صحيفة المثقف

دراسة في أقاصيص مجموعة (في درجة 45 مئوي): احتضار الرسام

حيدر عبدالرضاللكاتب الكبير محمد خضير

النص القصصي بين الوقائع السردية ودال التماثل الصوري

توطئة:

تتشخص عبر علامات القابلية القصصية في مؤشرات الحكاية في مبنى قصة (احتضار الرسام) ضمن مكونات مستوعبة من أداة الوظيفة التماثلية في مشهد الصورة المتصلة وحدود هوية الشخصية المرجعية (عبد القادر الرسام) اتصالا منها وذلك الفضاء المناص المتمثل بسيرة وتجربة الشخصية المتماثلة (محمود أفندي) عبر ثيمة أفق علاقاتها المتخيلة حيال تأريخها المقرون بوقائع أمكنتها وأزمنتها وبؤرة تفاعلاتها كأرهاصات تداولية إزاء وقائع شخوصية هي حالة من الأشكال التي تبدو وكأنها (مداليل انتقائية) ووظيفة علاقة الشخصية المحور إزاء مجسدات مستوعبة من عوالمه الرسومية، أي بمعنى ما نقول أن فضاء أغلب المحاور في النص، لربما هي هيئات بانورامية مخصوصة في متخيل لوحات محمود أفندي، ذلك الرسام الموظف بهيئة وملامح وسيرة الرسام البغدادي عبد القادر .

ـ لوحة تمهيدية من خلفيات واقع التنصيص

تحيلنا عتبة الاستهلال في واقع النص بدءا بذلك الزمن الموظف حكيا على لسان السارد العليم، مضيا نحو ذلك الزمن في معاينة أوليات حياة الشخصية محمود أفندي بذلك التوظيف (البانوسيرذاتي) للمكان والزمن وعتبة حراك ومحققات الوظائف النصية، بما يصب في ثيمة العتبة الأولى من زاوية مساحة تعريفية ـ وصفية، شاهدا على منظور وقائع حياة الشخصية المحور: (تعلم محمود أفندي، الرسم متأخرا، عندما كان أسيرا في ـ بونا ـ أشترى جميع الكراريس وأقلام الرصاص من حانوت المعتقل، كما أشترى حراسه الهنود المسلمون كراريس وأقلاما أخرى من المدينة .. بدأ برسم السفينة التي نقلت الأسرى من البصرة إلى  ـ بومبي ـ على نموذج لها مطبوع على كارت، ثم رسم حراسه وزملاءه معتمدا على صور كاميرا سمح بها لأحد الأسرى . . وفي أناة،و مزاج إستوائي، طور محمود أفندي أسلوبه في رسم ـ البورتريهات ـ / ص77) يمكننا أن نقول ـ تجوزا ـ أن للفضاء المسرود ظلا وأبعادا تشكيلية دقيقة ورموزا مشخصة خفية تأويلية، رغم ظاهرها الذي يكشف عن سرد سيرة ذاتية للشخصية لا أكثر، ولكننا لو دققنا في مجرى مؤولات الإيحاء بالسيرة للشخصية، لوجدنا ثمة سياقية ترتبط وتواريخ استراتيجية مرحلة تأريخانية ثنائية من المحسوس المصور وتشكلات فضاء تماثل الشخصية: (الزمن النوعي = موازاة الحدث = اللحظة المستعادة = الاستباق بالمصدر = خلفية الفعل الحكائي ) ويسهم حضور صوت السارد العليم في تأثيث تصورات زمنية تابعة منه وتابعة إليه، نظرا لذلك النوع التركيزي في مضارع وماضوي مدار النص المموه . غير أن أهم ما يلفت الانتباه في المشهد النصي، هو ذلك المسار الذي يرسم فيه الشخصية رؤى ومجسدات لوحاته النصفية: (كان يلقي بالوجوه في جحيم من الفحم وخلفيات هي ستائر ذات ثنيات حادة أشبه بستائر من الصفيح .. وبالطبع كانت في الخلفيات مسامير ونوافذ وبنادق وأحيانا زهور جامدة في مزهرياتها جمودا معدنيا .. ولعله أراد أن يسجل درجات الحرارة التي تصل إلى درجة 47 مئوي في التماعات هذه الأزهار ونعومة ملمسها وسخونتها وجوها الرطب، وجسد على الأزهار قطرات ماء، فيما كانت الوجود تنضح عرقا .. / ص77 القصة) أن عملية تلاقح سياق النص، حيال مناصات الأبعاد التشكيلية، التي أخذت تندرج ضمن متحققات وصفية موفقة في علاقة وحدات مدلولها المثقل برطوبة المحاور المكونة للمساق المضمر من سلطة ورؤية اللامرئي في النص لعل فيوضات درجات الحرارة للصورة والأزهار والوجوه الفحمية، تذكرنا بعتبة مقدمة أقاصيص المجموعة، حيث تكون درجة حرارة نضوج القصص في غرفة الكاتب: (و 45 درجة مئوي هي واقعية، لأنها درجة حرارة غرفتي الكائنة على السطح، فوق المطبخ، حيث كتبت قصص هذا الكتاب . / ص5 غرفة في درجة 45 مئوي) على أية حال تسعى اشتغالات وحدات النص، ضمن راصدة دلالية مثيرة، أو مستهدفات ضمنية غاية في الاعتدال والتبلور الوظائفي، وفي سياق إيحائية الفضاء النصي تقودنا وحدات النص نحو مواقع أثيرة من تخوم ذاكرة القص: (أما الرسم الوحيد الذي بقي من رسوم الأسر فهي الصورة التي رسمها لنفسه، بجوار طاووس، ولأنه طواها وأخفاها بين ثيابه طويلا فقد احتفظت الصورة بثنياتها بين ثيابه طويلا فقد احتفظت الصورة بثنياتها حتى تمزقها . / ص77) ويتكرر حضور السارد بالمدلول المرجعي حول زمن الرسام محمود أفندي مركزا بالترتيب التصاعدي نحو تفاصيل ذات علاقة متواترة وزمن الأسر، مع التأكيد على القيمة العلائقية ما بين الوقائع والإشارة إلى تلك الملامح المائزة في تفاصيل اللاحق من المسرود القصصي .

1 ـ زمن السارد وكيفياته المتخيلة في ملفوظ الشخصية:

ولما كان مجال ـ زمن السارد ـ مجالا كيفيا نحو كشف علاقة زمن الملفوظ في النص وشخوصه، إذ نعاين تحولات وأدماج زمن السارد داخل وحدة الشخصية العاملة، وصولا منها إلى مساحة ذلك الوعي المناوب بين صوت الأنا الساردة وتفاصيل متحكماتها في شرط كينونة الشخصية عبر أبعادها المركزة والهامشية من متن المبنى النصي . وللزمن القصصي في النص صيغة صنيعة بالتوازن الذاتي، كما حال الظلال بعد اكتمال مواضع سقوط الضوء . لنتأمل زمن السارد عبر مركبات نظائره الموقفية المرسلة في خطاب وحراك حالات وأفعال الشخصية .. فصوت الزمن المتخيل يكاد يكون ذاته زمنا تابعا للسارد العليم، لذا فليس غريبا في بث واصلة ملفوظ الشخصية من خلاله، كوحدة متعاضدة وتعاضدية في الصورة الحكائية ومرجعيتها، مما جعل أشد الأمكنة تطاولا بالظلال الموضوفة تأخذ مداها الحدوثي وتشكيلي داخل موضوعة النص: (بعد إطلاق سراحه أفتتح دكانا لرسم الوجوه في الميدان، إلا أنه أغلقه، وحول غرفته في الدار التي يسكنها صوب الكرخ إلى أستوديو، وأنكب يرسم مدينة بغداد، جزءا فجزءا، معتمدا على كتب الرحالة ومذكرات المؤرخين والولاة . بدأ يرسم مجموعة من التخطيطات للولاة العثمانيين، ونفذ معظم هذه التخطيطات على نوع من ورق الأكياس الأسمر، ولم يستخدم غير أقلام الرصاص والفحم والحبر الصيني . وفي المجموعة هذه اكتمل طابعه الخاص في رسم الوجوه . / ص77 . ص78 القصة) أن واصلة زمن السارد العليم، أخذت تبلورا جامعا ما بين التبئير الداخلي والخارجي ولدرجة وصول الأمر إلى أن يكون التبئير لفضاء الشخصية القصصية تبئيرا مزدوجا، إذ أن زمن ملفوظية السارد لا تتوانى في تقليب مرجعية انموذج الشخوصية، في أبعاد تنكشف معها مواقع صفرية من حوارات وإيهامات الشخصية المستخدمة عبر حال لسان السارد العليم ذاته مع سبر أغوار علاقاته في الألفاظ والوقائع المسرودة تشكيلا: (ففي تخطيطات الحبر يظهر رأس الوالي ضمن تفصيلات خيالية وديكورات حياة يومية حافلة: أحمد باشا يصارع أسدا، مرتضى باشا يمارس التنجيم، السلطان الرهيب مراد متنكرا في زي درويش . / ص78 القصة) وعلى هذا النحو بدت أداة السارد العليم، كوظيفة في ترسيخ محيط موجهات الشخصية، منها إلى تشغيل استبدالات المبنى ببلاغة الفضاءات والتحركات التمثيلية الموظفة بالمسرود المتواتر وصفا .

2ـ ملحمة الوصف المكاني وصورية الوقائع المرسومة:

يمنحنا السارد العليم حالات هندسية متشكلة بأدق معاينة إيحائية بأوضاع المكونات المكانية في فضاء النص، لذا بدت من خلالها أفعال وكينونة عوالم الشخصية وكأنها حالات مؤدلجة في عضوية المكان نفسه، وعبر تلك الذاكرة الخاصة من أسترجاعية الشخصية لمفكرتها المدونة والتي تتلخص في نقل أفعال وأدوار علاقة الرسام بالوالي داود باشا عبر وقائع مرض الطاعون المستشرى في مدينة بغداد: (كان محمود أفندي قد تابع الوالي داود باشا في جولات عدة يخرج بها ليتفقد شؤون الولاية .. وكانت تلك الجولات تصيب محمد أفندي بإنهاك شديد .. أنه يجلس الآن أمام منضدة العمل ويشعر بخذلان أصابعه التي تتحسس ملمس الورقة الخشن قبل أن يضع الوالي في بداية جولة أخرى . / ص79 . ص80) أن القص الفذ محمد خضير، كان يسعى إلى تجسيد الوقائع المرجعية المتعلقة بزمن وحقبة الوالي داود باشا فعلا مجسدا داخل رسومات اللوحات التي يقوم بإجراء بث حالاتها محمود أفندي تخيلا، فالوقائع في حراك محمود أفندي مع الوالي في أحياز المدن والشوارع ومصارعة الطاعون وتحسس جدران أزقة الظلام في ممرات الليل الأسمنتية، ما هي إلا جولات مصورة أو مرسومة على أوراق سمراء، يقوم بخط الحوادث فوقها محمود أفندي نفسه، تماثلا مع حوادث مرجعية عمادها المصادر والمراجع وما قاله الرواة ـ ويعيد النص مدارج حوادثه التكوينية من قبل الرسام عبد القاد البغدادي أو محمود أفندي ضمن شريط حوادث مدونة في الذاكرة أو مخطوطات التأريخ الكولونيالي . نحن هنا نفترض في مقالنا ولا نعطي دلالات قطعية إلى القارىء، بل أن كلامنا هنا هو حصيلة مؤولاتنا في ظل قراءة تحولات النص احتمالا .

3ـ النص كوقائع صورية: من الحوادث المسرودة إلى منظور اللوحة:

سنتكلم في هذا الفرع من مبحثنا القصير، حول إجرائية مسار قصة (احتضار الرسام) وكيفية ما كان في الإجراء النصفي من وحدات السرد حوادثا وواقعة في النص أم أنها كيانية مصورات قام برسم لقطاتها الرسام محمود أفندي ؟ أقول أن مساحة العتبات الأولى من النص كانت مؤشرات تكوينية مخصوصة في واقع تصوير النواة الأولى من تفاصيل حياة محمود أفندي، بدءا من كونه أسيرا وحتى واقعة فتحه لدكانه في رسم الوجوه . أما القسم الثاني من عمليات وصف موقع مسكنه إزاء مياه الشاطىء وسحرية الأوصاف البليغة في معمارية واجهات الشرفات والأسيجة وطوابق العمارات، كل هذه الأوصاف كانت وصفا ساحرا يديره الكاتب على حال لسان السارد العليم، كما وكل أجراء النص، ولكن ما هو ليس بالوقائع الحادثة في النص، هي جملة تحركات محمود أفندي مع داود باشا، أنما هي لغة اللوحات التي قام برسمها محمود أفندي في غاية من الخصوصية الخاصة من عملية تدوين الوقائع المرجعية على هيئة من اللقطات المونتاجية التي كان داود باشا يتمثلها افتراضا في جائحة الطاعون حين ذاك في مدينة بغداد وهذه المحاور والوحدات هي ما قصدناها تحديدا قاب قوسين: (فبعد أن غادر داود باشا السراي توجه إلى القلعة / فلم يخرج معه سوى سماك كان يجهز له طعامه / وفي القلعة أخبره سائس مذعور أن أمير الإسطبل مريض في المخزن / وإلى هنا وضع الرسام السماك والسائس المذعور خلف الوالي والحصان / وخلف جميع رسم جزءا من القلعة وأبراجها الخالية من الجنود / أي تعبير مناسب سيطبعه محمود أفندي على وجه الوالي وهو يتعثر بالجثث في سوق السراي / يجرجر محمود أفندي أصابعه في تعب شديد على أرض سوق الهرج / هكذا أفاد موظف الكمرك الذي جدوه في باب الخان / بعد ذلك ظهر الموت / في هيئة رجل أحدب ذي وجه فأري يحمل فأسا ويجري أمام خيالة الوالي . / ص81 .ص 82) من هنا نفهم أن اللغة تنتجها الصورة بطريقة ما . فالكاتب الكبير محمد خضير، أعاد من خلال هذه المحاور والوحدات أنتاج اللقطة السردية عبر فعل خطاب اللوحات التي قام برسمها الشخصية محمود أفندي،و صرنا منها نتعرف على أهم الوقائع المرجعية في منظور النص المتخيل عبر التدوين أو ما قاله الرواة؟.

ـ النص التأويلي بين حلمية الدال واحتضار المصير الشخوصي .

في الواقع أن امكانية قصة (احتضار الرسام) تحفل بأجواء خاصة من وظائف ودلالات التشكيل والمواربة في النص الآخر من لغة التأويل، وتبعا لهذا وجدنا الجزء الأخير من النص يعبر عن إيهامات العقل الباطن في اللاوعي الشخوصي، استنادا إلى تلك الفضاءات من الصوت الماضوي المجتر لمداليل الحياة الماضوية ووحداتها الذاكراتية: (لا يتذكر محمود أفندي أين ألتقى بهذه الوجوه، المصبوغة والشاحبة، لنساء ورجال في كامل أزياءهم الغريبة، والتي مضى على ارتداءها وقت طويل، فتراكم عليها الغبار،و حالت ألوانها وتجعدت أذيالها وأكمامها .. على الأرجح، فإن النساء هن راقصات ومغنيات .. غواني ما بعد الحرب اللواتي جئن مع الأنكليز . / ص86 . ص87 القصة) أن القاص كان يسعى في مجمل هذه الوحدات في عرضها المجرد من المحددات الزمنية، كوسيلة خاصة في تقديم محاور الحالات والوحدات والحوادث والأطياف عوضا عن الضوابط أو المؤشرات الزمنية لها، فهو أي السارد العليم، راح يعرض جملة من الحوادث بطريقة مباغتة حلمية وكأنها آليات زهايمرية لفقدان ذاكرة الشخصية بفعل العوامل والظروف العمرية والمرحلية، لذا بدت لنا حالات توظيف هذه الوحدات: (كان يفوح من هؤلاء عطر فاسد ينفذ من اللحم المتفسخ والقماش العطن .. كن يصبغن شعورهن، وشفاههن حمراء قانية صلبة كالرخام ن وبينهن من هرمن، وجف جلدهن . / ص87) وعلى هذا النحو نعاين بأن الزمن في الجزء الأخير من النص، غدا ذات رؤية خاصة مساحتها أفعال ماضوية في الذاكرة، وهو الأمر الذي جعلنا نرى إبطاء حركة النص في حدود مجتزأة من أوصاف الزمني المستعاد في النص القصصي .

ـ تعليق القراءة:

أن خيال وذائقة القارىء لعوالم الفذ الكبير الأستاذ محمد خضير في نصوصه القصصية، لربما نتراجع كثيرا في محدداتنا التأويلية عند قراءة عوالم هذه النصوص، وخاصة فيما يتعلق وتأويلات عوالم أقاصيص (في درجة 45 مئوي) فهذه النصوص في حد ذاتها هي غاية في الاستقصائية البانورامية في دال ملحمة الموصوف القصصي، والأدائية والإجرائية فيها مختلفة عن نصوص أقاصيص (المملكة السوداء) ففي مجموعة أقاصيص (في درجة 45 مئوي) ثمة وسائل تقانية ودلالية تحتاج من قارئها القصصي مساحة مضاعفة من التأويل لا القراءة الاسقاطية الفجة . وهذا الأمر ما وجدناه في قصة موضع بحثنا (احتضار الرسام) . أقول مجددا وليس جديدا، أن تقانة دلالات هذا النص، ماراح يشغل ذلك الانبعاث الفني المتفرد الذي راح منه توظيف حياة الوقائع النصية عبر لغة الحوادث السردية إلى لغة مستحدثة وحداثوية من منظور خطاب اللوحة عبر غايات قصدية ملائمة بظروف النص الموضوعية والفنية المؤولة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم