صحيفة المثقف

كورونا.. وداعا فرنسيس فوكاياما!

محمود محمد عليالديمقراطية تفتح طريق الحكام، والدكتاتورية تعمي هذه العيون. وعندما ينطفئ الحاكم الفرد مصابيح الحرية يشتد الظلام في طريق الحكم، ويقود سيارة سلطان الحكم، في ليل حالك السواد، فلا يستطيع أن يتبين معالم الطريق. يسير علي غير هدي. يفقد الرؤية. الشبح يراه رجلاً. والرجل يحسبه ألف رجل. والزهرة يظنها قنبلة. يصدم السيارة التي أمامه. يدهس المارة. يصعد فوق الرصيف. يدوس علي البنزين متوهماً أنه الفرملة. ويدوس علي الفرامل متخيلاً إنها البنزين.. ولهذا تنقلب السيارة وينتهي حكم الدكتاتور!

قصدت أن أفتتح مقالي بتلك الكلمات من أستاذنا الكاتب مصطفي أمين لأتحدث عن فرنسيس فوكاياما، والذي يعد أحد أشهر المفكرين الأمريكيين خارج الولايات المتحدة، لا سيما بعد صدور كتابه " نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وما زالت أفكاره وكتاباته تثير نقاشاً وجدلاً حتي الوقت الحالي، خاصة بعد حرب العراق التي أيدها في البداية، ثم عاد لينتقد طريقة أداء الإدارة الأمريكية لمرحلة ما بعد الحرب.

وقد اختارت مجلة " فورين بولسي" فرنسيس فوكاياما أحد المفكرين المائة في العالم الذين أثروا بأفكارهم ومقولاتهم في عام 2009م، وعللت ذلك بأنه ومنذ صدور كتابه الشهير " نهاية التاريخ والإنسان الأخير "، فإن أفكاره وكتاباته ما زالت تثير نقاشاً وجدلاً حتي الوقت الحالي.

أنهي فرنسيس فوكاياما كتابه الأخير عن التنمية السياسية ودور القانون والذي يتألف من ثلاثة أجزاء يبدأ من تاريخ اكتشاف الإنسان للسياسة، وحتي الوقت الحالي، مروراً بالحضارات التي مرت علي التاريخ الإنساني، وكيف تطور مفهوم القانون لديها بما فيها الحضارة الإسلامية، وقد ألقي عدة محاضرات في جامعة جونز هوبكنز عن كتابه هذا.

وفي هذا الكتاب تحدث فرنسيس فوكاياما عن الربط التاريخي بين كتابه " نهاية التاريخ" الذي ظهر في العام نفسه مع كتاب صموئيل هنتجتون " صراع الحضارات"، ولماذا تلقي معظم الباحثين في منطقة الشرق الأوسط النظريتين – صراع الحضارات ونهاية التاريخ – كنظرية واحدة، وكأنها بمثابة إعلان لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة؟

ونظرية نهاية التاريخ صاحبها فرانسيس فوكوياما في مقاله الشهير "نهاية التاريخ" شارحا نظريته بالقول إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة أو مرور فترة معينة لمرحلة ما بعد الحرب، وإنما نهاية للتاريخ، بوضع حد للأفكار الايدلوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية. تقوم نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما والتي اختلفت الآراء حولها بين مؤيد ومعارض، على ثلاثة عناصر أساسية. العنصر الأول، هو أن الديمقراطية المعاصرة قد بدأت في النمو منذ بداية القرن التاسع عشر، وانتشرت بالتدرج كبديل حضاري في مختلف أنحاء العالم للأنظمة الديكتاتورية. العنصر الثاني في نظرية نهاية التاريخ، هو أن فكرة الصراع التاريخي المتكرر بين " السادة" و"العبيد" لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر. العنصر الثالث في نظرية فوكوياما، هو أن الاشتراكية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنها لأسباب عدة أن تتنافس مع الديمقراطية الحديثة، وبالتالي فإن المستقبل سيكون للرأسمالية أو الاشتراكية الديمقراطية.

وطبقا لنظرية فوكوياما، فإن الديمقراطية قد أثبتت في تجارب متكررة منذ الثورة الفرنسية وحتى وقتنا هذا أنها أفضل النظم التي عرفها الإنسان أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا. ولا يعني فوكوياما أن نهاية أحداث الظلم والاضطهاد في التاريخ قد انتهت، وإنما التاريخ هو الذي انتهى، حتى وإن عادت نظم استبدادية للحكم في مكان ما، فإن الديمقراطية كنظام وفلسفة ستقوى أكثر مما قبل.

وقد انتقد فوكوياما لبناء نظريته عل النموذج الأمريكي للديمقراطية الغربية، لكن مؤيدوه يدافعون عن نظرية نهاية التاريخ بالقول إن المنتقدين قد أساؤوا قراءة النظرية، حبت يرى فوكوياما أن العالم سيشهد المزيد والمزيد من الحكومات الديمقراطية بمختلف أشكالها في السويد وتركيا والهند وغانا وفنزويلا. كما يتم التدليل على فشل نظرية فوكوياما من خلال تصاعد حركات وأفكار إسلامية في الشرق الأوسط أو نجاح الحركات اليسارية في [أمريكا الجنوبية] والثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق.

وكم كان فوكوياما مُخطئاً عندما تصوَّر في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) في بداية تسعينيات القرن المنصرم، أن التاريخ قد توقّف عند النموذج الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي الأميركي على وجه الخصوص، وأن العقل البشري وصل إلى أقصى تطوّره مع ذلك النظام، وأن الإنسان الأخير هو الكاوبوي الأميركي الذي سوف يسيطر على العالم ويفرض قِيَمه عليه. ولم يكن فوكوياما يتوقّع أن فيروساً لا يُرى، ربما يكون قد أنهى تاريخ النظام الرأسمالي المتوحّش وجعل الكابوي الأميركي هو الأخير فعلاً في حَلَبَة السباق التي تصدّرها الصيني والروسي والإيراني.

لقد كشف فيروس كورونا عورة الحضارة الغربية المادية برمّتها وفضح هشاشة نظامها الصحي والاجتماعي الذي يعتمد على عولمة الاقتصاد وخصخصته وعرّى اقتصادات دول كبرى تتّكئ على الخدمات أكثر من اتكائها على الإنتاج، وهي الدول التي قوّت الشركات وأضعفت الدول نفسها فجعلت من الدولة شركة صغيرة في مهامها ومن الشركات دولاً كبيرة تقوم بكل أدوار الدولة. كما أثبت الفيروس أن دولاً بحجم الصين وروسيا وإيران وكوبا لديها أنظمة صحية مُتفوّقة على أنظمة دول تُصنَّف على أنها عُظمى بمراحل، وكشف أقنعة عن دول صنع الإعلام حولها هالة أثبت الواقع أنها مُزيّفة. وعلى سبيل المثال تؤكِّد المعلومات، أن الولايات المتحدة تستورد "80 إلى 90%" من لقاحات المُضادّات الحيوية المختلفة من الصين و"70% من الأدوية المُسكّنة للآلام"، كما نقلت شبكة "فوكس نيوز" في 19 آذار/مارس الماضي، نقلاً عن مجلس العلاقات الخارجية. ولا ننسى كذلك أجهزة التنفّس الاصطناعي والكمّامات التي تنتج منها الصين 100 مليون يومياً وتصدّرها إلى أميركا وكل دول أوروبا وأشعلت حرباً غير مُعلنة عنها.

إنّ الجائحة الصحية في الدول المتقدّمة تكنولوجياً وضعت الديمقراطية الليبرالية في مواجهة مع النفس لترُاجع بنيتها السياسية بناء على العديد من المعطياتٍ المستجدّة والمؤثرة إلى حدّ الانقلاب على الذات، حيث إنّ تفشّي فيروس كورونا “كشف عن عمق الأزمة الكامنة داخل الفكر الديمقراطي الليبرالي، من حيث الدولة في النموذج الغربي التي انتقلت من الدولة الحارسة كما أنتجها القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلى دولة الرعاية التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن ضرورات التصدّي لانتشار الفيروس اليوم أدت إلى عودة المفهوم التقليدي للدول، التي تحتكر قوة القهر والإجبار، وهو الأمر الذي لا شكّ ستكون له تداعيات أساسية في المستقبل كجزء أساسي من الأسئلة الكبرى التي بدأت منذ مطلع هذه الألفية، وتتمحور حول إعادة تعريف دور الدولة وآليات تدخُّلها في المجتمع”

في حين باتت الولايات المتحدة تكافح الفيروس على أرضها، يقول محللون إن الصين تحاول الإسراع في إعادة تموضعها كزعيم عالمي بديل.

الآن بعد جائحة كورونا وآثارها، التي لا تزال قائمة، الأمر اللافت أن النظم الصحية في الدول الرأسمالية، ومنها الولايات المتحدة أظهرت عدم الكفاءة في الأزمة الحالية، بعكس الصين التي تعاملت بكفاءة عالية لمواجهة كورونا، كما أن فاعلية التأمين الصحي كان أضعف مما كان متوقعاً، وهذا لا يبرز خللا كبيراً في النظام الليبرالي الذي يعتمد على المنافسة والربحية، وإجراءات المناقصات، في غياب مسؤولية الدولة السريعة في الأزمات والتغيرات….

بعد هذه الجانحة فإن الكثير من المحللين والاستراتيجيين في الغرب ـ ومنهم السياسي الأمريكي، وأحد المقربين من المحافظين الجدد، د. هنري كيسنجر ـ يرون: أن الأوضاع بعد كورونا في العالم كله، لن تبقى كما كانت.. وهذا يعني، أن مقولة نهاية التاريخ عند فلسفة بعينها، كما قال فوكوياما، ستبقى مجرد أحلام لواقع وظروف آنية غير منطقية أو علمية، ومن هذه المنطلقات فالتوقعات أن التاريخ سيستأنف مرة أخرى ولن يتوقف، بعد جائحة كورونا برؤية أخرى جديدة ومغايرة، ربما تخفف من غلواء وسلبيات حركة السوق المطلقة دون تقييد..

يبدو الخروج بحكم بات، ورؤية قاطعة، بشأن أي النظم السياسية أصلح للتعامل مع الأزمة مسألة صعبة بسبب غموض الفايروس واختلاف درجة شراسته من مكان لآخر، فضلا عن سرعة تحوره وانتشاره وتنوع تأثيراته، وإذا كان من الصحيح القول إن النظم المعبرة عن الليبرالية الجديدة فشلت تماما في مواجهة الوباء، فإن هناك نظما شمولية عاتية فشلت أيضا في المواجهة، مثل النظام الإيراني الذي لم ينجح رغم السلطات الواسعة الممنوحة له في وقف تفشي المرض.

ويؤكد هذا الاستنتاج أن كورونا لا يُعيد التبشير بالنظم الشمولية على نطاق واسع بحكم أنها قادرة على اتخاذ إجراءات صارمة لحماية الشعوب، لكنه يكشف مكونات الترهل الذي ظهرت معالمه على القيم الليبرالية، بما يفرض إعادة النظر في بعض قواعدها.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

1- يوسف الكلاخي: التاريخ الذي لم ينته بعد.. الحوار المتمدن-العدد: 3600 - 2012 / 1 / 7 - 02:02.

2- يحيى عبد المبدي: فوكوياما: بداية التاريخ ونهايته.. إيلاف...مقال..

3- د. أخمد بوخريص : هل تطيح “كورونا” بأطروحة فوكوياما : نهاية التاريخ ….؟.. المركز الديمقراطي العربي..

4- عرفات رميمة: فوكوياما لم ينتظر كورونا …الحضارة الغربية ونهاية التاريخ..مقال..

5- صابر النفزاوي: كورونا يدق إسفينا جديدا في نظرية :نهاية التاريخ…!..مقال..

6-شوقي بن حسن :”كورونا التي حققت ” نبوءة” كارل شميث...مقال..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم