صحيفة المثقف

في رحيل تلميذ بول ريكور ومترجم أفكاره

قاسم المحبشيكثيرون هم العرب الذين يجيدون التحدث باللغات الأجنبية وكثيرون هم الذين ترجموا بعض نصوصها إلى لغتهم الأصلية في مختلف الحقول المعرفية؛ العلمية والثقافية والأدبية والفنية. فكم هي الكتب المترجمة إلى المدونة العربية لا أحد يعرفها؟ الترجمة ليستِ مجرد نقل لِنَصٍّ من لغة إلى أخرى، بل هي نقل لرؤيةٍ فكرية ـ جمالية، من ثقافة إلى أخرى، بما تحمله هذه الرؤية من قِيَم، وتعبيرات، هي، بالضرورة، غير ما هو موجود في ثقافتها، أو يختلف عنه، من حيث القيمة، ومن حيث المعنى وهي بذلك عين الثقافة ووسيلة التثاقف بين الحضارات والشعوب واداة التواصل والاتصال والتفاهم مع الأخر. والآخر مرآة الذات. بهذا المعنى يكون

المترجم مبدعا للافكار ومنتجا للمفاهيم " بما يُقْدِم عليه من اختيار، وما يكون اطَّلَع عليه، في اللغة التي يُتَرْجِم عنها من معطيات جديدة إلى اللغة المترجم اليها إذ يفترض بالمترجم قبل إطلاق أي حكم نافذ على مجتمع آخر  أن يبلور الباحث موقفا واضحا قدر الإمكان تجاه مجتمعه نفسه وسرعان ما سيكتشف أن الطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب عن الذات إنما يتم بالدراسة المقارنة  لذاته في أثناء إنهماكها برصد الآخرين ، وبأن يعي أنماط التشوهات التي ينطوي عليها هذا الموقف بالضرورة، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الناجعة إلى رصد الذات. وليس هناك ما هو أصعب من ترجمة المفاهيم والأفكار المجرد من لغة وسياق ثقافي إلى لغة وسياق ثقافي مغاير ذلك لأن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية الثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق تلقي..الخ ولا يجيد ترجمة المفاهيم الفلسفية إلا الفلاسفة أو محبي الفلسفة وهكذا كان الأستاذ إمام عبدالفتاح إمام مترجم هيجل الأبرز فيلسوفا عربيا وكان عبدالرحمن بدوي مترجم الفلسفة اليونانية والوجودية فيلسوفا متمكنا من ادواته وكان مطاع الصفدي مترجما متمكنا من الفلسفة الفرنسية حينما ترجم كتب ميشل فوكو ومجاهد عبدالمنعم مجاهد مترجم سارتر وغيرهم ومن بين أهم المترجمين العرب المعاصرين كان المفكر الفلسطيني جورج زيناتي من مواليد 1935حيفا، وقد حصل على دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة باريس، فرنسا، عام 1972، وكانت أطروحته الرئيسة بإشراف بول ريكور، أما أطروحته الثانية فكانت حول ابن باجه الأندلسي. كان جورج زيناتي يتقن اللّغات العربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية، ويلم باللّغات اللاتينية والألمانية واليونانية.عمل أستاذًا جامعيًّا في لبنان وزائرا ورئيس تحرير مجلة الباحث في فرنسا، وله عدة مؤلفات بالعربية والفرنسية، وعدد كبير من الترجمات المهمة عن الفرنسية منها : انفعالات النَّفس (رينيه ديكارت)؛ تاريخ بيزنطة (جان - كلود شينيه)؛ الفلسفة الأخلاقية (مونيك كانتو سبيربر وروفين أوجيان)؛ الذات عينها كآخر والذاكرة، التاريخ، النسيان (بول ريكور). عرفته من هاذين الكتابين الأخيرين لبول ريكور من ابداع الترجمات واجودها

وقد وجدت في كتاب الذات عينها كآخر افضل تناول للهوية والغيرية. ويميز الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بين معنيين للهوية: ف"الهوية بمعنى الشيء عينه (idem) والهوية المطابقة (Sameness) بالإنجليزية بمعنى الهوية المتطابقة بإحكام، أو المتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المطلق مع الذات في جميع الأزمنة وجميع الأحوال"

صدمت اليوم بنبأ رحيل المترجم المفكر العربي الفلسطيني جورج زيناتي لروحة السلام والطمئنينه.

 

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم