صحيفة المثقف

الزّمن في الفكر الإسلامي.. من الماهية إلى البناء الحضاري

يعتبر الزّمن فضاء للفعل الإنساني حيث تتأطّر داخله مختلف أنشطة الإنسان، وقد اختلفت تعريفاته باختلاف المقصد في ذلك، فهو المدّة القابلة للقسمة، وهو "متجدّد معلوم يقدّر به متجدّد ّآخر موهوم"[1].

لقد مثّل الزّمن مقياسا لتأريخ الأحداث المختلفة منذ بداية الإنسانيّة على وجه الأرض، إلاّ أنّ المجتمعات البدائيّة لم توله اهتماما كبيرا، غير أنّهم كانوا  يعتمدون على الأحداث الكبرى للتّأريخ كحرب البسوس أو عام الفيل وغير ذلك .

مع ديانة التّوحيد الأمر أعمق بكثير صراحة، حيث ربط القرآن الكريم وعي هذا الإنسان بالزّمن وجدانيّا، على اعتبار وأنّ إحساس هذا الأخير بحركة ما حوله يجعله بديهيّا يدرك الزّمن، غير أنّه إذا ما فقد إحساسه بهذه الحركة فَقَدَ بالتّالي إحساسه بهذا الزّمن، والمثال واضح جلّي في قوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[2].

كما قد وجّه القرآن الكريم الفكر البشري إلى الحركة الدّياليكتيّة لمختلف المحدثات كحركة الكواكب والتّداول بين اللّيل والنّهار وتعاقب الفصول وغير ذلك، حتّى يكتشف أنّ الزّمن متحرّك غير ثابت وحركته هذه تدلّ على نسبيّته، ومنه قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴿37﴾ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿38﴾ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴿39﴾ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[3]

وإذا ما أمعنّا في آي الذّكر الحكيم وجدنا أنّ فكرة الزّمن قد وردت عل مستويين:

المستوى الأوّل اصطلاحي : ويتجلّى ذلك من خلال ورود المصطلح ضمن عدّة تسميات منها " السّرمد " " الآن"  " الحين" " المدّة " " الأمد" " الأبد" " الخلد"  "الوقت" " العصر" و"الدّهر" .

المستوى الثّاني فلسفي : حيث أثار القرآن الكريم قضايا فكريّة فلسفيّة متعلّقة بالزّمن، قامت على أساسها عدّة دراسات كلاميّة قسّم الزّمن خلالها إلى زمن مطلق وآخر طبيعي، أين طُرحت تبعا لذلك عدّة إشكالات منها مسألة القدم والحدوث وفكرة التّقدّم والتّأخّر الزّماني .

تأتّت مختلف هذه المسائل من المعنى المرادف لمصطلح الزّمن وهو الدّهر، على اعتبار وأنّ لفظ الدّهر أعمّ وأشمل وأعمق في المعنى من الزّمن.

بالتّالي يحيلنا ما سبق مباشرة لطرح مفهوم الدّهر الذّي اتُّفق أنّه إشارة إلى امتداد وجود ذات من الذّوات وهو ينقسم إلى قسمين مطلق ونسبي .

فأمّا الدّهر المطلق فهو وجود ذات لا ابتداء لها ولا انتهاء لها، لم يسبقها العدم ولن يلحقها العدم وهو الله سبحانه تعالى، وقد أخرج البخاري في صحيحه الحديث القدسي المشهور عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم " يسبُّ بنوا آدم الدّهر وأنا الدّهر بيدي اللّيل والنّهار"[4].

وأمّا الدّهر النّسبي فهو وجود ذاتٍ ذاتُ بداية وذاتُ نهاية وهو الذي يطلق على مختلف الحوادث والمخلوقات.

وبناء على ما سبق، يمكننا الإشارة إلى الأهمّية الكبرى للزّمن والتّي تجلّت من خلال آيات الذّكر الحكيم في عدّة مواطن، الأمر الذي حدا بالفخر الرّازي لاعتباره أشرف حتّى من المكان، حيث قال " وقد بيّنا أنّ الزّمان أعمّ وأشرف من المكان فلمّا كان كذلك، كان القسم بالعصر قسما بأشرف النّصفين من ملك الله وملكوته"[5].

ربّما كان تقديمنا لمسألة الزّمن تقديم ديني من جهة أو كلاسيكي من جهة أخرى، لكنّنا صراحة لا نبتغي من هذا المقال الوقوف عند هذا الحدّ، وإنّما أردنا مداعبة ذاكرة ووجدان أفراد مجتمعنا الإسلامي الذين مات فيهم الإحساس بأهمّية الزّمن حتّى رانت مظاهر التّخلّف على جلّ المستويات الحياتيّة.

وللقارئ بعد هذا أن يطرح سؤالا مشروعا ومشروعا جدّا إن شئنا، وهو لماذا فقدت المجتمعات الإسلاميّة الإحساس بأهمّية الزّمن حتّى صار يومها الحاضر كيومها المنقضي؟

الإجابة سهلة وبسيطة جدّا وبإمكان أيّ كان أن يُدليَ بها، فَهَمُّ هذا المسلم الأوّل والأخير توفير لقمة العيش وإذا ما توّج يومه بعشاء يسكت أفواه أفراد العائلة فهذا إنجاز كبير في حدّ ذاته، ونحن لا نبالغ في ذلك بل العكس تماما وقد يدعم كلامنا هذا المؤشّرات والنّسب المرتفعة للفقر داخل البلدان الإسلاميّة، وينعكس ذلك أيضا من خلال تدنّي مستوى ناتج الأجر الخام للفرد والارتفاع المشط للمعيشة بما ينعكس سلبا على أفراد هذه المجتمعات ليصبح ما سبق ذكره إنجاز جبّار في هذا الخضم .

ولكنّ السّؤال الأجدر من سابقه والأولى بالطّرح هو، لماذا صار حال المجتمعات الإسلاميّة في الحضيض وفي الدّرك الأسفل لبقيّة المجتمعات الأخرى الغير مسلمة؟ أوَ ليست ديانة الإسلام هي الدّيانة العظمى التّي فتحت للإنسان أبواب الحضارة على مصراعيها وأخرجته من مستنقع التّخلّف والعبوديّة وفتحت له البصر والبصيرة للبحث والتّقصّي والمعرفة والعلم ؟

ولماذا صار علماء الإسلام والموروث الإسلامي حَكايا يتشدّق بها المسلمين ليُعيدوا أمجاد الماضي ضمن تاريخ وقصص تجبُرُ خواطرهم ؟

إنّ الأجوبة الحقيقيّة على مختلف هذه الأسئلة نصفها معلوم ونصفها الآخر مجهول أو لنقل أنّه مجهول عند الأغلبية ومعلوم عند أقلّية، وللطّبقة السّياسيّة الشّأن الكبير في هذه النّتيجة.

إنّ أهمّية الوعي بالزّمن في بناء الحضارة مسألة جدّ مهمّة، على اعتبار وأنّ الحضارة مرحلة متقدّمة من النّمو الفكري والثّقافي والاجتماعي، وقد ذهب مالك بن نبي إلى أنّ مشكلة الحضارة التّي نعاني منها اليوم في مجتمعاتنا تتشعّب إلى ثلاثة مشكلات أوّليّة وهي مشكلة التّراب ومشكلة الإنسان ومشكلة الزّمن.

إنّ ثالوث الإنسان والتّراب والزّمن هو المقوّم الأساسي الذّي يوُلد أي حضارة أو ينفيها والإنسان يُمثّل الحياة والفهم الصّحيح أو الخاطئ لمسألة القضاء والقدر، ما يُؤثّر على الحركة والفعل الإنساني بالتّالي مدى الأخذ بسنن الحياة الكونيّة والاجتماعيّة بما يُساهم في تكريس قيم الزّمن في إرساء حضارة إنسانيّة كمفهوم مقدّس للزّمن باعتباره بعدا دينيّا.

ولا حضارة دون مكان، حيث يلعب الإطار المكاني دورا هامّا في إنتاج الفعل الإنساني، وهو ما قصده بن نبي بقوله "مشكلة التّراب"، فتسخير الأرض لصالح العباد والبلاد واستثمار خيراتها هو ما يبني حضارة أصليّة لمجتمع ما داخل حدود تراب وطن ما، الأمر الذّي يساهم في رفع قيمة ذلك التّراب وغلاء سعره، بالتّالي قوّة وأهمّية تلك الحضارة من عدمها.

ومن جهة أخرى فإنّ وعي الإنسان بالزّمن وبقيمته وبضرورة استثماره في العمل والإبداع يُشكّل العقليّة المطلوبة التّي تحترم هذا الحيّز الزّمني لتجعل منه فضاء للفعل والحركة ما يُؤسّس لمعالجة الفكر الإنساني والتّاريخ القادم.

 

الباحثــة سلوى بنأحمــــــد

تــونس في 24 جانفي2021

..........................

[1] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الشّركة العالميّة للطتاب ط1/1994 ،ج1، ص637.

[2] البقرة، الآية 259.

[3] يس، الأيات 36 /37/ 38/ 39.

[4]  البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب "لا تسبّوا الدّهر"، حديث رقم 5852.

[5]  فخر الدّين الرّازي، مفاتيح الغيب (التّفسير الكبير)، دار الفكر، ط1/ 1981 ج32، ص34.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم