صحيفة المثقف

لا تقتلوا الثقافة..!

يسري عبد الغنيتقول لكم: الثقافة هي دماء المجتمع تغذيه باستمرار لإدامة تبض الحياة فيه، وعندما تغيب الثقافة يتوقف نبض حياة المجتمع، إذ يمكن أن نصف المجتمع، أي مجتمع، هو الجسد، والثقافة هي القلب النابض له، وفي الوقت نفسه هي العقل المخطط للدولة والمجتمع، وفي هذه الحالة تجمع الثقافة بين العقل والإدراك، وبين السبل والطرائق التي تديم حياة الشعب، ويمكن أن نسمي ذلك مجازا، بإدامة نبض حياة المجتمع.

ويمكن أن نتصور ببساطة، ماذا يحدث لجسد ما، عندما يتوقف نبضه، وينطفئ اداركه إلى الأمور، فهكذا جسد لا شك سيكون كتلة جامدة ساكنة في مكانها، حيث يتحرك الكل إلى أمام، فيما تبقى الكتلة الخامدة، هامدة وساكنة في مكانها، الى أن تجد وتسعى كي تستعيد تبضها وعقلها، ونعني بهما الثقافة التي تعيد الشعوب الميتة إلى الحياة، لذلك يرى المفكرون والعلماء والفلاسفة أيضا، أن المجتمع بلا ثقافة، هو ببساطة مجتمع بلا رأي.

وقبل الدخول في صلب الموضوع، لابد أن نمر أولا على معنى الثقافة، ماذا تعني بالضبط، إن الثقافة كما يقول المعنيون، هي كلمة قديمة وعريقة في العربية، فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وفي المعجم "وثقف نفسه" اي صار حاذقا خفيفا فطنا، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري، وقد اشتقّت هذه الكلمة منه حيث أن المثقف يقوّم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم برْيهِ.

ولطالما استعملت الثقافة في عصرنا الحديث هذا للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات، فالثقافة لا تعد مجموعة من الأفكار فحسب، ولكنها نظرية في (السلوك)، مما يساعد على رسم طريق الحياة إجمالا، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، والثقافة أيضا هي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات، بما تؤمن به من عقائد، وتتمسك به من قيم، فضلا عن اللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب، وإجمالا فإن الثقافة هي كل مركب يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، لأمة أو لشعب ما.

ويمكن إعادة السؤال أعلاه بالصيغة التالية، هل تموت الثقافة؟، الجواب يكون بنعم يمكن أن يحدث وتموت الثقافة، فهي تشبه الكائن الحي، تحتاج إلى رعاية تامة، وعندما تغيب هذه الرعاية والاهتمام والمتابعة، لأي سبب كان، فإنها تكون عليلة، وتمرض وتؤول مع مرور الوقت إلى الموت، أما كيف ومتى تموت الثقافة، فلعلّنا جربنا موت الثقافة فعلا!.

إننا نعيش في مجتمعات للأسف لا تفهم معنى الثقافة في الحياة، ولا دورها في تطوير الأمة والمجتمع، بل نحن نستبعد أي دور للثقافة في بناء الدولة، وخاصة من هو معني بالثقافة ويعرفها جيدا، ونعني بذلك النخب، بل ونؤكد على أن النخبة السياسية القائدة للدولة والمجتمع، هي أول من لا يعترف بالثقافة ولا يهم بها ولا يرعاها، ولذلك لا يشعر بموتها للأسف.

في مجتمعاتنا ودولنا، هناك قطيعة بين الثقافة والنخبة السياسية، سببها القادة السياسيين أنفسهم، فهؤلاء أما لا يهتمون بالثقافة ولا يرعونها بسبب جهلهم لها ولدورها في الحياة، وأما أنها يفهمون هذا الدور جيدا، لكنهم يتخوفون من الثقافة، كونها تضخ دماء الوعي في الفرد والمجتمع، وهذا يعني أن الطبقة السياسية سوف تكون مهددة بوعي المجتمع.

فالفرد الواعي والأمة المثقفة، لا تسمح للسياسي بالتلاعب بها، ولا التجاوز على حقوقها، وفي هذه الحالة لا يرغب بعض القادة السياسيين، لاسيما المستبدين والطغاة منهم، أو حتى أولئك الذين يعلنون إنهم ديمقراطيون، لكنهم يتحولون بسبب جهلهم، إلى حالة العداوة والكره للثقافة، كما حدث ويحدث في الحكومات القمعية، حيث يتراجع دور الثقافة، ويموت تماما، فيواصل الحاكم الطاغية تربعه على عرشه، مستفيدا من حالة الجهل والتخلف والمرض، التي تصيب الأمة والشعب، بسبب موت الثقافة.

كذلك من الأسباب التي تؤدي إلى موت الثقافة، ضعف النخبة المثقفة نفسها، فعندما يتحول المثقف من رائد وقائد للشعب والأمة، وعندما يتخلى عن هذا الدور، إلى دور التابع للسياسي والمنفّذ لمآربه، والمروّج لأفكاره والمساعد له لقمع الشعب، كما حدث ويحدث ذلك في ظل الحكومات القمعية، عند ذاك لا يبقى أي دور للثقافة في تطوير وحماية المجتمع من البطش الحكومي، وهنا يكون المثقف غير جدير بحمل هذه الصفة، كونه لم يقف إلى جانب شعبه في التنوير والتوعية الفكرية وما شابه. 

في هذه الحالة، تموت الثقافة، ويتحول المثقف من الأصالة إلى الزيف، وتسوء حياة الأمة، فيما يزداد بطش الحكومة، وتتضاعف موجات القمع والإقصاء والتهميش، ويعاني الشعب من الجهل والجوع والحرمان، بسبب موت الثقافة، التي لم تجد من يرعاها كما ينبغي، ليس فقط من الساسة، وإنما من الذين ينتسبون لها زورا وبهتانا.

بعودة الثقافة إلى الحياة، يعود كل شيء إلى مكانه الصحيح والمناسب، وهنا يمكن القول بصورة حاسمة، أن الثقافة هي الدورة الدموية الداعمة لوجود الأمة، وهي التي تغذيها بإكسير الحياة، فأينما وُجدت الثقافة، حلّ الازدهار وانتشر النماء، وتضاعف التطور، وازدهرت حالات الوعي الفكري، لتصل إلى أبعد نقطة في المجتمع، ولكن السؤال كيف يمكن أن نحيي الثقافة، بل السؤال الأهم هو كيف نحميها من الموت حتى تبقى حياتنا مصانة من خطر السكون والتخلف؟.

فكما يقول أهل الشأن، بعد التجارب التي خاضوها، أن كل مجالات التطور تحتاج إلى غذاء الثقافة، ولذلك علينا جميعا، وكل من يهمه أن يعيش كريما محصّنا من الفقر والمرض والتخلف، ينبغي أن يعلن أنه مع الثقافة، ومع الفكر المتنور والوعي الثاقب، حيث يكون بمقدورنا العيش في بحبوحة (الحقوق والحريات)، مع درء خطر التفرد بالسلطات.

لكي نقاوم ما يراد بالثقافة  علينا القيام بخطوات إيجابية ، وعلى الجهات المعنية الشروع معنا في تنفيذها، ومنها:

- التمسك بالثقافة والوعي مهما كانت أساليب العداء التي يذكيها ويبديها بعض السياسيين للثقافة والمثقف الحقيقي.

- رفض التفرد بالسلطة جماهيريا، وإتاحة التعددية، وجعل التداول السلمي للسلطة منهجا لا نحيد عنه مهما كانت المبررات.

- بذل ما يكفي من جهود فردية وجماعية تمنح الثقافة حصانة ضد الإهمال.

- فضح المثقفين الذين لا تهمهم الثقافة بقدر ما تهمهم مصالح المادية الضيقة.

- بذل ما يكفي من جهود، لرأب الصدع وتقليل الفجوة بين السياسي والثقافة.

- إقناع القادة السياسيين، بأن قيادة الشعب المثقف أفضل بكثير لهم ولمصالحهم ومستقبلهم السياسي، من قيادة المجتمع غير الواعي.

- وضع خطط ثقافية عملية لمنح الثقافة دور فعلي واضح في حركة حياة الأمة والمجتمع.

- الكف عن النشاطات الثقافية الشكلية التي يقوم بها مثقفون ومؤسسات ثقافية من باب إسقاط الفرض.

- حث الجميع على احترام الثقافة والنظر إليها على أنها بمثابة طريقة صحيحة لحياة الفرد والأمة.

- التعاون العلمي العملي المخطط سلفا والقابل للتنفيذ، لنشر الثقافة والوعي أفقيا لتصل إلى شرائح المجتمع كافة، وعدم حصر الاهتمام بالنخب الفوقية فقط .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم