صحيفة المثقف

انتصار الديمقراطية

منى زيتونرأى كثير من الأصدقاء والمتابعين في اهتمامي بنتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية وتعويلي على فوز جوزيف بايدن إقرارًا بالهيمنة الأمريكية على دول العالم، وقبولًا بها، وأفرطوا في الحديث عن أن الأمريكان قد فعلوا بدولنا العربية كذا وكذا، حتى أنني لمست من بعضهم الفرحة التي لم يفلحوا في مداراتها عندما اقتحم الرعاع من أتباع ترامب مبنى الكابيتول؛ أن أراهم الله تعالى يومًا أسودًا في أمريكا!

وعن نفسي فأنا أرى أن الإقرار بأن رئيس أمريكا يلعب دورًا أساسيًا في قيادة العالم المعاصر هو إقرار بالواقع، وهو حال الأرض الذي لم يتغير عبر الأزمنة أن تكون هناك دول كبيرة محورية لمن يملكها سطوة على ما عدا دولته، ودول أصغر تتفاوت درجة قوتها وقوة تأثيرها في محيطها وفي العالم أجمع. والإقرار بقوة أمريكا وروسيا والصين وغيرها من الدول الكبرى ليس بالضرورة انبطاحًا ولا خيانة ولا تسليمًا دائمًا بكل ما يأمر به رؤساؤها، مع الأخذ في الاعتبار أن كل رئيس تكون له عهدة رئاسية ومسئول عن سياسة الدولة في فترة عهدته، ولا يُعقل أن تكره بايدن لأن جورج بوش الابن قد خرّب العراق أو لأن نظام أوباما قد دعم وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، علمًا بأنه لا أوباما ولا بايدن من ساهم في تزوير الانتخابات لصالح مرشحهم.

وعلى كثرة المساوئ السياسية التي كانت لبعض الأنظمة الأمريكية السابقة في حق العرب فلا يُقاس أي عهد منها بعهد دونالد ترامب؛ فترامب –وعلى عكس غيره من الرؤساء الأمريكيين- ديكتاتور بكل ما للكلمة من معنى؛ يريد أن يأمر فيُطاع، وهذا ما لم يستطعه مع حكام أوروبا أو الصين، فساءت علاقة بلاده بهذه الدول إلى أسوأ درجة في تاريخها، ولم يجد من يستطيع أن يمارس معه هيمنة المتسلطين إلا الخانعين الضعفاء من حكامنا، فأجبرهم على الهرولة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ونهب ما شاء من أموال دولنا التي يديرونها كعزبهم الخاصة، وكان المقابل أن يغض الطرف عن مصائب هؤلاء الحكام، فكانت مقايضة لم نر لها مثيلًا من قبل، وبئست المقايضة!

وفي خلال حوالي سبعين سنة هي عمر دولة إسرائيل لم نر تسارعًا في وتيرة القرارات الأمريكية التي تصب في صالحها وكأنها طرقات فوق رءوسنا مثل ذلك التسارع في عهد دونالد ترامب، والقول بأن هذه عادة جميع رؤساء أمريكا وأنه لا يختلف عنهم هو ادعاء يدل على انعدام تمييز.

ولكن الأنكى –من وجهة نظري لأنه فاتحة شر علينا لم نعهدها من قبل- هو أن حكامنا الخانعين لم يكن لهم رادع طوال فترة عهدته الرئاسية؛ ففعلوا بنا من الأفاعيل ما كان يُعد ضربًا من الخيال لو تنبأ به أحد قبل سنوات لاتهم بالخرق والخرف؛ ومن كان قد نسي فليتذكر كيف وصل الحال إلى التجرؤ على خطف الأمراء ورئيس وزراء لبنان في السعودية، ومرشحي الرئاسة في مصر وأحدهم رئيس وزراء سابق والآخر رئيس أركان الجيش السابق، وكيف تم سجن المعارضين والحقوقيين والعلماء واختلاق القضايا لهم حتى وصلت أعدادهم للآلاف، ثم التبجح أمام جماعات حقوق الإنسان في العالم بأنه ليس لدينا سجناء رأي! وبلغ السيل الزبى بتقطيع أوصال المعارضين البارزين كجمال خاشقجي، وتعذيب وقتل الباحثين الأجانب في مجال حقوق الإنسان كريجيني، وما تبع ذلك من التستر دون خجل على مرتكبي هذه الجرائم.

لذا أرى أن تعشمي في رئاسة بايدن لها ما يبررها لأن هناك فارقًا كبيرًا بين أن يوجد بلطجي أبوه بلطجي مثله يشجعه ويؤازره وبين أن يكون للبلطجي أب محترم وقوي وبإمكانه أن يردعه ويرجعه عن حمقه وأفعاله الخرقاء البلهاء التي لا تليق بالعقلاء. والحوادث الأخيرة في أمريكا ذاتها تثبت أن المشكلة الرئيسية ليست في أن يحكم أخرق أحمق بل تكمن في أن يجد هذا الأحمق مساندة ودعمًا، فإن لم يجد من يسانده تم تحجيم حمقه وأمكن السيطرة عليه، وهو ما لم يجده حكامنا من ترامب ولا من جميع أشكال الحثالة البشرية التي تحيط بهم؛ وأعني فئة الطبالين والزامرين من السياسيين والإعلاميين في بلادنا، ولنتذكر ما جرى في انتخابات الرئاسة في مصر عام 2012 ثم في عام 2018 ونتحسر على حال بلادنا.

وعودة إلى يوم تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد جوزيف بايدن، وكنت في مقالي الأخير "بذرة الديكتاتورية التي لم تجد لها منبتًا" الذي كتبته بعد ساعات من اقتحام الرعاع أنصار ترامب مبنى الكابيتول قد تنبأت بأن ترامب سيحاول تجهيز مفاجأة جنونية قبل مغادرته البيت الأبيض، وكعادته لم يخيب ظني، فحاول رفع مقطع فيديو على موقع اليوتيوب يثير به أتباعه من جديد قبل يوم التنصيب وتم رفضه، وأوقف الموقع حسابه مؤقتًا لمدة أسبوع، ثم قرر اللعب بآخر ورقة في يده فتصرف كطفل يخبئ ما يعتبرها لعبته كي لا يُجبر على إعطائها لغيره! وقد شاهدت وشاهد معي العالم كيف سارع ترامب بترك البيت الأبيض قبل انتهاء فترة عهدته الرئاسية بساعات في طائرة رئاسية مصحوبًا بالحقيبة النووية التي يحق له الاحتفاظ بها كرئيس حتى الثانية عشرة من ظهر يوم تنصيب خلفه بتوقيت واشنطن، ولا يملك أحد مطالبته بها حتى ذلك الوقت، وكأنه أراد أن يهرب بها إلى بيته في فلوريدا، مانعًا من تسليمها إلى بايدن في حفل تنصيب الأخير! وإن كانت وكالات الأنباء قد ذكرت أن مسئولًا دفاعيًا قد رافقه لاستعادة الحقيبة منه على أن يتم إعطاء حقيبة بديلة لبايدن ضمن مراسم التنصيب، فإن هذا التصرف كافٍ وحده لتحديد مستوى النضج الانفعالي المتدني لهذا الطفل الكبير!

وقد عرّض بايدن بترامب في خطاب تنصيبه رئيسًا، وشبهه بهتلر –مع عدم التصريح بالمشبه به- عندما تحدث عن إثارة النعرات العرقية، وأنه كرئيس لكل الأمريكيين لن يسمح بتلك الدعوات العنصرية التي تتحدث عن سيادة العرق الأبيض في أمريكا، واستعان بقس أسود ليلقي كلمة في حفل التنصيب، وغنت كل من ليدي جاجا البيضاء وجنيفر لوبيز السمراء في الحفل، فالرجل لا يفوت فرصة دون التذكير بضرورة تقدير التنوع واحترام الآخر، وهو منفتح ثقافيًا مع درجة عالية من التدين، ومشكلتنا الوحيدة معه كعرب ستكون في أنه ككاثوليكي –ولا شك- مقتنع بأن الله قد كتب الأرض المقدسة لبني إسرائيل، وأن هذا الحكم الإلهي لم يُنسخ، ومع شديد الأسف أن لا يوجد سياسي أو مفكر عربي مقرب من الدوائر الأمريكية يحاول إفهام رؤساء أمريكا أن هذا الحكم قد نُسخ عندما خالف بنو إسرائيل أمره تعالى بدخول الأرض المقدسة ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22] ثم أكثروا الجدال حتى قالوا: ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]. ولكن مع ذلك –ومن خلال فهمي وتحليلي لشخصية الرجل- أثق أن بايدن سيحاول الحفاظ على حقوق الفلسطينيين، وهو ما رأينا بوادره في تغيير مسمى منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل إلى سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، وعودة المساعدات للأونروا.

في القرن العشرين لم يصل هتلر إلى منصبي المستشارية والرئاسة في ألمانيا على ظهر دبابة، وعانى العالم بأسره ويلات بسببه، وأمثال ترامب وهتلر يثبتون أن للديمقراطية مساوئها التي قد لا تقل عن مساوئ أعتى الديكتاتوريات، والخوف الآن أن يعود ترامب للتأثير على الرعاع من أنصاره وإثارتهم من خلال وسائط التواصل الاجتماعي، ودفعهم إلى العودة لإحداث الشغب، والمفترض أن يتم حظر هذا الرجل تمامًا من استخدام جميع أشكال هذه الوسائط، لا أن يُسمح له بإعادة استخدامها بعد أسبوع من يوم التنصيب ليتسبب في زوبعة جديدة، وهو الذي خرج من البيت الأبيض مرددًا لمن وقفوا في وداعه أنه سيعود بطريقة أو بأخرى!

 

د. منى زيتون

الجمعة 22 يناير2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم