صحيفة المثقف

الشخصية العراقية.. بعد التغيير

قاسم حسين صالحاثارت "الشخصية العراقية" اهتمام الباحثين والمؤرخين والمحللين السياسيين، ونعتوها بصفات فيها من التناقض ما لا تجد في حدّته ما وصفت به شخصيات اخرى عربية كانت ام اسلامية ام اجنبية. فهنالك من يعظّمها ويرفع من شأنها بما يوحي لك انها تتفرد بما هو جميل من المزايا، وهنالك من يذمّها ويصفها بأقبح ما في البشر من صفات.

ولهذا الاهتمام بالشخصية العراقية والتناقض الحاد في وصفها او تحليلها اسباب سياسية ومنهجية.والمشكلة ليست في الاسباب السياسية لأن امرها معروف، فمن اراحها من السياسيين امتدحها، ومن اتعبها ذمها، فضلا" عن ان الكتابات من هذا الصنف تفتقر الى العلم، وان الغالب على الباحثين الذين " حللوها " كانوا يكتبون ما يرضي السلطان أو الحاكم، وهذا أمر أنتم أدرى به. لكن الاشكالية في هذا التناقض تكمن – برأينا – في الاسباب المنهجية، اي طريقة البحث العلمي التي تتطلب الموضوعية واستخدام ادوات البحث التي تفي بشرطي الصدق والثبات، وان يكون القائم بها متمتعا" باخلاقية البحث العلمي، لاسيما التجرد من الميول والاهواء، وان يكون متخصصا" في " علم نفس الشخصية " أو ملمّا" بنظرياتها واساليب البحث فيها.

لقد كشفت سنوات ما بعد التغيير (2003) صفات جديدة عن الشخصية العراقية بعضها ما كان موجودا فيها بنفس الحّدة، وبعضها كان يعد عيبا اجتماعيا وصار ظاهرة شائعة جسدتها سلوكيات او مواقف العراقيين في اهم حدث ميداني قدمت لنا نتائجه تشخيصا لخصائص الشخصية العراقية لا تقدمها بحوث ميدانية، لأن الحدث يتعلق بالوجود الانساني للفرد، ومسؤولياته الأسرية، والاجتماعية، والوطنية.. نوجزها

في هذه الحلقة بثلاث صفات، هي:

اولا: التعصب للهوية

التعصب بمفاهيم علم النفس الاجتماعي والسياسي هو (اتجاه سلبي غير مبرر نحو فرد قائم على اساس انتمائه الى جماعة لها دين او طائفة او عرق مختلف، او النظرة المتدنية لجماعة او خفض لقيمتها او قدراتها او سلوكها او صفاتها، او اصدار حكم غير موضوعي قائم على تعميمات غير دقيقة بشأن جماعة معينة).. انتهى التعريف العلمي له.

في المجتمع العراقي قبل التغيير، أخذ التعصب ثلاثة أنواع:

أ- التعصب الاجتماعي. ويحصل في محدودية التزاوج القائم على اساس العرق او الدين او المذهب، وهذا هو الغالب على صعيد الزواج بشكل خاص، لدرجة ان عوائل تحصر الزواج بمن ينتمي لنسبها ولن تعطي امرأة منها (لغريب) حتى لو تبور.

الثانية: التعصب المؤسسي. ويقصد به احتكار مواقع اتخاذ القرار في السلطة والمراكز الحساسة والمؤثرة في مؤسسات الدولة العراقية لطائفة معينة.

والثالثة: التعصب السلطوي.وفيه يأخذ شكل الحروب التي تصل أحيانا إلى حدَّ الإبادة البشرية، كالتعصب العرقي ضد الكرد، الذي مورس من قبل السلطات العربية التي توالت الحكم على العراق، والتعصب الطائفي بإبادة آلاف الشيعة التي كشفتها المقابرالجماعية.

هذا يعني ان التعصب موجود في مجتمعنا قبل التغيير لكن اعراضه ما كانت حادة الى عام 2005 حيث انفجر بعنوان جديد هو صراع الهويات.. الأمر الذي يحتاج الى تحديد مفهوم (الهوية). فالشائع اعلاميا تداول السياسيين والمثقفين مفردة (الهوية)كما لو انهم يحملون عنها مفهوما مشتركا محددا فيما يشير واقعهم الى انهم يختلفون في دلالاتها ومعانيها.

وللتوضيح فان الهوية على اربعة انواع: الهوية الشخصية.وتعني الافكار والقيم الثابتة نسبيا التي يحملها الفرد بخصوص نفسه ودوره وفئته الاجتماعية والاحساس بكينونته وصفاته الفردية .والهوية الاجتماعية الفئوية وتعني الشعور بانتماء الفرد لجماعة معينة لها تقاليد ومشاعر خاصة، ، وهي في المجتمع العراقي على نوعين: المذهبية (الطائفية)وتتمثل بطائفتي السنّة والشيعة، والهوية العشائرية، وتتمثل بالعشائر الكبيرة. والهوية القومية وتعني احساس الفرد بانتمائه لجماعة كبيرة او شعب يشتركون في تاريخ واحد وقيم وعادات (العرب، الكرد، التركمان.. ). والهوية الوطنية وتعني احساس الفرد الفرد بانتمائه الى وطن واحد تعيش فيه مكونات اجتماعية متعددة الهويات وشعور مشترك بالاعتزاز بوطن عاشوا على ارضه تاريخا طويلا واكتسب اسم دولة لها علم واحد يميزها بين الدول.. فضلا عن هويات اخرى من قبيل الهوية الثقافية، الدينية، والجندر.

والمسألة المهمة هنا هي ان للهوية الدور الاكبر في تحديد اهداف الفرد وتوجيه سلوكه ونوع العلاقة التي تربطه بجماعة اجتماعية معينة او جماعات لاسيما في اوقات الازمات.. وهذا ما حصل بين عامي 2006 و2008 في العراق في احتراب راح ضحيته عشران الالاف من العراقيين وصل الى مائة قتيل في اليوم في تموز 2007.

ثانيا: الوصولية:

تعني الوصولية ان الفرد يسعى للوصول الى هدف او غاية باستخدام اساليب غير لائقة او غير اخلاقية.. جسدتها تصرفات عدد كبير من المرشحين في استمالة الناخبين للتصويت لهم. والمؤذي هنا، اخلاقيا، ما احدثته هذه التصرفات في الناس.. وأوجعها بيع الضمير الوطني بثمن بخس، واحداث تخلخل في المنظومة القيمية للفرد والمجتمع، بخفض مرتبة قيمة المبدأية ورفع قيمة الوصولية في الهرم القيمي للشخصية العراقية.. وهذا يعني ان الشخصية العراقية ستصبح (ميكافيلية) تعتمد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.. وهذا من اسوأ وأخطر ما حصل للقيم في المجتمع العراقي ويتحمل السياسيون في السلطة مسوؤلية تاريخية عن تهرؤ اخلاق ستحتاج زمنا طويلا لأصلاح ما افسده وصوليون احتلوا المراكز التي يفترض فيهم ان يكونوا القدوة.

ثالثا: التخلي عن القيم الدينية:

معروف عن الشخصية العراقية انها تلتزم بالعبادات(صلاة، صوم.. )لكنها لا تلتزم بالقيم الدينية من قبيل الصدق والاستقامة مثلا.غير ان عدم الالتزام هذا كان يمارس على استحياء، فيما صار يمارس علنا بعد التغيير.ولهذا سببان رئيسان:

الأول: ان الحكومة والبرلمان اشاعا فسادا فاحشا وصيروه من فعل كان يعد حراما في القيم الدينية الى شطارة وانتهاز فرصة.

والثاني: ان اصحاب عمائم وملتحين في البرلمان والسلطة كانوا يتبادلون تهما تدينها القيم الدينية وترتب عليها عقوبات دنيوية وتعد مرتكبيها بحساب عسير.ولأن عامة الناس وجدوا (أن اولي الأمر) وشخصيات دينية لها حضور سياسي واجتماعي ترتكب ما يناقض القيم الدينية فانها احلت لنفسها عدم الالتزام بها.والذي حصل بعد التغيير انها تخلت اكثر عن هذا الالتزام.. وهذه قضية خطيرة لأن المجتمع، خاصة الاسلامي، الذي لا تسوده القيم الدينية فانه يبيح لأفراده ارتكاب الافعال التي تؤذيه وتفككه.

ان السبب الرئيس لعدم الالتزام هذا هو تبادل الاتهامات بالفساد بين رجال دين صاروا مسؤولين، وتورط رجال دين آخرين باعمال تحسب على الارهاب، وتناقض افعال مسؤولين (دينيين)في السلطة مع اقوالهم، وعدم امتثالهم لتوجيهات ونصائح المرجعيات الدينية.. اوصل الفرد العراقي الى حوار داخلي مع النفس: (اذا كان اهل الدين ومن يفترض بهم ان يكونوا قدوة، غير ملتزمين بالقيم الدينية فما الذي يدعوني انا الانسان البسيط الى الالتزام بها.. وقد ضاقت بنا سبل الحياة؟).ما يعني نفسيا، ان الشخصية العراقية وجدت التبرير العملي لأن (تخدّر، تميت )الوازع الديني وتبيح لنفسها عدم الالتزام بالقيم الدينية، أدى الى شيوع الكذب، النفاق، التزلف، واللاحياء.

والتساؤل: هل ستبقى هذه الصفات الذميمة في الشخصية العراقية؟.

الجواب.. ذلك يتوقف على نتائج الأنتخابات المبكرة، فان احدثت تغييرا ايجابيا مؤثرا في العملية السيايسية، فان تلك الصفات الذميمة ستضعف.. انطلاقا من حقيقة: ان نوع النظام السياسي في المجتمع هو الذي يحدد صفات وأخلاق أفراده.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم