صحيفة المثقف

حفني بدقة.. المعلم المثالي والشاعر المرتجل

محمود محمد علييعد الأستاذ “حفني محمود ابراهيم بدقة” الشهير بحفني بدقة هو ذلك الرجل البسيط الذي لم يحصل علي أعلي الشهادات الجامعية لا الليسانس أو الماجستير ولا الدكتوراه، ولكن حاصل فقط على دبلوم المعلمين بنظام الخمس سنوات، ولكن كان هذا الرجل أسطورة، فهو نموذج للمعلم الناجح في عمله، فهذا الرجل يتميز بثقة كبيرة في النفس فهو يقوم بأداء العمل ولا يكون شغوفاً برد فعل المستمعين من الطلبة والتلاميذ ولا ينتظر شكراً أو ثناء من أولياء أمور طلابه، كما يتسم بالوضوح في العمل والبساطة، وله أسلوب معروف ومحدد يستطيع أن يلتمسه الجميع من طلابه وتلاميذه. كما يتميز يتوسط في الاستماع للطلاب فهو دائما ما يكون متوازن بين الاستماع والتجاهل، حيث إن استماعه الجيد لطلابه جعله نموذج للمعلم الذي يحظى بثقة طلابه وتقديرهم.

وحفني بدقة قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها لطلابه: تعليماً وتعلماً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات معلم بسيط للغاية يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وسيظل تفانيه في العمل تمثل المنارة التي يهتدي بها زملائه وتلاميذ في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة التعلم، وما أعظمها من شعلة.

والأستاذ حفني بدقة من مواليد الثاني والعشرين من شهر ديسمبر لعام 1946م، حيث نشأ في أسرة فقيرة جدا في صعيد مصر بجمهورية مصر العربية؛ وبالأخص محافظة سوهاج – مركز أخميم، حصل علي لقب المعلم المثالي أكثر من مرة ؛ منها المعلم المثالي على مستوى سلطنة عمان الوافدين، والمعلم المثالي في عيد تكريم المعلمين، ورائد مثالي على مستوى الجمهورية، ثم مديرا لإدارة المعهد الوطني لعلوم الحاسب بسوهاج، والدارس المثالي بدورة القيادة الطبيعية، والمعلم المثالي لعام 1998م، 2005م،2013م . وبعد تقاعده سن المعاش أبي هذا الرجل أن يركن إلي البيت كما يفعل كثير من المدرسين، بل نزل إلي ميدان العمل يجد ويجتهد ويعمل حيث وكل إليه إدارة مدرسة العمرى الابتدائية بسوهاج، ثم مدير مدرسة جيل المستقبل الخاصة بسوهاج، ثم مدير عام مدرسة المناهل الخاصة.

وكان الأستاذ حفني بدقه يرتجل الشعر بدرجة تفوق الخيال، ومن مواهبة الشعر قوله: عندما تصبح رقيقا.. نعم من أجل عيشك قد تهاجر.. أبصر كل أفاك وفاجر.. وتلقي البعد يطعن فيك طعنا.. وتنسي كل طعنات الخناجر.. وتبصر في صحاري الناس ورداً.. وتقتل كل صيحات الحناجر.. تميت القلب في دنياك حقا.. وتصبح سلعة في كف تاجر.

وفي شعر آخر يرتجل يقول: أعيدوني إلي وطني الجميل..ونيل ماؤه كالسلسبيل.. أعيدوني إلي وطني المفدى.. ولو أحيا براتبي القليل.. فما في الأرض والدنيا جميعا.. علي مدي العمر الطويل.. يقولون الغني في غير مصر.. غناك بها ضروب المستحيل.. فقلت أما كفي فها نسيم يعيد الروح للصدر العليل.. وهل ينسى ضفاف النيل يوما هنالك شاعرا فيها مثيلي.. بها أهلي وأصحابي وحبي.. وهل في سواها للخليل.. أأرمي بالسعادة قصد مال..لأحيا بين كثبان مهيل.. فيا ربي وقد قدمت بعدي عن الأحباب في اليوم الجميلي.. هجرت أحبتي وتركت أهلي وغبت.. وغاب عن عيني دليلي.. وما ترضى إلهي أتراني وقد أصبحت في الثوب الذليل .

ومن أشعاره المرتجلة قوله: تسليني بأنواع التسالي.. وتغريني بدولار ومالا لتنسيني.. هنا في مصر أهلا وزوجا قد تركت لها عيالي.. وقريتي التي قد عشت عمرا.. بها بين الأحبة من رجالي.. وزرعا أخضرا فيها نظيرا.. جميل الطلع ممتد الظلال.. وماء جاريا في حضن نيل.. جري فيضانه من سد عالي.. وأسماء تداولها لساني.. أرق من التصور والخيال.. جميل كل ما في مصر حقا وغال شعبها والله غالي.. تراب كله ذهب يباهي.. به أغلي النفائس واللالي.. وليلا ساهر في نور بدر يريك الأنس في جنح الليالي .

وكذلك من أشعاره التي يرتجل فيها: لا تسلني عن حياتي من جديد.. بعد أن ودعت في مصر الوليد.. لا تسلني بسمة من شفتي.. ابتسامي صار من ثغري بعيد.. لا تقل لي أنني أحيا سعيد.. ما غريب عاش في الدنيا سعيد.. لا تسلني يا صديقي عن حياتي.. لا تسلني عن وجودي من جديد.. كل يوم مر في الدنيا دوني بهموم كل ما فيها جديد.. كل أمالي التي عشت فيها.. هي أن ألقي خطابا في بريد.. كل أحلامي التي أملتها أن أري بعيني الدلتا والصعيد..أسأل الليل أناجي بدره عله يكتب عن قلبي الشهيد.. لا تسلني أن أقول الشعر يوما.. كل شعري ضاع في تلك الرياح.. لا تقل لي تلك شمسا بعدما.. أظلم الكون وجافاني الصباح.. لا تقل لي ذاك وردا أنني لم أعد أبصر في وردي انشراح.. كل وردا.. كل زهر.. صار عندي رمز سهد و مآسي وجراح.. مصر كانت ملء قلبي ومضت.. مثل حلم بعده طال النواح.. أي ماء بعدها لا ينبغي لي أي ماء غيري يستباح..إنما النيل من الله شربناه.. فكان الري والماء القُزاح.

وأيضا من أشعاره: حديثا ولكن ليس بين حديد.. غني ولكن عاش غير سعيد.. يعاني من الآلام طيلة عمره ويشكو بلا دمع لكل بعيد.. يراسل كل الناس يكتب أنه علي لذة ليست بصور مريب.. ويلبس أثوابا رقيا لباسها.. ويحيا بفكر في الجبال شريد.. ويظهر فيه الخير في غربة النوى.. وينظر للآمال شبه زهيد.. وإن عاد يوما حيث كان وجدته تزينا بثوب لامعا وجديد.. يسير كأن الأرض ثمة ملكه.. وفوق ثراها سار شر عبيد.. يواري وراء الثوب باعا ملازما.. ولولا التشفي صار شبه قعيد.. يظن بأن الناس صاروا أَضاحيا.. فليس من الأثواب غير زهيد.. ولو كان يدري الأمر راح مسارعا يودع دنياه بكل برود.. فما نال فقدانه سواه على المدى.. فقد عاش لكن عاش شبه وئيد .

وأختم مقالي بتلك الأشعار التي يرتجل فيها أيضا: ليل طويل.. يا يوم مالك لا اريد طلوعا.. و بزوغ شمسك قد غدا ممنوعا.. عجبي لمثلك هل تريد لي الوري سيرا لتقتل قلبي المخلوعة.. إني أري يا شمس فيك وضاءة.. وأري بليلك حسرة و خنوعا.. لو أن دمعي مرجعا لي بلدتي لملئت وديان الجبال دموعا.. أو أن شكواي الحزينة خفقت.. عني شكوت لمن أراه سميعا.. بئس التغرب في الحياة وإن يكن نهاجا كفرت به ولو تشريعا.. والله لولا هجر الأحبة سنة للناس ما كنت الغداة مطيعا.. أو أنهم قد قرروا مناهجاً كرهته ورفضته موضوعا.

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الأستاذ حفني بدقة إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل البسيط العصامي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمعلم المثالي والشاعر المرتجل الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم