صحيفة المثقف

إبن المعتز وخراب سامراء!!

صادق السامرائيإبن المعتز(247 - 296) هجرية، المولود في سامراء، وغادرها إلى المدينة منفيا مع جدته، بعد مقتل والده سنة (255) هجرية،  ثم عاد إليها في زمن عمّه المعتمد على الله (256 -279) هجرية، وعاصمة الخلافة إنتقلت إلى بغداد سنة (279) هجرية.

أي عاش في سامراء طفولته حتى الثامنة، غاب عنها بضعة سنوات (2 أو 3)، أو ربما أقل، ثم عاد إليها في سن العاشرة أو الحادية عشر، وبقي فيها حتى تجاوز الثلاثين من العمر.

فسامراء مرتع طفولته وصباه وشبابه، وارتبط بها وإنتمى إليها وتعلق بها، وتألم كثيرا لخرابها وغياب معالمها، فما بقي منها ما يحي ذكرياته فيها.

فقال في خراب (سر من رأى):

"قد أقفرت سر من رأى ...فما لشيئ دوام

فالنقض يُحمل منها...كأنه الآجام

ماتت كما مات فيلٌ...تُسل منه العظامُ"

وكان يزورها بين فترة وأخرى يتفقد ما آلت إليه مدينته التي ولد فيها وترعرع، وهكذا وجدها بعد بضعة أشهر من إنتقال العاصمة إلى بغداد، فقد صال عليها السرّاق الرعاع الهمج وتناهبوها بلا هوادة، فاستباحوا القصور وما فيها من المعالم والبنايات، حتى جوامعها تعرضت للسرقة والتخريب والدمار.

فالمدينة صارت قفراء خاوية، ويصف مشاهداته للناس وهي تهدم بناياتها وتحمل أنقاضها، وتنقله إلى أماكن أخرى لتبني به بيوتا وربما زرائب للحيوانات، ويراها كالفيل الذي مات ويستل منه المفترسون العظام ويتركونه جيفة متعفنة.

وقال في (سرّ من رأى) بعد أن خرِّبَتْ وذهب أهلها:

"أ لم ترني ربطتُ بشرِّ أرضٍ...فهل أنا واجد منها إنفلاتا

وصارت (سر من راى) (ساء ما راى)...فلا سقيت ولا كسيت نباتا

وإذا المرء أصبح سائلوه...وقالوا كيف بتَّ وكيف باتا

يخليه المجاور وهو دان...ويأتيه إذا ما اللص فاتا

وتمطرنا لياليها بعوضا...يذب النوم عنا والسباتا

ويلقانا الذباب إذا عدونا...فيفري الجوف وثبا والتفاتا

ونسلك في شوارع خالياتٍ...أحل الله فيهن الشتاتا

وحيطانٍ كشطرنجٍ صفوفٍ...فما تنفك تضرب شاهَ ماتا"

وفي هذه القصيدة يشير إلى إرتباطه بالمدينة وتعلقه بها، فهو المُبتلى بمدينة ولد فيها وتربّى، ولا يستطيع أن يتحرر من الإنتماء إليها.

ويقر بأنها (سر من رأى) صارت (ساء من رأى) وتعرضت لإهمال مروع، فلا من إهتمام بها ولا من رعاية لأشجارها ومروجها الخضراء، كما يؤكد أنها ققدت الأمان وتمكن منها الخوف وتسلطت عليها الجماعات المتوحشة، حتى أن المبيت فيها مخاطرة كبيرة.

ويشير إلى هيمنة اللصوص وتكالبهم عليها، فالجميع صار همهم تدميرها وإنتهابها، الذي أفجعه منظره وما تسبب من إفناء لمدينة أجداده، حتى لأظنه كان يتخيل مشاعر جده المعتصم لو شاهدها على ما هي عليه من الدمار.

ويصف شوارعها التي كانت تعج بالحياة، وإذا هي خالية موحشة مرعبة تصفر فيها الرياح، ويتسابق السراق إلى مزيد من دمارها.

ومن العجائب أن الناس إنهمكت بالتهديم (التفليش)، فهدموا قصورا ذات جمال فاره ليبنوا بيوتا بائسة، وهذا من عجائب سلوك البشر، فعقب أي سقوط تنطلق نوازع النهب والسلب والإستحواذ والتدمير والعبث القاسي المرير، وهو سلوك يتكرر عبر الأجيال.

وما أشار إليه إبن المعتز يؤكد أن الناس الرعاع الهمج هم الذين خرّبوا مدينة (سر من رأى) وتناهبوها، وفتكوا بها فتكا لا يصدق، والذين يدّعون أن الذين خربوها أقوام آخرون لا يملكون الدليل الواضح على ذلك.

كما أن إبن المعتز (إبن سر من رأى)، لديه قصائد أخرى يرثي فيها مدينته التي أحبها ونشأ فيها، ويريد أن يستحضر ذكرياته، لكن الخراب أحال بينه وبينها، وقد عبّر فيها بصدق عن إنتمائه للمدينة وتفجعه بما أصابها من الدمار السريع.

وهو بما تركه لنا من قصائد يؤكد على حتمية دمار المدينة من قبل الذين كانوا فيها، والذين داهموها بعد أن هُجرت وتُركت خاوية على عروشها، ففتك بها الرعاع الذين جاؤوها من كل حدب وصوب!!

فلا تقل أن المدينة خربتها قوة خارجية، بل أن خرابها كان بقِوى داخلية ومحلية متوحشة جاهلة حمقاء!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم