صحيفة المثقف

تفجيرات بغداد نموذجا

قاسم محمد الكفائيفي ظروف استثنائية اعتمدتها مؤسسة المباحث السعودية الإماراتية من أجل بث رسالة عاجلة الى المنطقة مفادها أننا قادرون على توظيف كل الإمكانات لتحقيق ما نصبو اليه، وأن الهدوء النسبي الذي تشهده المنطقة حال مغادرة ترامب للبيت الأبيض يمكننا توظيفه الى حالة حرب في العراق لإشعال المنطقة وإنشغالها بإطفاء حرائقها، ولتعميق جراحاتها بدفع خطوط داعش النائمة لعمل تخريبي لأي موقع نخطط له في بغداد العاصمة.

تفجيرات بغداد يوم الواحد والعشرون من شهر كانون الثاني الجاري تُعَدُ نموذجا يفسر تلك الحالة السيئة التي شهدها العراق في ظل حكومات الإنفلات والفساد، وفي ذات الوقت يُفسر حالة الفشل السياسي على مستوى المنطقة والعالم الذي انتاب المملكة والإمارات ما بعد انتصار بايدن في الإنتخابات ومغادرة ترامب البيت الأبيض دون رجعة. كذلك يمكن إضافة تحليلا آخر لما ورد بأن هذه التفجيرات هي رسالة تحدٍ الى بايدن من أننا فاعلون وفي أي موقع.  

العراق تتوفر فيه عدة عوامل لأن يكون الأرض الرخوة لتنفيذ أجندات المملكة وحليفتها الأمارات بدفع إسرائيلي. من هذه العوامل هو الصراع القائم ما بين الأقطاب السياسية وانشغال مسؤوليه بالنصب وسرقة خزينة الدولة، كذلك الهبوط الحاد بعدم الكفاءة في المؤسسة الأمنية، الى جانب إنتماء أرفع المناصب في الدولة الى الخارج وليس الداخل.

منذ سنين مضت أشرت في مقالات سابقة كنت قد كتبتها بأن مؤسساتنا الأمنية لم تعد صالحة لمواجهة المخاطر وهي فاشلة الى الدرجة التي لا تستوعب وضع أي برنامج أمني قادر على حماية البلاد ومصالحة وحماية أرواح الناس ما لم تشمل حالة التغيير جذور المؤسسة أولا.

في لقائين منفصلين متفاوتين في الزمان مع سفيرين عراقيين حضرتهما داخل سفارتنا في أوتاوا عاصمة كندا.عرضت كفائتي لهذا الغرض، لكنني واجهت شيئا من السخرية بالقول على الطريقة العراقية (من يقره من يكتب...؟ يقصدان الداخل العراقي في ظل الفوضى الخلاقة والفساد).

التقيت كذلك بمسؤولين عام 2012 في المنطقة التي يسمونها خضراء وتحدثت لمن هو أقرب الى رئيس الوزراء وكل الحكومة فلم أجد فيها من يدعمني سوى التسطير بالأقوال وتكرار الوعود دون أن يتعرفوا على الإمكانات الحقيقية التي فيها وجدت صورتي دفاعا عن وطني وشعبي، لكن الفاسد والنحس لا يطهر بماء دجلة ولا الفرات.

إذن: المهنية لا تكتمل ولن تكفيها أبدا الدراسات الأكاديمية ومنح الشهادات دون خبرة، والإمتيازات الفضفاضة في ظروف تمر على البلاد فيها الفساد والإستهتار السياسي يطغيان على الحس الوطني والمصالح العامة، فلو وُجدت الإمكانيات يمكن أن نسميها خبرات عشوائية أو كلاسيكية لا تتناسب ووضع الداخل العراقي أو الخارج وتطورات الحياة في الأمن والسياسة.

فالمهنية تأتي بالموهبة والمتابعة لعنصر عاش سنين حياته في السجون السياسية والتغريب تتخللها محاولات القتل والإختطاف التي تعرض لها ونجى منها باحترافية لا يعرفها مثل أولائك المشغولين بفسادهم وصراعاتهم.

عندما يتسلق جاهل على المؤسسة الأمنية العراقية ويصبح قائدها ولا يحمل تلك القيمة المعرفية في إدارتها وتعميم برامج الحماية الصحيحة على البلاد سيكون هذا الجاهل في هذا الموقع نقمة وأداة تدمير وقد عشنا هذه الظاهرة منذ عام 2003 فصارت مؤسساتنا مهزلة عند البدو والحضر.

لقد خسر العراقُ الكثير من إمكاناته الإقتصادية والبشرية تحت دوامة تجديد الإجرائات وتغيير المسؤولين الأمنيين وغيرها من ترتيبات لا تصلح أن تكون حلا لمعضلة في زاوية من زوايا المخاطر القائمة، أو حتى على مستوى شارع في بغداد والموصل مما جعل الثغرات تتعدد وتنفذ منها تلك الوحوش الكواسرالى حيث يشاؤون ليحققوا فيها أهداف الإرهاب الدولي والإقليمي.

لقد نجحت السعودية على إحرق العراق بتدبير أمريكي إسرائيلي دون أت تواجه الرد المناسب سوى أن حكومتنا أبدت تعاطفها مع المملكة وحسن نواياها بما لا يقبله العقل ولا المنطق حين أعادة عناصر الإرهاب للسعودية أو قطر بارتياح دون عناء. أما العناصر الداعشية الوهابية التي في السجون العراقية فطعامها ومنامها من الدرجة الأولى تحت ذريعة (حقوق الإنسان) التي تعلموها من الإدارة الأمريكية والأوروبية ولا يفهمون أن الإنسان نوعان بخيره وشره فهما يحددان شموله بتلك الحقوق من عدمه. بهذا فقد نجحوا بتمرير تلك الذريعة على الأغبياء فالتزموا بها وهم صغارا مما شجع الإرهابيين على فعل المزيد دون وجل.

إنتفض رئيس وزرائنا مصطفى الكاظمي ما بعد حادث التفجير المروع فغير مناصب وبدل شخصيات أمنية أو طرد بعضهم منها إعتقادا منه أن القادمين الجدد سيحلون العقدة وينتشر الأمن في البلاد.

ما بعد التفجيرات الأخيرة ببغداد قام السيد الكاظمي بتغيير بعض الضباط الأمنيين المسؤولين عن مناطق التفجير وغيرهم واستبدلهم بآخرين. هذا الإجراء بعينه لا يعالج ولا يسد ثغرة، لأن المشكلة لا يحلها تغيير ضابط أو أفراد، وإنما الصحيح هو أن تجلس على الطاولة وأمامك كبار ضباطك المختصين، الى جانبهم خبراء في السياسة والأمن الإستراتيجي، وفي الشأن البغدادي.

على تلك الطاولة تسلمهم بغداد العاصمة بخرائطها السياسية والمجتمعية والبلدية وتسألهم عن إمكانية تحصينها من كل المخاطر المحتملة من عدمه...ووو.

تنتهي الجلسة بعد ساعات النهار، تلحقها جلسة أخرى بعد أسبوع تكون فيها المناقشات أدق وأعمق وأطول من سابقاتها لأنها تناقش برامج الأمن والحماية التي أحضرها المختصون. وقد تستغرق أسبوعا آخر في لقاء يومي متكرر. أما التنفيذ فعند الجاهلين يحتاج الى عشرة أيام وعند المهني يحتاج من سنة ونصف الى سنتين شريطة أن لا تنام عيون العاملين وإلا فلا تكفيها غير خمسة سنوات من العمل البطيء المدروس. يبقى تأثير العمل الفعلي التدريجي مؤثرا على الساحة العراقية يوما بعد آخر حتى اكتمال النصاب المطلوب فيصبح الشأن الأمني ثقافة لدى كل مواطن.

الإنفجارات التي وقعت بالأمس ليس هي الأخيرة لأن العناصر الداعشية الوهابية التي أعدت قوتها لغرض التفجير والقتل قد دخلت الى البلاد منذ زمن مسبق أي ما بعد تحرير الموصل فهي تنتظر الأوامر وكأنهم هم المتفضلون على الحكومة العراقية أن لا يستعجلوا بتفجير أنفسهم بهذه السرعة، مما يعني أن حكومتنا فاشلة ومؤسساتها الأمنية غير قادرة على تقديم ما هو أفضل أمام الكم الهائل من الخلاليا النائمة المنتشرة على مستوى نصف البلاد.   

هنا ولحد الآن لا أدعو الى تحديد المسؤول عن ما جرى في البلاد منذ 2003 والى اليوم لأن الكوارث هي أعمق مما يتصوره العقل، بل أدعو الأغبياء حفاظا على كرامة الدولة والمواطن  كحد أدنى الى وضع المؤسسة الأمنية بيد أمينة، مهنية، قادرة على الحفاظ على هيبة الدولة وحماية مؤسساتها والحفاظ على أرواح المواطنين. (في كل الأحوال يبقى الأغبياء مصونين كحلٍّ أسلم).

 

قاسم محمد الكفائي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم