترفٌ لا يملكه الناس؛ لهذا رائحة الحطب والنار تسيطر على أغلب الأمكنة؛ لهذه التعاسة التي يعيش معها السكان في يومياتهم يلجأون إلى احتساء الكحول، أماكن بيعها منتشرة في كل الأماكن؛ شظفّ العيش طاغٍ في بلدٍ ليس له سواحل بحرية، ويكسب الناس فيه عيشهم من الزراعة؛ أو ما يُسمّونه" زراعة الكفاف"، أن يزرعوا ما يحتاجونه، ويعيشون عليه دون بيع المحاصيل؛ حياة الناس، خاصة المزارعين مرتبطة بالمطر؛ فإذا لم ينزل في وقته تحصل مجاعة، وإذا تهاطل بكميات كبيرة غير متوقعة، فيضانات جارفة مدمّرة.

في العاصمة بلانتير لم تجر المياه في الصنابير منذ سنوات، الاستسقاء بالطرق التقليدية هو الحل؛ الأطفال الذين من المفترض أن يكونوا في المدارس، ذاهبون إلى منابع الماء، وعلى رؤوسهم آنيات الماء، قليل منهم من يحصل على التعليم، الإناث مشروع تاجرات متجولات، وسيّدات بيوت فيما بعد. المنطقة الاقتصادية بالمدينة لا يسكنها الناس العاديون، فلا مكان لبيوتهم البائسة؛ ولكنهم في كل صباح يوم يتسكعون في شوارعها الفسيحة، ويتكئون على أسوار البنوك التي في خزائنها آلاف الدولارات، البطالة متفشية جدا، فالشبان والفتيان لا يفعلون شيئا غير البقاء، وتتبّع من يدخلون ويخرجون من البنوك، أولئك المتأنقون رجال المال الأثرياء الذين تشجعهم المصارف في بلانتير بنسب فوائد كبرى، منهم من يأتي من دول إفريقية بعيدة. ما يزيد من معاناة الناس أن أسعار معظم السلع الاستهلاكية باهظة الثمن، أغلبها قادمة من جنوب إفريقيا؛ وبما أن مالاوي دولة حبيسة، فالأسعار تُضاف إليها ضرائب الاستيراد، والجمارك، والشّحن.

من أغرب سلوكات سكان هذا البلد مطاردة الفئران لأجل أكلها، وهي جزء من النظام الغذائي للسكان، خاصة في العاصمة، تُقدّم مسلوقة، أو مشوية؛ كما أنها تُباع على قارعة الطريق في عيدان شواء، فالإقبال عليها من البديهيات اليومية. رؤية الأطفال أمر عاديٌّ وهم يحملون معروضاتهم من الفئران على الطريق، سعر 4 فئران حوالي 150 كواشا" نصف دولار". الأمر لا يتعلق بالجوع، والمجاعات؛ إنما هي ثقافة السكان، وعاداتهم، وموروثهم.

يوجد الهنود المسلمون بكثرة في مالاوي، يسيطرون على التجارة والاقتصاد؛ إنهم العصب المحرّك للعجلة الاقتصادية، وهم السبب في تحوّل مدينة بلانتير إلى قطب اقتصادي، أغلبهم أثرياء، يُدينون بالإسلام، مثل كثير من حاملي الجنسيات الآسيوية المقيمين بالبلد، وإنْ كان عددهم قليلًا. عددُ الهنود حوالي نصف مليون نسمة، كما أن ثلث السكان يدينون بالإسلام، فانتشاره واضحٌ، والآذان يصدح مسموعًا.

في مالاوي لا يطلب الناس لأكثر من الأكل، إذ يردّدون المثل الشعبيّ" شيمانغو ندي مويو"، أي " الذرّة هي الحياة"، إنهم لا يطلبون لحمًا؛ بل ذرّة فقط، وهو الأكل الشائع، والناس مع الأجانب رغم الفقر المُدقع ودودون في معاملاتهم اليومية لكنهم لا يضحكون، ولا يمنحون أنفسهم هذا الحقَّ؛ وإنْ فعلوا فبعيدا عن الأعين؛ الضحك والابتسام بذخٌ لا يليق بهم؛ خُلقوا ليكونوا فقراء.

مالاوي قلْبُ إفريقيا الدّافئ لا تستحقّ هذه التعاسة الشاملة.

اكتفيتُ بالحديث ممّا جاء في الكتاب عن أربع دول: السودان، تنزانيا، جنوب إفريقيا، مالاوي؛ وما هو مدون في الكتاب عن الدول الستّة الأخرى لا يقلّ مُتعة؛ بل أكثر، وكذلك ألمًا. ممّا يُتّهم به الجزائريون أنهم لا يدوّنون رحلاتهم إلى بقاع العالم، وهم من السبّاقين إلى الرّحلات البعيدة والقريبة، وأنهم أقلّ جرأة من تدوين حيواتهم الشخصية؛ إلّا أنّ الإعلامي القدير المتميّز نجم الدين سيد عثمان ألغى هذا الحكم، وربّما فئة ممّنْ قرأوا، أو سيقرؤون هذا الكتاب سيشمّرون، ويدوّنون رحلاتهم.

كتاب" رحلات جزائري في ربوع إفريقيا" ذو مضمون ثريٍّ جدّا، وأسلوبٍ مشوّقٍ، سرْدٌ فما هو بالسّرد فحسب، شعْرٌ فما هو بالشعر فحسب، حكْــيٌ فما هو بالحكي فحسب، إنما كلها اجتمعت في هذا الكتاب كي يكون وجبة شهية ماتعة للقارئ.

 

بشير خلف/ كاتب من الجزائر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم