صحيفة المثقف

لماذا تأخر ظهور الدين السماوي؟

ريكان ابراهيمفي علم النفس الديني (3)

إن الإنسان كان محكوماً بالتفكير الإبتدائي الذي ذكرنا عنه بعض المعلومات التي تفرِقهُ عن التفكير الناضج. وكان ذلك النوع من التفكير ضرورةً مباشرة للتعويض عن حاجة الإنسان إلى سدِ شاغره المعرفي حولَ كينونتهِ وفلسفة وجوده ومصيره نظراً لفقره في مُدركه البايولوجي الدماغي لكل ما يَدورُ حوله.

تحت هذا الظرف من الفقر الإدراكي إستعان الإنسان على جهله وخوفه من صعوبة إستقراره بالكثير من التفسير الميثولوجي، الطَموح الساذج في كثير من الأحيان.

لقد كان يستعينُ بالتفسير المُبَسط على فهم الظاهرات الطبيعية بما فيها القوة أو القوى التي تقف وراءها. وعلى رغم من إيماننا الكامل بسذاجة التفكير الإبتدائي وبساطة تفسيره لما يجري في الإنسان من ولادة وعيش وموت وما يجري في الكون من صخبٍ باعث على القلق، علينا أن نُقِر أن التفكير هذا لم يكن صادراً من فراغ نفسي وعقلي. إن القدرةَ على خلقِ الإسطورة حول ظاهرةٍ ما تنطوي على محاولة عقلية جادة للتفسير وعلينا أن نجد العُذر للعقل الذي (أبدعها) لأننا لا نُحاكم الماضي بعينِ الحاضر حيث يقوم لكل منهما ما يُبرِزُ ظروف ظهوره.

إن تَدرُجَ الإنسان من مرحلة الفكر الإبتدائي إلى الفكر الذي هو عليهِ الآن كان ضرورياً للتعامل مع مسألةٍ معقدة كمسألة الوجود. لقد أطلقنا على ما نحن عليه الآن تسمية " الفكر الناضج"، وهذا قولٌ فيه الكثير من الصِحة لكنه ليس الصحيح الكامل، فما زال أمام الإنسان ما ينتظره من كشوفٍ ومعرفة على نحوٍ يجعلنا مضطرين إلى تعديل التسمية من (الفكر الناضج) إلى (الفكر المتناضج).

ومن يدري؟ فلربما سترفدنا الأيام (الأعوام، العقود، أو القرون) بالمزيد من المعرفة الكافية لجعل ما نحن فيه من فكر مرحلةً وسطى بين ما كان فكراً إبتدائياً وما سيكون أنضج وهكذا تستمر المسيرة.

إذن علينا الآن أن نناقش بإقتضاب علم نفس التفكير الإبتدائي الذي استطاع أن يُنتجَ لنا إلهاً أو آلهةً وديناً أو أدياناً وتفسيراً للطبيعة أو تفسيرات. يُشير علم نفس الأسطورة التي هي روح التفكير الإبتدائي ولُبُه إلى الحقائق الآتية:

1- تحتاج الأسطورة إلى كميةٍ هائلة من المُخيلة المبدعة (أو قل المبتدعة).

2- تحتاج الأسطورة إلى غياب المعرفة الحقيقية بما هية الظاهرة التي تدور حولها.

3- تحتاج الأسطورة إلى وجود مُتلقٍ جماهيري يقبل بها ويرضى بتفسيرها للإنسان والكون.

4- تحتاج الأسطورة إلى قوتها في الإقناع مبنىً ومعنىً، حيث يتضافر فيها الشكل الناقل لها مع المحتوى الذي تنقله.

5- تنسجم الأسطورة مع طبيعة المجتمع الذي تظهر فيه بين أبنائه. فأسطورة المجتمعات المتشاطئة مع البحار تختلف عن أسطورة المجتمعات التي تتخذُ من الصحارى سكناً لها. وفي بيئة يزدهر فيها وجودالأفاعي والزواحف الأخرى تختلف الإسطورة عن تلك التي تظهر في بيئةٍ خاليةٍ منها.

6- تُقسِمُ الأسطورة ظاهرة القوة في البطل على أنواعٍ من تلك القوة، ولا تميل إلى جعل بطلٍ واحدٍ مسؤولاً عن المشهد الكلي للظاهرة. ومثال ذلك ما قامت عليه الأسطورة الإغريقية التي جعلت للغيوم والرعود إلهاً (بطلاً) وللحياة إلهاً (بطلاً) وللموت إلهاً (بطلاً) فكان ذلك سبباً لتعدد الأبطال مثالاً على تَعدد الآلهة.

7- كانت الأسطورة تُعالج حاجة الإنسان إلى الحكمة من وجود شيء ما. وكثيراً ما تكون على شكل حكاية أولية (قصة) ينتصر فيها بطل الخير ويندحر فيها بطل الشَر في محاولةٍ مستمرة لإثبات الحكمة من وجود الإنسان على ظهر الأرض.

8- لا تميل الأسطورة إلى التعامل مع القوة الخارقة القادرة على التحدي بنحوٍ مُطلق وبذلك لم تستطع الأساطير أن تَزرع في الناس مفهوم (المُطلق) اللانهائي في البطل، ذلك الزرع الذي يُمهِد لفكرة الإله الواحِد. فالبطولات الأسطورية، مهما كانت، محكومةٌ بميلاد وظهور وموت على نحوٍ أبعد فكرة الخلود عن البطل. فحتى في أسطورة كلكامش كان الأخير يبحث عن الخلود الذي إعتبرهُ جزءاً من حقه الذي يُقاتل من أجله.

9- لا تميل الأسطورة إلى النبوءة والإستقراء المستقبلي لظاهرةٍ تُعالجها، إنما تحاكي دائماً ما هو قائم بأثرٍ رجعي فتهتم بالتعامل مع النتائج وليس مع السبب الذي أوجد الناتج. لذلك كانت الأساطير بلا مستقبل فيها أو لها. 

ومن هذه النقاط التي أوردناها يظهر لدينا عددٌ من التساؤلات:

1- يُفترض أن الأسطورة كانت تحاكي مقطعاً زمنياً في المجتمع الإنساني لتختفي بعد ذلك. إذن لماذا استمرت في بعضها إلى الآن في بعض المجتمعات؟

2- إذا كان على الأسطورة أن تنتهي، فلماذا ظهرت دراسات كثيرة مزج أصحابها بين مفهوم الأسطورة الأنثربولوجي وبعض الظاهرات الدينية؟ مثالٌ على ذلك: قصة خلق الإنسان، نظرية التطور التي نادت بإرتقاء الإنسان من مرحلته الحيوانية إلى الإنسانية فبررت الأسطورة بأنها ناتج مرحلي للتفكير، قصة الطوفان بين أسبابه الأخلاقية وخرافية تصويره على النحو الذي نعرفه، قصة القيامة بين التفسير الديني السماوي لظهورها وآلية تفسيرها على أنها إنفجار كوني قابل للحدوث بدون تفسير أخلاقي؟

3- إذا كانت الأسطورة قد ملأت الفراغ المعرفي عند الإنسان بشيءٍ من الترضية العاطفية لتساؤلاته؟ فلماذا لم يستطع الإنجاز العقلي أن يُجهز على كل معالم الأسطورة في حياة الإنسان. مثالٌ على ذلك: استمرار الإيمان بقوة السحر والساحر، استمرار إعتقاد الإنسان بتفسير الأحلام تفسيراً مستقبلياً قامعاً لآلامه وآماله، إستمرار التفسير الطوطمي لسوء الطالع والتطير؟

4- إذا كانت الأسطورة قد فقدت وجودها أو قوتها، فلماذا لا تزال تصنع من الإنسان مريضاً نفسياً وعقلياً كإعتقاداته في التعاظم والخيلاء وإدعاءاته في النبوءة والإصطفاء. ولماذا يستعصي على العلم الطبي أن يُحرر هذا المريض من فكره إذا استطاع أن يُحرِره من عواطفه؟

5- هل يصِحُ إبطالنا لمفهوم أسطورةٍ ما مثالاً على إبطالنا نظرية علمية تُثبت الأيام خطأها لنعوضها بنظرية أخرى؟ وهل يمكن بذلك أن نعتبر النظرية الملغاة مرحلة إنتقال من فكر إبتدائي إلى فكر ناضج؟

إنَ الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن في قدرتنا على فحص الإنسان الأسطوري وليس في الأسطورة نفسها، ذلك لأنه لا أثر لأية أسطورة ما لم يكن هناك مُستقبل لها قانع بتصوراتها. معنى هذا أننا سنجيب عن هذه التساؤلات عندما نفحص شخصية الإنسان الذي قبل بالأسطورة واستمر في رضاه بها.

إن الإنسان المؤمن بالأسطورة يملك السمات الآتية:

1- إنه شخصية عُصابية التكوين، ذات ردود أفعال غير مستقرة تستقي إستقرارها من تفسيرها للظاهرة تفسيراً جبرياً.

2- ذو مزاج مضطرب باضطراب الظروف الحياتية المحيطة به. يحتكم في تفسير أحلامه إلى (ثوابت) تشرحها الأسطورة على أنها مُسلَمات؛ ويحتكم في معالجة أية قضية إلى نوع الطالع سلباً أو إيجاباً.

 

3- إرجائي غير منجز لأعماله التي يُفوض مفهوم الأسطورة طريقة لحلها.

4- يمرُ بنوبات من الأعراض الذُهانية كالهلاوس والأوهام التي يكون فيها قريباً من تشخيصه بأنه شخصيةٌ حافية (حدِية) Borderline Personality وفيها يُفسِرُ الأحداث تفسيراً مريضاً خاضعاً للوهم.

5- يتمتع بقدرته على تضخيم الأحداث overvalued ideas حيث يُعطي للسحر والساحر وللكهانة والكاهن حجماً من التأثير لا ينسجم مع واقعها.

6- عرضةً للنوبات الإكتئابية التي تتجلى فيها ظاهرة القاء اللوم على نفسه بأنه السبب في ما حصل له لأنه خالف عُرف أو أعراف ما تقول به أسطورةٌ من الأساطير.

7- يظلُ هذا النوع من الناس عُرضة للإنهيار النفسي (قلق وإكتئاب مُتكررين) ويظل بحاجة إلى الإسناد النفسي والتدعيم، ويندر أن يبرُز بين أفراده أشخاص قياديون مبدعون في الحياة نظراً لما تتطلبه القيادة الإجتماعية من صلابة في العواطف والبناء الشخصي.

***

تذكر أيُها القارىء أننا قلنا إن الإجابة عن التساؤلات التي أوردناها تكمُن في تشخيص الفرد الأسطوري عبر أعراضه التي تظهر عنده، وهذا ما أصبح واضحاً الآن حيث أن مُعتنق الأسطورة الذي أثبتنا معاناته من العصاب والمزاج المضطرب والإرجاء والأعراض الذُهانية كالهلاوس والأوهام، والتقويم والتقييم المُفخم للأحداث والشعور بالذنب والتعرض للقلق والإكتئاب، هذا المٌقتنع لا يستطيع أن يضع تأثير الأسطورة في مقطع زمني لأنها تشمل كل مرافق سلوكهِ، ولا يستطيع أن يكون مُدركاً عقلياً لفواصل الإلتقاء والإقتران بين التاريخ الأنثربولوجي والتاريخ الديني، ولا يستطيع أن يجعل مُعطاه العقلي كافياً للتفريق بين الأثر البايولوجي والأثر الأسطوري في صناعة مرضهِ.

***

نلتفت الآن إلى السؤال الذي أثرناهُ (لماذا تأخر ظهور الدين السماوي؟). لو سألنا هذا السؤال بصيغةٍ أخرى كالآتي: (ماذا يكون لو ظهرَ الدين السماوي مبكراً في حياة الإنسان؟) أو بصيغة ثالثة (ماذا يكون لو لم تكن الأسطورة الإعتقداية قد ظهرت أصلاً؟). إن هناك حكمةً تكمن وراء تأخر ظهور الدين السماوي.

فلقد أرد الله الخالق العظيم، أحكم الحاكمين أن يستنزف كل محاولات الإنسان في البحث عن إله يعبده بكل ما كان عليه هذا الإنسان من قدرات على التصور والتخيُل والإبداع الذاتي عبر تاريخ طويل من الجهد والمجاهدة بتفكيرٍ لم ينضج ولم يستطع أن يُنضِجَ معه شيئا أكبر من الأسطورة التي لم تحمل فيها ومعها معدات بقائها واستمرارها.

فلو نزلت الكتب السماوية في أول تاريخ الإنسان، على ما هو عليه من أحادية البُعد وفقر الإستنتاج، لألغت تلك الكتب كل رياضة فكرية ولأصبح الإنسان خاضعاً مباشراً للنص الذي لا إجتهاد فيه ولمات العقل المجتهد. فالنص الديني المنزل وضَع الإنسان أمام خيارين فإما أن يستمر في الأسطورة التي لن تُفضي إلى شيء ليُصبِح بعدها كافراً بكل محاولاته التي ستقوده إلى الإيمان وإما أن يعتنق الدين عاملاً مساعداً لعقله في الإنقياد الى حقيقة وجود الله.

من هنا نستنتج أن للأسطورة على سذاجتها فضلاً في إظهار الحاجة إلى قيام بديل صحيح عنها. ولو تدبرنا جدول المقارنة الآتي بين معتنق الأسطورة ومعتنق النص الدين لوجدنا الآتي:

مٌعتنق الأسطورة (الدين الإبتداعي) - مٌعتنق النص الديني السماوي

1- لا يملك قدرة الإعتراض عليها لأنه لم يتوصل إلى البديل منها.

1- يملك قدرة الحوار والإعتراض لأنه أمام فكر ناضج يحاور به فكراً إبتدائياً.

2- الأسطورة وسيلة تساعده على مقاومة خوفه فقط.

2- النص الديني غاية تجعل فكره وسيلةً للوصول إليها.

3- الأسطورة لا تحمل تفسيراً للمستقبل بل تكتفي بشرح الماضي من الأحداث.

3- النص الديني يُقارن الماضي بما سيحدث وبذلك يُعدُ مُشرِعاً لما سيأتي.

4- مُعتنق الأسطورة قَلقٌ أمام زوالها.

4- مُعتنق النص السماوي مُطمئن أمام ثبات محتوى ذلك النص

5- مُعتنق الأسطورة يفيد من حكمتها المقترنة بزمن ظهورها.

5- مُعتنق النص الديني لا يعاني من زمن قد يُغير محتوى النص.

6- مُعتنق الأسطورة إقليمي الوعي محكومٌ بثقافة مجتمعه وعاداته وجغرافيته.

6- مُعتنق النص الديني عالمي الوعي لا تحكمه ثقافة معينة لأن النص الديني أشمل من الأسطورة.

7- مُعتنق الأسطورة مُروضٌ على قبول روح القَص والرواية والحكاية لأن الأسطورة كذلك.

7- مُعتنق النص الديني منحازٌ إلى النص نفسه وليس لديه الميل إلى حالة الأقصوصة أو الحكاية.

***

إنَ التقدم التقني في الميدان الإجتماعي ومثله ميدان بايولوجية الإنسان كشَف زيف الأسطورة وسذاجتها ولم يستطع أن يُحقق مثل هذاالكشف في الكتب السماوية بل جاء مؤيداً لما كان فيها فظهر كأنه جاء ليُثبتَ صحتها. والإنسان مُغرمٌ دائماً بالنتائج، فكلما إكتشف حقيقةً دينية بإثباتٍ تقني زاد تعلقه بكتاب الدين الذي مهمته الإيمان بالله.

***

لقد مرَ الدين السماوي بمرحلتين: مرحلة الدين على يد النبي، ومرحلة الدين على يد الرسول. وكل رسولٍ نبي لكن ليس كل نبيٍ رسول إنطلاقاً من أن النبي يكون بدون كتاب منزل فيما يكون الرسول - حتماً - بكتاب منزل.

فرجال الله والدعوة إلى توحيده في المرحلة الأولى كانوا أنبياء فيما كان رجال الله في المرحلة الثانية رُسُلاً. إن النبي هو المبعوث في بيئة مُحددة بمجتمعها ولغتها وثقافتها وزمنها، فيما يكون الرسول مبعوثاً إلى مجتمعات لا يُحددها لون أو لغة أو عِرق.

ولما كان الكتاب السماوي هو الأصل في التوثيق، صار الرسول أكثر إمتداداً وأثبت مقاماً وأخلد أثراً من النبي. إن لكل نبيٍ آيةً في البرهان على الإيمان مثل عصا موسى وناقة صالح وهدهد سليمان ونجمة داود، وإن لكل رسول آيةً في البرهان ولكنها آية أكثرُ ثباتاً وخلوداً عن الدهر كالتوراة عند موسى والإنجيل عند عيسى والقرآن عند محمد (أكثر ثباتاً وخلوداً ذلك لأنها كتاب).

إن الأقوام التي كانت تُشاهد النبي المبعوث إليها كانت تستخدم العين في رؤية إعجاز نبيها حيث لم يتسنَ ذلك لأقوام بعدها مما جعل تلك الدعوات وآثار هؤلاء الأنبياء محواً سرعان ما ينسى.

لكن الأقوام التي قرأت ما أُنزل على رسولها آمنت وظل هذا الكتاب سبباً لإيمان أقوام تأتي بعدها، فانتقلت حاسة المشاهدة (العين) من رؤية الرسول إلى إن مات إلى رؤية أثرهِ (الكتاب المنزل) حتى بعد أن مات. هذا هو التدرج الذي أشرنا إلى ضرورة حصولهِ للإنتقال بالإنسان من الفكر الإبتدائي الى الفكر الناضج.

***

لقد عانى أنبياءُ المرحلة الأولى الكثير من التشكيك في صدقيتهم عند أقوامهم. وسبب هذا التشكيك، في ضمن أسباب كثيرة، هو مزج الناس بين آيات إعجازهم وقدرات أخرى كان يقوم بها السَحَرةُ والكَهنةُ على نحوٍ جعل هذه الناس لا تُفرقُ بين النبي والساحر وبين الدعوة والإدعاء.

ولولا تفوق آية النبي على آيةِ الساحر بمددٍ من الله لظلَ الأمر متلبساً. وإذا أردنا أن نضيف سبباً أخر لهذه المعاناة لقلنا أن إصطفاء الله أنبياءهُ من بين الفقراء والمستضعفين جعل تلك الأقوام تشكِكُ في هذا الإصطفاء طريقاً إلى تكذيب هؤلاء الأنبياء.

ومثلما عانى هؤلاء في المرحلة الأولى، كذلك عانى رُسُله في المرحلة الثانية. إن الكتاب السماوي هو الذي أثبت وحدانية الله عبر القنوات الآتية:

1- الكتاب السماوي باقٍ حتى بعد موت من تلقاه من الرسل فاستمر بذلك مؤثراً وفاعلاً.

2- الكتاب السماوي يحكي للناس ما كان وما سيكون، فإذا صار في مقدور مَن يُشكِكَ في ما مضى على أنه تسطير وتخريف فإنه ليس في مقدورهِ أن يشكك في ما سيأتي من حقائق يُثبتها البحث العلمي والتجارب اللاحقة.

3- الكتاب السماوي يحتوي على ثوابت النص في القواعدالحياتية الثابته وعلى متغيرات النص في الحقائق التي تنتظر من يكتشفها.

4- الكتاب السماوي يملك قدرة الإيقاع بضعفاء الحُجة والمخيلة. فقد يقتنع مُشككٌ ما بإمكان كائنٍ غير الرسول أن يكتب بعض كلمات الكتاب الذي أتى به رسوله لكنه سرعان ما يصطدم بنصٍ يحمل من الإعجاز المستقبلي ما يجعل المُشكك يقتنع بأن أيًاً من البشر بمن فيهم الرسول لا يستطيع الإتيان بذلك.

***

إن المٌشكك في الرُسل هو المُشكك في الكتاب السماوي، والمُشكِك في هذا الكتاب هو المُشكِك في وحدانية الله المُرسل. ولو أردنا أن نفحص الآليات الدفاعية التي يستعين بها المُشكِك على إدعاء إنكارهِ للكتاب السماوي لوجدنا الآتي:

1- الرفض Rejection: وتنطوي هذه الآلية على وجود شخصيةٍ مشاكسةٍ لجوجة تتخذُ من العناد سلوكاً لها حتى لو ظهرت أمامها الحقيقة. ومثالُ ذلك: مريض الهوس الإكتئابي، والذُهان الزوري، وضحايا عُقدة أوديب.

2- التسامي Sublimation: ونعني به مَيل الإنسان إلى الإرتقاء على ضَعفه وشعوره بالنقص في محاولةٍ منه للتعويض عن أصغريتهِ بإنكار القوة التي تعلوهُ (لا يعترف بالههِ في محاولةٍ بأن يكون هو الإله(.

3- الحَسد Envy: هناك نفوسٌ مجبولةٌ حتى على حسد الله في مقامه.

4- التبرير Rationalization : ونعني به محاولة الفرد إيجاد عُذر لما يقوم به. والمُشككُ يقومُ بالتبرير المُخطىء للكتاب لكي لا يجعل لأخطائه السلوكية مرجعاً يعاقبه على أخطائه. (فتجاهُل القانون يُسهل على المجرم قيامه بجريمته). ومثال هذا الذرائعي: الشخصية غير الإجتماعية Antisocial Personality ، الفصامي، الشاذ السلوكي بما فيه الشاذ الجنسي.

5- الترددية Ambivalence: ونعني بها الآلية التي تقوم على عدم القدرة على إتخاذراي واحد أو قرار واحد. فمرةً يؤمن ومرةً يعترض. ومثال ذلك: مريض الأفكار القسرية OCD، ومريض القلق، ومريض الإكتئاب المزمن، ومريض الرهاب Phobia.

***

ربما يقود ما أوردناه عن الكتاب السماوي تفكير القارىء الى إبداء سؤال مهم جداً. نعني بذلك سؤالاً لنفسه أو لنا: هل يعني وجود الإنسان غير المؤمن بالكتاب السماوي أنه إنسانُ مريضٌ نفسيٌ دائماً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لايستطيع الكتاب السماوي أن يشفي مرضى النفس، وهم ملايين، من أمراضهم فيشفون ويصيرون مؤمنين؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يعني هذا على أن الكتاب السماوي لا يُخاطب إلا الأصِحاء فيؤمنون به، مهملاً في ذلك جانب المرضى؟ نجيب عن هذه التساؤلات التي تؤسس لسؤال واحدٍ بالآتي: إن كل من لا يؤمن بالله وعبر كتابه السماوي مريضٌ في ظرف معين في مكان معين وفي زمني معين بنوعٍ من أنواع المرض النفسي.

والكتاب السماوي لا يشفي مَن لا يطلب الشفاء، مثلُهُ في ذلك مثلُ المريض الذي لا يزور العيادة النفسية ولا يُقبل على علاجه فيظل مريضاً والعِلةُ ليست في الطب ولا الطبيب إنما في المريض نفسِه.

والكتاب السماوي في محاورته النفس البشرية مثلُهُ مِثلُ دوائر الصحة النفسية التي تطبع النشرات الطبية التي يقرؤها الأصحاء فيزدادوا صِحةً ولا يقرؤها المرضى فيزدادوا مرضاً.

والفرد الذي لا يؤمن بالله يفتقر إلى واحدٍ من إثنين: الإدراك السليم والعواطف السليمة فينشأ من ذلك سلوكٌ يطبعه بطابع المرض.

***

سيعترض علينا بعضهم بالقول: إن هناك عظماء في التاريخ الإنساني أبلوا في المعرفة بلاءً حسناً وقَدموا أنفسهم شموعاً تحترق للبشرية وكانوا في غير حاجةٍ إلى الإيمان.

نجيب عن هذا الإعتراض بالقول: إن العطاءالفكري لا يعني دائماً الخُلو من الأمراض النفسية. فهناك عظماء يصدق عليهم قول من يعترض، لكنهم كانوا يعانون من دواخل غير مستقرة.

فكثيرٌ من هؤلاء لم يستطع أن يُحقِقَ استقراراً نفسياً وسعادةً حياتيةً على الرغم من ضخامة عطائه الفكري، وهذا هو ما قصدناه بقولنا أن الإيمان بالله وكتبه السماوية هو السبب في إمكان زوال المرض من هؤلاء، ونودُ أن نذكر قائمةً بأسماء بعض العظماء التي أوردها كتابٌ صدر عن جامعة أوكسفورد في الطب النفسي حيث أشار إلى اسمائهم بأنهم مرضى على الرغم من جلال عطائهم؛ فمن الفصاميين:

1- فالسوف فومش نيجنسكي: ملك الرقص.

2- ليونيل ألبرج: الرياضة.

3- روجر باريت: الموسيقى الشعبية.

4- جون فاربس ناش: عالم الرياضيات ورابح الجوائز الكبرى.

ومن المصابيين بثنائية القطب (الهوس الإكتئابي) من المشاهير: -

1- وليام بليك.

2- نابليون بونابرت.

3- أجاثا كريستي.

4- ونستون تشرشل.

5- ت.س. آليوت.

6- سكوت فيتسجيرالد.

7- كاري كرانت.

8- فيكتور هوغو.

9- روبرت لي

10- ابراهام لنكولن

11- صموئيل جونسون

12- مارلين مونرو

13- موزارت

14- اسحق نيوتن

15- إدغار آلن بو.

لقد أشارت السير الذاتيه لهؤلاء العظماء إلى معاناتهم من أمراضهم العقلية والنفسية ولم ينفع عطاؤهم الفكري والفني في شفائهم. فهم بذلك ليسوا دليلاً على أن عظمتهم سعادةُ لهم في مقابل السعادة التي يمنحها الإيمان الذي لم يكن الكثير منهم يتمتع به.

 

د. ريكان إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم