صحيفة المثقف

اوراق كامل شياع.. عمق التوجهات والأفكار النقدية

جمال العتابيبمثل هذا الأثر الأدبي الواسع المعالم يقدم لنا كامل شياع ملامح جديدة من قراءات في الشأن الثقافي والرواية والفن والشعر، في كتاب صدر له مؤخرا 2021 عن دار المدى، من إعداد شقيقه فيصل عبد الله، وإذا كان فيصل قد أفلح في إختيار عنوان الكتاب (أوراق كامل شياع)، فإنه قد أفلح في التعريف بكاتب لم نعرف عن كتاباته قبل عقدين أو أكثر من عام 2003، أي منذ أن غادر كامل العراق، يوم صارالوطن مجمرة، والموت حارس البوابات الشرقية.

أوراق كامل بمجموعها تمثل المقالات التي كتبها ونشرها منذ بداية تسعينات القرن الماضي في الصحف والمجلات التي تصدر في لبنان وسوريا، أو في بلدان أوربية، يرصد فيها الفنون المجاورة للأدب، و من المؤكد ان كامل شياع هو أحد الكتاب الذين يثيرون لدى القارئ فاعلية الجدل، حين يتناول الموضوعات الساخنة والحميمة التي تطالعنا في أجناس مختلفة ومتعددة في ميادين الإبداع، ليس بوسعنا في هذه المقالة أو الخلاصة أن ننقل سحر هذا العمل وألقه، انه تفاعل يقظ ومدهش، قادر على التجاوز، وكامل قادر على التجاوز وان يعطي معاني جديدة للأشياء، فالكتابة عنده متعة ومعاناة، والفكرة شاغل مستمر في عقله، تستحق المزيد من التفكير والتأمل.

أقول دون مبالغة: ان كامل نمط من المثقفين لا خيار لهم إلا الإشتغال بالكلمة والمعرفة والحوار، تجربته الفريدة تلخص لنا عالماً من الإنتماء الى هذا العالم ومحيطه، تجربة تعيد صياغة معنى الثقافة لتسمو بها اليوميات، يجد في فهمه للثقافة إكتشافاً للمعاني الإنسانية، عبر ما أنتجته عقليته النيرة، هو من القلة القلائل الذين يجيدون التحدث بست لغات ويكتبون فيها، لتعميق صلته بالمعطى الفكري والإبداعي العالمي، ومن صفوة المثقفين الذين  تخصصوا في الكتابة عن الموسيقى والسينما والتشكيل  والإجتماع والسياسة، فضلاً عن الكتابة في المسائل الأدبية الأخرى، مع تفوقه في تخصصه الدقيق في الفلسفة، إذ قدم إطروحته للماجستير بعنوان (اليوتوبيا معياراً نقدياً). وهو أبرز المشتغلين في هذا المجال، وله إجتهاداته الخاصة في هذا الميدان.

في أوراقه يعمّق كامل توجهاته النقدية، ويعطي مفهومي الادب والنقد بعداً فلسفياً عميقاً، يجد فيهما ضرورة فكرية وحاجة إنسانية، النقد كما يعتقد حالة مختلفة عندنا، لم يتأصل حامله الذي هو العلم، أو بالأحرى الروح العلمية كمرادف للتجرد، وشياع يكتب بتجرد ونبل وتواضع، مؤمن بإمتياز بالحداثة في اللغة والترجمة والخطاب، مؤمن بالعقل والتنوير والحرية، والتوق الى الحقيقة، والتحضر بأشمل معانيه وأرقاها، هذا النزوع يضطرم في عقله وقلبه ووجدانه، صادراً عن تنبه وتيقظ، كضرورة ثقافية وإنسانية، لقد إكتسب كامل مناعة خاصة ميزته عن الآخرين في نظرته للثقافة بشكل عام وللثقافة العراقية على وجه الخصوص، في مناقشاته لافكار سمير أمين وادور سعيد ومحمود صبري، الثقافة بنظره جهد حضاري ومشاركة لفعل ابداعي، لا تسمح بالإنطلاق نحو الخيالات والأوهام، ويُسجل لكامل شياع موقفه المختلف المعارض لإولئك الذين راهنوا على الحرب الأمريكية قبل 2003، إذ يقول:  لا أتفق مع هؤلاء لحل الأزمة العراقية، وأجد موقفهم كموقف من يرى الأشجار دون الغابة، لا أتفق مع حججهم الذرائعية، جلّ ما أخشاه في مهادنة مثقفينا للأمر الواقع من منظور يتناسى أيديولوجية ودوافع الإدارة الأمريكية.

وفي لقاء مع فؤاد التكرلي، يصفه بيتيم بغداد المريض بالأمكنة، في الإجابات ما يدعو للتوقف عند تبرير التكرلي لابتعاده عن السياسة في بلد مشحون بالصراعات السياسية، بوصفها محض تهويش وإدعاء، والنأي عنها يأساً واحتفاظاً بالكرامة الإنسانية. ويشير كامل إلى التجارب الجديدة في الفن التشكيلي المعاصر، من خلال تجربتين لكل من عباس الكاظم، وعلي عسّاف، وثالثة لجنان العاني. وفي محور الشعر، يناقش كامل كتاب الروح الحية لفاضل العزاوي، ومنجزات الجيل الطليعي الستيني من أدباء العراق، ويختتم شياع أوراقه بحوار مثير عن الشعر مع فوزي كريم، مؤكداً على الصدق كشرط لازم للعمل الفني كي لا يتحول إلى لعبة بيد محترفي الكلام. هذا الصدق يعبر عنه حين يرمي كامل بالمجاملات الادبية جانباً، ليفاجىء فوزي برأيه الصريح الشديد الوضوح إذ يخاطبه: حين أتأمل أفكارك عن الشعر وكتاباتك النقدية أجدها غير بعيدة عن تراث الرومانتيكية الأوربية في بداية القرن التاسع عشر، فأكثر ما يجذبك من الحياة جانبها المظلم المثقل بالحزن واللوعة والبلاء. هذه الأراء كانت دفقاً في تمتين أواصر العلاقة بين كامل وفوزي، إذ تقبلها الأخير بما أوتي من حكمة وعقل مستنير.

إمتياز كامل انه يمتلك بعد نظر في ما سيحصل من أحداث، لا أقول انه هاوي نبواءت، حتى تلك التي تتعلق بإستشهاده، انما هو إستشراف المستقبل بالمعرفة، لذلك لم يشاطر البعض تفاؤلهم بأن إسقاط النظام في بغداد سيعود بالعراق الى حالته الطبيعية المتخيلة، على المثقف ان لا يكون داعية سياسية عسكرية عدوانية.

ثمة معاني من الإفصاح والإشراق في هذه النصوص، تبقى تحتفظ بأثرها الحي، فهو يتواصل معنا قارئاً نقدياً واعياً، واضح الجملة، في نص جميل ورائع (تنبيهات غائب) عن روايته (المرتجى والمؤجل)، وتتنوع أراء كامل في النصوص، ويقدم نفسه ناقداً روائياً بإمتياز، وهو يراجع الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، وفيصل دراج في كتابه (نظرية الرواية والرواية العربية)، وفولتير في اقصوصة (كانديد)، وكونديرا في الفن الروائي، وتقييم محاولة جورج طرابيشي في (شرق وغرب)، وأهم القراءات تلك التي قدم فيها مرثية لليسار العربي، في (وليمة) حيدر حيدر. ان مجمل أراء كامل في الرواية تهتم بالفن الروائي رفيع المستوى، قيمته الأساس تكمن في عمقه ودلالاته وتعبيره الصادق عن الإنسان، انه ينطلق بالكلمة بإتجاه كل الفضاءات. وهي المسافة التي ذاتها التي ينحاز اليها الكاتب في تناوله للموسيقى والتشكيل وفن الأوبرا، والسينما، والشعر في أعمق نداءاته الإنسانية.

أوراق كامل شياع تقودنا إلى طرح السؤال التالي: كم من الوقت إستطاع كامل وهو في عمر الشباب أن يؤسس لهذا الخزين من المعرفة والتجارب، وتعلم اللغات ، وتحقيق حضوره الإبداعي في الوسط الثقافي بوقت مبكر من حياته، كم أمضى من السنوات وهو يبحث في الآمال الكبيرة، والرؤى وافكار الحداثة، كما تعبّر نصوصه المكثفة المتوغلة عميقا عن الحس الداخلي للإنسان.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم