صحيفة المثقف

سحر الحكاية في قصص علي القاسمي.. قراءة في قصة: الغزالة

صعوبة القصة القصيرة:

بادئ ذي بدئ ينبغي أن نعترف أنه ليس من السهل أن تكتب قصة قصيرة، فتجارب العديد من الكتاب تشهد أنهم استهلوا حياتهم الأدبية بفن القصة القصيرة، وحين استحوذ عليهم الفشل وضاقت بهم السبل تحولوا إلى الرواية والشعر أو ممارسة النقد. ولعل نجيب محفوظ في مصر وإدريس الناقوري ونجيب العوفي في المغرب خير مثال على ذلك ورغم ذلك نجد بعض الكتاب امتطوا صهوة التحدي وأصروا على سبر أغوار هذا الفن واقتحام أدغاله مؤثرين المعاناة والمكابدة على السير في طريق معبدة. ومن هؤلاء نجد الدكتور علي القاسمي الذي نشر في الآونة الأخيرة العديد من القصص القصيرة في المغرب وفي المشرق على السواء. والغريب أن النقد لم يلتفت إلى ما صدر عن هذا الرجل رغم توافر العديد من عناصر الجدّة والجودة فيه، وكأن النقاد أبَوا أن يعترفوا به كاتبًا للقصة القصيرة، وفضّلوا أن يبقى في المجال الذي مارسه وبرع فيه ونعني به علم المصطلح وما يتعلق به. وقد صدرت له مؤخراً قصة قصيرة بجريدة يمنية قدم لها الشاعر الناقد الدكتور عبد العزيز المقالح بعبارات شديدة الإيجاز لكنها تحمل من غنى الدلالة وقوة المعنى  ما ينطق صراحة بنضج القصة واستواءها فنيا وبتنوع واتساع ثقافة صاحبها. يقول الدكتور المقالح متحدثا عن تطور الفن القصصي في الوطن العربي بعد أن استبد به الإعجاب بقصة الدكتور علي القاسمي وبقصص أخرى :    " ويكفي أن أقلية متميزة بدأت تكتب القصة القصيرة بمفهومها الأحدث وقد تحولت كتابة القصة عند هؤلاء من هواية إلى رغبة عميقة وإلى محاولة تتجاوز السائد في هذا الفن ليس على الواقع المحلى وإنما على المستوى العربي أيضا وأمامي وأنا أكتب هذه الومضات نماذج ترقى إلى أفضل مستويات القصة القصيرة في الوطن العربي والعالم بعد أن تخلت عن العبارات الإنشائية والوصف الفضفاض، واعتمدت الكلمة  الدالة الموحية، وهذا ما يجعلني أكرر مقولات سابقة حاولت أن تؤكد على حقيقة أن القصة القصيرة هي قصيدة العصر الحديث وأنها استطاعت بما امتلكه كتابها من موهبة وثقافة واسعة أن يأخذوا أجمل ما في الشعر وهو اللغة وأجمل ما في القصة وهي الحكاية ويخرجوا إلى القارئ بهذا المزيج البديع الذي يسمى بالقصة القصيرة المعاصرة."

وفي الحق أن حكم الدكتور المقالح ليس وليد قراءة عجلى وسريعة ولا نابع عن محاباة ومجاملة.

تستوي قصة الغزالة على رقعة مكانية صغيرة إذ غطت ربع صفحة لا غير، أي  ثلاثة أعمدة لا يتجاوز طول الواحد أربعين سطرا وكل سطر يتكون من بضع كلمات  لا يفوق عددها خمسا أو ستا على الأكثر وعمودا رابعا يتعدى الثلاثة بقليل. وتستغرق قراءة القصة ربع ساعة في أكثر الأحوال، وهي تنهض على موقف واحد تناوله الكاتب بكثير من الكثافة والتركيز اللذين تتطلبهما وحدة الزمان والمكان وهو ما أهلها أن تتمدد على سرير القصة القصيرة بجدارة واستحقاق ومن دون حاجة إلى الاستنجاد بسرير بروست .

سحر الحكاية:

باسم الحداثة، قام الكثير ممن يسمون أنفسهم كتّابًا بإخراج نصوص تتشكل من جمل متناثرة لا رابط بينها ولا معنى لها وسمّوها قصصا قصيرة تروم بناءً حديثاً يسعى إلى التجاوز و خلخلة أنماط السرد التقليدي وزحزحة أفق انتظار القارئ.  وعوض أن تجتذب هذه القصص القارئ وتستهويه حدث العكس، لأنها تفتقد تلك المتعة التي كانت توفرها كل أنواع السرد والتي تنهض أساسا على الحكاية ، صحيح أن الأجناس الأدبية في حاجة إلى التغيير والتطوير، لكن من غير أن تتلاشى المبادئ الأساس التي تكوّنها . فالتجاوز يتم في إطار القواعد نفسها التي يقوم عليها كل جنس .

إن الدكتور علي القاسمي شديد الوعي بهذه المسألة لذلك تجده يحرص كل الحرص على إضفاء طابع الجدة على كتاباته من غير أن ينزلق في متاهات الغموض، متسلحا بكثير من تقنيات الكتابة القصصية، وتجده أيضا يصر على إمتاع القارئ وإهدائه لذة القراءة من خلال حكاية مشوقة يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل ويأخذ فيها العجائبي بعدا رمزيا.

العجائبية:

يحاول كثير من كتاب القصة والرواية توظيف العنصر العجائبي في أعمالهم الإبداعية ولكن نادرا ما ينجحون في ذلك لعجزهم عن جعله عنصرا فاعلا في السرد يلتحم مع باقي العناصر ليشكّل لوحة سردية واحدة ذات بناء متراص ومتكامل، فتتحول نصوصهم إلى عناصر متفككة تبدو عليها كثير من علامات التكلّـف والتصنّع، ولا تحمل أي مدلول ولا تبشر برؤية واضحة أو هدف مرسوم. وحين نقرأ قصة "الغزالة" للدكتور علي القاسمي نكتشف قدرته البارعة على تجاوز هذا المنزلق، ونقف على نجاحه في بناء عالم عجائبي تتقاسم فيه البطولة أجناس مختلفة، وتتصارع فيه الشخوص صراعا يجذبك إلى فضاء يشعرك بكثير من التردد والدهشة وأنت ترى الأحداث تنمو وتتفاعل في اتساق وانتظام، فيأخذ الواقعي والعجائبي بُعداً واحداً، وتمتزج الأشياء وتختلط وتصير شيئا واحداً، إذ تنمحي الحدود بين الإنسان والحيوان ويشتركان في القسمات والعلامات، ويتحد الثابت والمتحرك ويتساويان في الصفات والأفعال، وهكذا  لا نميّز في البطولة بين البطل الإنسان والغزالة والذئب، ولا نفرّق في المكان بين الصحراء والخيمة والمدينة ، إذ تسهم هذه العناصر جميعها في بناء القصة وتتضافر من أجل أن تعطينا نصا له نكهة خاصة تتأسس على مفهومي " الانقلاب والمفاجأة " (1)، وهذا يذكرنا بنصوص مبدعين كبار نذكر منهم أحمد بوزفور في رائعته " حدث ذات يوم في الجبل الأقرع " التي توجد ضمن مجموعته القصصية " النظر في الوجه العزيز" مع اختلافات طبعا في طريقة الحكي وملامسة القضايا والإشكالات.

إن الدكتور علي القاسمي نجح في تجاوز تقنيات الوصفة والمعايير وتجاوز مستوى الانتماء التصنيفي وخص نفسه بخطاب وصنعة تلفّظ منفردة من خلال علاقة تحويل لا علاقة استنساخ.(2)

البعد الرمزي:

إن المتأمل في قصة الغزالة يلاحظ ورود كثير من الرموز التي وظفت في أدبنا العربي قديمه وحديثه: الصحراء، والغزالة، والذئب، والدم. ومن الذين وردت هذه الرموز كثيراً في أشعارهم نذكر الشاعر العذري قيس بن الملوح الملقّب بمجنون ليلى والذي وجد النقّاد في أشعاره مجالاً خصباً لتجريب مناهجهم الحديثة وبخاصة المنهج النفسي. وإذا كان قيس بن الملوح قد نقل " مأساته وصوّرها في هذا المشهد الصحراوي صراع بين ذئب عاد وظبي  جميل مع انتصاره هو للظبي وانتقامه من الذئب" (3)، فإن الدكتور علي القاسمي قام باختزال الصراع الذي يعيشه الإنسان مع ذاته ومع الآخر في ظل التحولات السريعة والمعقدة التي يشهدها العالم المعاصر، تاركاً باب تعدد القراءات والتأويلات مفتوحاً على مصراعيه، ما دام النص قابلاً لكل الاحتمالات.

جمالية اللغة:

رغم أن الكاتب يؤلف باستمرار في مجال علم المصطلح وصناعة المعجم، ورغم دأبه على حضور الندوات واللقاءات العلمية وحرصه على إثراء النقاشات بآرائه، ورغم أن هذه المشاركات تتطلب لغة علمية دقيقة ليس فيها إيحاء أو مجاز أو رمز، فإن صاحبنا حين يخلع عنه بردة العالم ويرتدي لباس الأدباء، تتغير لغته أيضاً وتأخذ تلوينات وأشكالاً مختلفة وتصبح لغة مجازية فيها إيحاء وفيها انسياب وفيها ماء ورونق، على حد تعبير البلاغيين، إذ يتعذّر أن نصادف كلمة تخالف الذوق أو تعبيراً  معقداً أو فكرة غامضة؛ كل شيء يخضع لميزان السهولة والوضوح في غير إفراط، وانزياح في غير تفريط.

للاطلاع

الغزالة / د. علي القاسمي

 

الدكتور عبد الحميد العبدوني

أستاذ النقد الأدبي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في مكناس ـ المغرب

.................................

(1) إدريس الناقوري، ضحك كالبكا (الرباط: دار النشر المغربية، 1985) ط1،ص 120

(2) محمد برادة،  لغة الطفولة والحلم (الرباط: الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1986.

(3) محمد غنيمي هلال، "مجنون ليلى بين الأدب العربي والفارسي" في مجلة "فصول" العدد الثالث 1983، ص 151

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم