صحيفة المثقف

ورودُ الموسويّ في (لا أسمعُ غيري)

عبد الرضا عليلم تكتفِ أساليبُ كتابةِ الإبداعِ بتنوِّعِ الأشكالِ حسب، إنَّما تعدَّتْ ذلك إلى تعدُّدِ أشكالِ الرؤيةِ في فلسفةِ النصِّ... أي لم يعُدِ النصُّ شكلاً واحداً، إنّما أضحى أشكالاً، ورؤى⁽¹⁾.

وإذا كانت قصيدةُ التفعيلةِ هي الوليد الحداثيّ لقصيدةِ الشطرينِ، فإنَّ الشكلَ النثريَّ، ونعني بهِ  أساليبَ الكتاباتِ الشعريَّةِ الجديدةِ كـ (قصائد النثرِ المركَّز) أو (النثرِ الشعريّ) أو (قصيدةِ النثر) السائدةِ الآنَ هيَ الوليدُ المنفلتُ لقصيدةِ التفعيلةِ التي كانت تسمّى بـ (الحرَّة) أيام جيلِ الرادةِ: السيّاب، والملائكة، والبياتي، والحيدري، وغيرِهمِ، مع أنَّنا كثيراً ما كنّا نميلُ إلى تسميتِها بـ (النصِّ المفتوحِ) للتصادمِ الحاصلِ بين مفهومي (قصيدة) و(نثر).

ومع أنَّنا نؤمنُ أنَّ السائدَ ـ في الأعمِّ الأشملِ ـ  راكدٌ، وأنَّ المغايرَ ـ في الأقلِّ الأندرِ ـ متحرِّكٌ، إلاّ أنَّ المغايرَ المختلفَ قليلٌ جدّاً، لذلك كان تأكيدُنا على أنَّ القابضينَ على جمرةِ (قصيدة النثر) لا يتجاوزونَ عددَ أصابعِ اليدينِ، مع بعضِ الاستثناءاتِ القليلةِ . وورود الموسويُّ واحدةٌ من  أولئكَ القابضينَ والقابضاتِ على جمرتِها، مع أنَّها في (لا أسمعُ غيري) قد استخدمتِ الأسلوبينِ: المفتوحَ، والتفعيليَّ.

***

في(لا أسمعُ غيري) محاورُ عديدةٌ: أسلوبيَّةٌ، وفنيَّةٌ، منها ما كانَ جديداً، ومنها ما كان قد ظهرَ في مجموعتيها السابقتينِ: (وشمُ عقارب) و(هل أتى...؟)، وقد وجدَتْها هذهِ القراءة حريَّةً بالإشارةِ، وهي:

1 ـ تأخيرُ إكمالِ الصورة:

ونعني به أنَّ الشاعرةَ لا تكملُ الصورةَ التي تبتدئ بها إلا بعد استرسالٍ مقصودٍ يؤطِّرُ المشهدَ كاملاً، وهو أمرٌ نظنُّ أنَّ الذاتَ الشاعرةَ هي التي كانت وراءَ تأخّرِ الجواب على هذا النحوِ المقصودِ، ففي (نخلة الآه)⁽²⁾ ترسمُ الذاتُ صورةً لامرأةٍ لا نعرفُ من تكون إلاّ بعدَ إكمالِ جوانبِ المشهدِ السردّي:

ـ المرأةُ التي فرَّ الوقتُ من أصابعِها

استحالت نخلةً دون عذوق..

مرَّ الغائبونَ تحتَ ظلِّها دونَ أنْ تمنحَهم تمرةً

أو تُلقيَ عليهم تحيَّةَ المسافرِ

تلكَ المتَّشحةُ بالغيابِ والموتِ

تلكَ التي تُسبِّحُ  باسمِ الثُكلِ سرَّاً

وتضحكُ من قلبِها المعطوبِ بالذاكرة

تلكَ التي تعشقُ الفكاهةَ

لكنَّها تعرفُ جيّداً أنَّ العالمَ أبخلُ من أن يمنحَ فرصةً

لامرأةٍ دقَّ الفقدُ مسماراً بين عينيها

تلكَ المرأةُ التي اصطفاها الحزنُ حتى الموتِ

كانت

جدَّتي.

فبين لفظةِ (المرأة) ولفظةِ (جدَّتي) تدفَّقت صورٌ شتّى بقصديَّةٍ وتصميمٍ مخطَّطينِ من لدنِ الذاتِ الشاعرة ليس غير.

ثمَّ سارت على النهجِ نفسه (في قصيدة غير معنونة) ص:77، فجعلت صورَها الفنيَّة تتداعى على نحوٍ إخباري، لتنتهي كلُّها فيما قرَّرتهُ الذاتُ الشاعرةُ من إكمال:

لم تكنْ سماءً لأهزَّ بابَها بالأدعيَةْ

لم تكنْ حقلاً لأرشَّ دربَهُ بما قطَّرتْ وردةٌ روحَها

لم يكنْ جداراً لأنقشَ عليهِ ظُلمتَهُ

لم تكن ورقةً لأصنعَ منها طائرةً تُشيرُ للريح

لم تكنْ ريحاً ليُغريَها الفضاءُ بالصفير

لم يكن صفيراً ليختبئ خلفَ حنجرةٍ

ما ارتطمَ الآنَ

لم يكنْ سوى مسمارٍ معقوفِ الرأسِ

دُقَّتْ بـ حوافِّهِ الروحُ...

وهذهِ النصوصُ لا تحتملُ التأويلُ مطلقاً .

كذلك كانت قصيدتاها غير المعنونتينِ في الصفحات: 51، 92 قد استخدمتا هذه الظاهرةَ الفنيَّة.

2 ـ التقنية:

منجزاتُ (لا أسمعُ غيري) الفنيَّة عديدة، لكنَّ أكثرَها تركيزاً اهتمامُ شاعرتِها بـ منجزَي: المناجاةِ النفسيَّة، والصورةِ السرديَّة، وهما منجزانِ من منجزاتٍ عديدةٍ أفادَها الشعرُ من تقنيات السردِ، واشتغلَ عليهما في القصائدِ الدراميّة.

والمناجاةُ النفسيّةُ هي حديثُ النفسِ إلى النفسِ، أو إلى القرينِ المتماهي معها، وهذا الحديثُ كما يقولُ ت.س. إليوت: (هو صوتُ الشاعرِ يتحدَّثُ إلى نفسِهِ، أو إلى لا أحدَ... فإذا لم يتحدّثْ الشاعرُ إلى نفسِهِ مطلقاً، فإنَّ المنظومَ لن يكونَ شعراً حتى إذا كان بلاغةً فذَّةً. وجزءٌ من متعتِنا في الشعرِ هي اللذَّةُ التي نستقيها من سماعِ كلماتٍ غيرِ موجَّهةٍ إلينا.)⁽³⁾

كما في (قولِها في قصيدة غير معنونة) ص/ 56:

لمنْ تعودينَ...؟

والمساءُ (يحطُبُ) أسماءَهم

يُكفِّنُ وجهَ المسافاتِ بالذكرى

يَعدُّ الحكايا طريقاً إلى الدمعِ

أتبكينَ...؟

هُم غدروكِ

وغادروكِ

فلا تُبصري الدَّربَ

واشربي الدمعَ بالذكريات

واحبسي القولَ عن تَرفِ السؤالِ

ولا تسأليني...

أمّا تقنيةُ الصورِ السرديَّةِ، فهي أعلى استخداماً في اشتغالاتِها، لاسيّما المتداخلة بالمحاورةِ، أو في ما اصطُلِحَ عليهِ بـ (الديالوج) كما في قصيدتِها غيرِ المعنونةِ في الصفحةِ 66:

واقفةً والظلامُ يحزمُ الحقائبَ

يغزلُ عباءةً للمكانِ وينظرُ..

أخطو

فـ يعلقُ القلبُ بخطوتي..

لا ترحلي..

لا ترحلي، فالمساءُ كفيفٌ

وكفِّي(عُكّازةٌ) للوهمِ

بينما الرحيلُ مُعجِّلٌ يعوي

مُدّي ذراعَكِ فالمساءُ فاتَ

ولا عثرةَ ينظرُها عابر

أو بقاء.

وكما في الكثير من قصائد المجموعة.⁽⁴⁾

3 ـ أنسَنةُ الموتِ:

2170 ورود الموسويعلى الرغمِ من كونِ الموتِ لغزاً يحتاجُ حدوثُهُ إلى تعليلٍ مقنعٍ، فإنَّ سكانَ وادي الرافدينِ القدامى وجدوهُ(في صورةِ سخطٍ  مكتومٍ، وإحساسٍ دفينٍ بالظلمِ)⁽⁵⁾، مع أنَّ قيمَ الإيمانِ تراهُ حقَّـاً ليس غير.

ومهما اختلفَ الناسُ في تعليلِهم لهُ، فإنَّهم انتهوا إلى كونهِ النهايةَ المحتومةَ لكلِّ ما هو حيٌّ على وفقِ قولِ كعبِ بن زهير بن أبي سلمى:

كلُّ ابنِ أنثى وإنْ طالتْ سلامتُهُ

يوماً علـى آلةٍ حدباءَ محمولُ

لكنَّ الشعراءَ الذين أدركوا مغزاهُ فلسفيَّاً اختلفوا في تصويرهِ، ولعلَّ أنسنتَهُ، لم تردْ إلاّ عندَ القلَّةِ القليلةِ منهم، ومن هذه القلّةِ كانت ورود، مع  أنَّ ثالثَ النهرينِ رآهُ ذئباً:

ذئبٌ ترصَّدني وفوقَ نيوبهِ

دمُ إخوتي وأقاربي وصحابي

إنَّ أنسَنةَ الموتِ وتشخيصَهُ، ومحاورتَهُ هي ما تجعلُ النصَّ مغايراً، ففي النصِّ الوامضِ (غير المعنون) في الصفحة 68 تخاطبُ بطلتَهُ الموتَ قائلةً:

أيُّها الموتُ ترجَّلْ قليلاً

ثمَّ شيخٌ لم يُتِمَّ صلاتهُ بعدُ

أمٌّ تُعدُّ الغداءَ للعائدينَ

وطفلٌ يُحايلُ الوقتَ ليلعبَ

كذلك فعلَ بطلُ قصيدةِ (خادمُ الغيبِ) ص:98 حين انبرى يؤنسِنُ الموتَ، ويُخاطبُهُ قائلاً:

أيُّها الطارقُ العجولُ

ولِّ وجهَكَ شطرَ المقابرِ

ولا تقعُدْ عندَ بابِ عبدِكَ

فما أنا سوى حزنٍ فقير

لا يملكُ غيرَ حفنةٍ من المتعبينَ

يا سيّدي الموتُ...!

لكنَّ أجملَ أنسنةٍ شعريّةٍ كانت بصياغةِ ماهرٍ  نابهٍ كان قد ربطَ نفسَهُ للأسفِ بالطغيانِ بعدما استساغَ قضمَ الجزرةِ خشيةً من عصا الدكتاتور ومنظّمتهِ السريّةِ في قصيدة (زيارة) حين خاطبَ عبد الرزاق عبد الواحد الموتَ قائلاً:

من دونِ ميعادِ

من دونِ أنْ تُقلقَ أولادي

أطرقْ عليَّ البابْ

أكونُ في مكتبتي في معظمِ الأحيانْ

أجلسْ كأيِّ زائرٍ، وسوفَ لا أسألُ لا ماذا، ولا من أينْ؟

وحينما تُبصرُني مغرورَقَ العينينْ

خذْ من يدي الكتابْ

أعدْهُ لو تسمحُ دونَ ضجَّةٍ للرفِّ حيثُ كانْ

وعندما تخرجُ لا توقِظْ ببيتي أحداً

لأنَّ من أفجعِ ما تُبصِرُهُ العيونْ

وجوهَ أولاديَ حينَ يعلمونْ.

***

ما تقدَّمَ كانَ بعضاً من حقَّ المجموعةِ، ومبدعتِها على النقدِ المنصف، أمَّا ما عليها فيكادُ لا يُذكرُ، ولا يقدحُ بلغتِها، ونسيجِ نصوصها، وشعريّتِها إطلاقاً، وهو حقُّ النقدِ على المجموعةِ الشعريّةِ، ويمكنُ أنْ يُعدَّ من بابِ الاختلافِ في وجهاتِ النظرِ ليسَ غير، وهذا الاختلافُ ينحصرُ في ملاحظتين:

الأولى ـ لا نرى مبرِّراً لحجبِ عنواناتِ بعضِ نصوصِ المجموعةِ، فقد يظنُّها بعضُهم جزءاً من قصائدَ أخرى.

الثانية ـ ثمَّةَ خطأٌ شائعٌ يجبُ تداركُهُ في جملة (من أبدلَ قلبَكَ بالحجارة..؟) في صفحة 48، فقد قالت في نصٍّ لم تعنونْهُ:

منْ دقَّ بابَ الفتنة..؟

من أيقظَ الظباءَ النائمةَ تحتَ قلبِك ..؟

منْ أبدلَ قلبَكَ بالحجارة .. ؟

منْ رمى حجراً ببركةِ الحُبّ .. !

منْ حوَّلَ الحبَّ مستنقعاً للنقيقِ،

والحشراتِ السَّامَّة.. !

فقد كان على الشاعرة أن تقولَ: (منْ أبدلَ بقلبِكَ الحجارة ..؟ ) أو (منْ أبدلَ الحجارةَ بقلبِك )، لأنَّ المتروكَ هو ما تعلَّقَ بالباء، بدليلِ قول الحقِّ في الآية 61 من سورةِ البقرة: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

مع عظيمِ الإشادةِ بهذا المنجزِ الإبداعيِّ الجميل.

 

د. عبد الرضـا عليّ

...................

إحــــالات:

(1) ينظر كتابنا: قيثارة أورفيوس قراءات في السائد والمختلف،         ط1، 135، دار العارف، بيروت،2017م.

(2) لا أسمعُ غيري،68، ط1، دار شهريار، البصرة، 2018.

(3) أصوات الشعر الثلاثة، ترجمة سلمان محمود حلمي، مجلَّة(الفصول الأربعة) بغداد خريف 1954، ص: 54 ـ 71، وينظر كذلك كتابنا: الأسطورة في شعر السيّاب، ط3، 102، ـ 103،دار العارف بيروت 2017م.

(4) تنظر نصوصها: رقدة أخيرة 18، وانحناءة 36، وحقائب خاوية 57، وغير المعنونة 66، وشيخوخة الظلّ 61، وغيرها الكثير.

(5) فرانكفورت وآخرون (ما قبل الفلسفة) ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، 246، دار مكتبة الحياة، 1960م. وينظر كذلك كتابنا: الأسطورة في شعر السيّاب، ط3، 173، دار العارف بيروت 2017م.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم