صحيفة المثقف

التجربة السياسية الشيعة في العراق

مهدي الصافيثقافة الفرد او المجتمع تتحدد بعدة عوامل مشتركة بين الامم والشعوب او المجتمعات الصغيرة منها"الدين-الاثنيات-البيئة وطبيعة الارض (قرى وارياف او مدن قروية او مدن عصرية) -المهن والحرف والصناعة والاعمال التجارية-الموروث الشعبي او القبلي او العائلي-الادب والحكم والامثال والعادات والطبائع المكتسبة..الخ.

ولادة الطائفة او المجتمع الشيعي مر بمراحل ومنعطفات تأريخية مختلفة بعد وفاة الامام علي ع (661م-40هجرية)، واندلاع الصراع الاموي العلوي على قيادة المسلمين والتمسك بسلطة الوراثة، وهذه قضايا مثيرة للجدل وللنقاش الطائفي العقيم، الا ان البحث الاكاديمي المحايد، يمكن له ان يحدد بدايات انطلاق او نشوء الامبراطورية الاسلامية الاموية (عهد معاوية)، التي امتدت فيما بعد الى شمال افريقا والى الحدود الجنوبية الغربية الاوربية في الاندلس، مما تسببت بولادة معارضة قبلية وعقائدية داخلية، تم التعامل معها بقوة السيف تارة، وبالترغيب والترهيب والسجون تارة اخرى...

مراحل صناعة مجتمع المعارضة والخوف والقلق والعمل السري في هذه الامبراطورية (المعارضة الشيعية، والخوارج هي اهم الفرق التي وقفت بوجه الدولة الاسلامية الرسمية بعد وفاة النبي محمد ص، من عهد الخلفاء الاربعة الاوائل مرورا بالدولة الاموية والعباسية وصولا الى العهد العثماني)، ليست عملية هينة، انما تخللتها مراحل عديدة من المعاناة والالم والحرمان والانتفاضات بعد واقعة كربلاء (مقتل الامام الحسين ع واصحابه (10محرم61هجرية) ، وسقوط الاف الضحايا، وبداية رحلة النفي والهجرة والاختفاء، وصولا للعهد العباسي بعد انتهاء الامبراطورية الاموية (132هجرية)، حيث اصبحت الارضية خصبة لولادة المذاهب الاسلامية الاربع (والمذهب العقائدي السياسي الخامس المذهب الجعفري)، اذ كانت المذاهب الاربع (السنة والجماعة) مذاهب الدولة او الامبراطورية العباسية الشبه رسمية (لانها تقلبت مستوياتها واختلفت حظوتها من خليفة او والي وبين منطقة واخرى)، بينما تحول المذهب الخامس الى مذهب معارض رسمي للدولة (على اعتبار انه يمثل الجناح العلوي المنافس الشرعي في الثورة التي اسقطت الحكم الاموي)، وهذه الحالة او الولادة الجديدة ايضا مرت بمراحل صناعة اخرى اختلفت او تطورت كثيرا عن ما كانت عليه بدايات العهد الاموي، حيث يمكن مجازا ان يطلق على العهد العباسي بداية الحراك الفكري العقلي الاسلامي، الذي انتج فرق وطوائف ومدارس اسلامية متعددة ومتناقضة او متصادمة (بعد دخول بلاد فارس في السياسة والحكم..كما حصل بعد ذلك عهد السلاجقة )، هذه المقدمة المختصرة جدا ليست الهدف مما نبحث هنا، انما نود ان ننتقل منها الى تعريف الحالة السياسية-المذهبية الشيعية واسباب تعثرها وانهيارها في الحكم بعد 2003...

بعد نجاح الثورة الاسلامية الايرانية1979 (بقيادة المرجع قائد الثورة السيد الخميني رحمه الله)، واسقاط نظام شاه ايران محمد رضا بهلوي، حدث انفجار عاطفي كبير في الوطن العربي وبقية الدول الاسلامية، اعطى قوة دافعة هائلة للاسلام السياسي في المنطقة، ولهذا تم التخطيط لاسقاط هذا الاندفاع الاسلامي الثوري، بمؤامرة الحرب العراقية الايرانية عام1980، وقد تكرر هذا الامر بعد ذلك بعقود، في مؤامرة (وكأنها صورة طبق الاصل) اسقاط ثورات الربيع العربي بعد 2003، عبر اغراق المنطقة بالحركات الارهابية والوهابية المتعددة الجنسيات، وكأن الامبريالية الرأسمالية العالمية المتحالفة مع دول البترودولار الخليجي، لاتريد لشعوب ودول الشرق الادنى الاوسط النهوض، او ان تنعم بديمقراطية حضارية حقيقية، غير تلك المسرحيات الاصلاحية الهزيلة، بفتح مجالات وفضاءات محدودة للحريات المدنية (كشعار المساواة بين الرجل والمرأة، او التغني بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في المملكة العربية السعودية او فتح دور السينما واقامة الحفلات الراقصة الخ.) ...

 شيعة العراق جزء من المشهد السياسي-الطائفي المعلن في منطقة الخليج العربي-الفارسي، تنامت عندها قوة الحركة الاسلامية الشيعية في بلاد الرافدين، بعد ان كانت متذبذبة او متأرجحة نسبيا بين رفض الحوزة العلمية التقليدية لاقحام التشيع بلعبة السياسة والحكم، وبين قوة تأثير الحركات المتنافسة الاخرى في المجتمع (اليمين القومية العربية، واليسار الشيوعي)، لكن تغيرت الامور جذريا بعد الثورة واندلاع الحرب مع ايران، فقد اعتبر الخطر او المد الشيعي الايراني (بعد ان تم رفع شعار تصدير الثورة الايرانية للدول المجاورة) في المنطقة مثير للازمات الداخلية لبقية الدول (التي تتواجد فيه طائفة شيعية مهمة، كالبحرين، والسعودية، والكويت، فضلا عن العراق الخ.)، حتى بات نظام الدكتاتور الاحمق صدام، يعتبر ان المعارضة السياسية العربية العراقية الشيعية عميلة لايران، وتستحق الاعدام بتهمة الخيانة، وهذه قمة التوحش والاقصاء والتهميش لتاريخ عربي شيعي وطني عريق في العراق،  (وقد اصدر قرار اعدام بأثر رجعي لكل من ينتمي لحزب الدعوة الاسلامية)، واستمرت معاناة المكون الشيعي العربي حتى بعد ان تم ازاحة اكثر الانظمة شرورا في المنطقة (نظام صدام البائد) بعد2003، فقد تحولت المؤامرة الى المرحلة الثالثة، وهي احياء الفتنة النائمة، اي صراع الدول الاسلامية السنية مع دول الهلال الشيعي المفترض (التي تمتد من ايران الى العراق واليمن مرورا بسوريا الى لبنان)، دون ان تكون هناك اية هدنة منطقية او عقلية لاعطاء فرصة للحوار المتبادل بين جميع دول المنطقة، لعلها تحمل في طياتها حلولا جذرية لمشاكل هذه الدول، ذات التأريخ والجغرافية والحضارة والثقافة وحتى البيئة المشتركة...

ايران الاسلامية الشيعية-طالبان الافغانية الوهابية -الاخوان والسلفية في مصر-الوهابية في السعودية والخليج-الحكم الاسلامي الشيعي في العراق تجارب الاسلام السياسي في الحكم اثبتت فشلها، فهي من حيث المبدأ تتعارض مع المبادئ الديمقراطية العامة، ولايمكنها التعايش معها، لكن من الممكن جدا ان تعطي نموذجا سيئا ومشوها عن علاقة الدين بالسياسة، في حال تم المزج بين الدين والديمقراطية، فمنذ عقود تحدثنا عن ان المسلمين ليس بحاجة الى احزاب اسلامية (لانهم بالاصل مسلمين)، هم بحاجة الى احزاب تنموية متحضرة، تؤمن بالديمقراطية، وحرية الرأي والعقيدة، والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة، وبناء دولة الامة المتعددة الثقافات والاعراق والطوائف الخ....

بدأت تجربة التشيع العربي في العراق بالانخراط في العمل السياسي الواسع بعد ولادة الحركة الاسلامية (حزب الدعوة اواسط القرن الماضي)، لكنه اتخذ من فكر اخوان المسلمين النظرة الشمولية في العمل الدعوي، العابر لجغرافية الحدود الوطنية، مما جعل الناس تبتعد عنها لعدم موضوعيتها في الطرح والغايات او الاهداف، وتتجه لبقية الانتماءات والتوجهات السياسية او الفكرية الواقعية، فالحركات الاسلامية عموما لايمكنها مغادرة التراث السياسي الاسلامي، وبعودتها الى الماضي ترجع الى مربع احياء الفتن الطائفية، واثارة الخلافات المذهبية، وتطبيق الحدود او الشريعة الاسلامية، ففي السنة كما في التشيع هناك اختلاف في القراءات كما يقال او في فهم الشروحات للنصوص والتأويل القراني اوشرعية تقديم السنة النبوية على القران الكريم في بعض المواضع او الفتاوى، وهذا علم واسع يجب ان يخرج من المدارس والحوزات والمعاهد الدينية القديمة المغلقة على التراث، الى فضاء العلم التحليلي الحديث، في مراكز الدراسات والبحوث والعلوم الاكاديمية العصرية، واتباع اسلوب المقارنة المنطقية للاديان والاساطير والاثار المكتشفة، التي اصبح بأمكانها ان تضع دراسات الاديان الى جانب العلوم الاجتماعية والانسانية، ودراسات علم الاثار والالسنيات والاساطير والادب القديم الخ.

بعد عام1991 وفشل انتفاضة 15 شعبان في الجنوب والشمال، ظهرت مدرسة شيعية شعبية صدرية اخرى (محمد صادق الصدر رحمه الله)، اختلفت كثيرا عن تجربة الشهيد الاول محمد باقر الصدر (رحمه الله)، الشهد الاول كان ينظر الى تجربة العمل والتنظيم السياسي وسيلة عصرية للمشاركة او الوصول الى سدة الحكم، الا انها بقيت حركة او محاولة نخبوية اسلامية، لم تدعمها الجماهير لجعلها بمستوى تأثير الحركات القومية او اليسارية العاملة حينها، بل كان من المشهور في المحافظات الشيعية اطلاق تسمية "موسكو الصغرى" على بعض المناطق، بعد ان استقطب الحزب الشيوعي الطبقات المسحوقة في المجتمع (مجتمع الفلاحين والعمال فضلا عن الموظفين والمثقفين والفنانين والادباء وابناء شيوخ العشائر ورجال الدين)، وكما يقال ان الفقراء وقود الثورات، لم تكن هناك اية قاعدة شعبية مؤثرة لحزب الدعوة في الشارع، عدا الخطوط والانتماءات المعروفة في المجتمع، بينما عمل الشهيد الثاني (صادق الصدر) العكس بنزوله المباشر الى الشارع (في احياء صلاة الجمعة)، جدير بالذكر ان الحوزة الشيعية التقليدية (في النجف وقم) عارضت الاسلوب السياسي الثوري للشهيدين الصدرين  (وهذا امر وبحث طويل، منه مايتصل بنزاع الحواشي والدوائر القريبة المغلقة والوكلاء على منصب المرجع الاعلى، وامور وقضايا تتعلق بنظرية الحكم الاسلامي في غياب الامام المعصوم الخ.)، المشكلة التي ظهرت بعد 2003 في الحكم الشيعي للعراق، ان النيات لم تكن سليمة او اسلامية خالصة، تنازلت الاحزاب والتيارات والقيادات او مايطلق عليها بالزعامات الشيعية عن حقها الدستوري في قيادة الدولة والشعب، فقد قامت بالمشاركة الرئيسية في عملية تفكيك نظام الدولة والحكم وفق المقاسات والترتيبات الامريكية التي قادها بريمر بخبث (مؤامرة تفكيك الدولة والمجتمع عبر تشكيل مجلس الحكم، ومن ثم الجمعية الوطنيةوفقا للطوائف والمكونات والاثنيات)، ونفذها الجميع بخبث وغباء ايضا، الموافقة على المحاصصة والتوافق في النظام السياسي سمح للانظمة الخليجية او الحركات الارهابية الوهابية، من ان تنفذ الى المناطق الغربية (ذات الاغلبية العربية السنية)، لتقيم لها حواضن ارهابية، او تفتح لها منافذ الاستقطاب الطائفي، وذلك لانها تشعر بحماية تلك البؤر المتوترة لمشاريعها التخريبية  (ولهذا تجدهم في ثورة مطلبية دائمة لخروج الجيش منها، ورحيل قوات الحشد الشعبي عنها)، وكذلك لقربها من العاصمة بغداد (ومن حواضن الارهاب في حزام بغداد)، التي تبقي صورة كراسي الحكم الطائفية ماثلة امامهم (اما عودة العرب السنة لحكم العراق او الاقاليم الفيدرالية او التقسيم والانفصال)، هذا الازمات صنعت مليشيات وفصائل شيعية مسلحة لمواجهة المد الارهابي الداعشي، ولتحرير الارض المغتصبة في المناطق الغربية، بعد ان عجزت المؤسسة العسكرية والامنية عن مواجهة فلول الارهاب الاعمى (عدة اسباب ادت لضعف اداء تلك المؤسسات الدستورية اهمها الفساد المالي والاداري، والمحاصصة في توزيع القادة والضباط والمراتب، والتدخلات السياسية، والفساد والرشوة داخل بعض اقسامها واجنحتها)، التيار الصدري كان له الدور المؤثر في ايقاف المد الداعشي في العاصمة بغداد، ومن ثم في محيط مدينة سامراء (هناك اخطاء وجرائم فردية حصلت اثناء الاقتتال الطائفي بعد تفجير المرقدين العلويين في سامراء عام 2006)، ولكن الاشكال تطور وانتقل الى العمل السياسي، تيارات سياسية لها اجنحة وسرايا وفصائل مسلحة منخرطة بالعملية السياسية ونظام الحكم المركزي والمحلي (كتجربة حزب الله لبنان، وحتى تجربة الحرس الثوري الايراني، الذي يتدخل ايضا بقوة في السياسة والحكم)، تيار او حزب سياسي له جناح او فصيل عسكري في اي دولة من دول العالم، يشارك في الانتخابات العامة، لايمكن الوثوق بنتائجها، او القول بأنها مشروعة او عادلة او نزيهة، حيث يمكن ان يكون التنافس بينها وبين بقية الاحزاب والتيارات السياسية المدنية شريفا او بعيدا عن التجاوزات، فهذه التيارات المسلحة لايمكن ان تتقبل الهزيمة او الخسارة الكبيرة او الابتعاد عن القرار السياسي في الدولة، مع انها حتى لوكانت تمتلك القاعدة او الاصوات الحقيقية للجماهير التابعة لها، فهي لاتعني شيئا امام الدستور والاسس والمبادئ الديمقراطية، لان المسألة لاتتعلق بنسبة الاصوات التي يمتلكها هذا الحزب او ذاك التيار، او بجماهيرية هذه الفئة او تلك، انما بالسلاح وفوهات البنادق المسلطة على الشعب، وعلى صناديق الاقتراع غير الامنة، علما ان الجماعات المسلحة في اي دولة مضطربة (التي يكثر فيها السلاح المنفلت، وعمليات التصفية الجسدية، وكواتم الاغتيال المقيدة اغلبها ان لم يكن جميعها ضد مجهول، وعصابات الجريمة المنظمة، الخ.) لاتعنيها تلك الاجراءات السياسية او المدنية الدستورية، لانها تؤمن بنظرية قوة سياسة الامر الواقع، الذي تفرضه سلطة فوهات البنادق على الارض...

القوة الشيعية المؤثرة في الشارع العراقي بعد 2003 هي التيار الصدري، والاجنحة المنفصلة عنها من التيارات والحركات الشيعية المسلحة (الافرع الصغيرة المنشقة عن التيار الصدري، التي تعاظمت قدراتها بعد فتوى الجهاد الكفائي، والدعم الايراني المفتوح لها)، او تلك التي استغلت فتوى الجهاد الكفائي، لادخال قياداتها وفصائلها المسلحة في تشكيلات او هيئة الحشد الشعبي، لمكاسب ومصالح سياسية بائسة، وما حصل مؤخرا من اعادة صياغة التعريف الواضح للفتوى، بأن من يمثلها من الفصائل المسلحة هي المنضوية تحت مايسمى حشد المرجعية، الرافضة لاستغلال اسم الحشد الشعبي في التنافس السياسي الانتخابي، او في مايسمى بتقسيم كعكة المحاصصة، على مائدة توزيع الوزارات والمناصب الوظيفية العليا بين الاحزاب والكتل البرلمانية (وكأنها علوة الخضرة او قاعة للمزاد العلني، ساحة للنهب والفرهود)، هذه التصرفات والاساليب الملتوية اربكت الشارع الشيعي، واحرجت المرجعية الشيعية السيستانية الهادئة تحديدا، واقحمتها في متاهات الصراع السياسي المحلي والعربي او الاقليمي في العراق، هذا لايعني ان المكونات الشريكة في العملية السياسية نزيهة او بعيدة عن الفساد واسباب انتشار الارهاب، الا اننا نتحدث عن تجربة انتظرها شيعة العراق قرون طويلة...

ثورة تشرين في بغداد والمحافظات الشيعية2019، وسقوط المئات من الشهداء والاف الجرحى، وماجرى بعدها من اعتقالات عشوائية، وعمليات تعذيب ممنهجة للناشطين وبعض المتظاهرين، وزيادة نسبة عمليات الاغتيال العلنية، وتقاعس المؤسسة العسكرية والامنية والحكومة عن كشف مايسمى بالطرف الثالث (المتهم بقتل المتظاهرين)، ودخول التيار الصدري (القبعات الزرق) لساحات التظاهر، وتهديداته العلنية لبعض المتظاهرين، فتحت ابواب النقد والمراجعة والمواجهة امام الجميع، وظهرت عدة اسئلة نخبوية وشعبية على السطح، حول ضرورة ابعاد الدين او الطائفية والاثنية عن السياسة والنظام الديمقراطي، ثم فتحت جوانب واسئلة فرعية داخل كل مذهب او طائفة عن علاقة النظام الديمقراطي بالدولة والامة، فبعد الهزيمة التاريخية للمذاهب السنية الاربع (وجماعة الاخوان) امام تصاعد المد السلفي والوهابي والداعشي الارهابي، وانتقال ظاهرة الدعشنة او التدعيش الى التشيع السياسي (في ايران، والحركات الشيعية المتطرفة في العراق)، اصبحت الخيارات محدودة امام الشعوب العربية والاسلامية، وباتت لاتملك غير خيار انظمة الحكم الديمقراطية العلمانية، والتفكير الجدي بصناعة او انتاج ثقافة سياسية عربية تنموية اصلاحية، تنظر الى تجارب الامم والدول المتحضرة في العالم، على انها النموذج العلمي العملي الواقعي لنجاح الشعوب في بناء الدول المتطورة...

كانت تجربة الشيعة في الحكم بعد 2003في العراق سيئة، بل كارثة كبرى، اذ انها جلبت او جرت المذهب الجعفري والشيعة الى المشاركة والمنافسة في السياسة وادارة الدولة، فظهرت كل العيوب والمساوئ والانحرافات او الاشكالات العقائدية او المذهبية عبر الفساد والفشل والاخفاق والنهب المنظم لثروات الشعب وظلم فقراء الشعب وسحقهم (كما فشلت حركة اخوان المسلمين والوهابية في الخليج)، ولازلنا نؤكد على ان اسلوب السيد محمد صادق الصدر (رحمه الله) في فتح حوزته، ومسجد الكوفة لعوام الناس، او ما يطلق عليهم اليوم اتباع التيار الصدري، كانت تجربة مريرة، لاتختلف كثيرا عن تجربة الامام علي ع او الامام الحسن والحسين ع مع شيعة الكوفة، مع انها انتجت الصفوة او الثلة المخلصة، ولكنها انتجت ايضا القاعدة الجماهيرية المتناقضة والمتباينة في تدينها او ايمانها، فالجاه والسلطة صنعت الظاهرة القارونية في البلاد، مع انها اكثر توحشا وتجاوزا ونهبا من قارون نفسه، كان الناس من مختلف الاديان والطوائف تلوذ بالمراجع ورجال الدين الشيعة، اليوم بات يردد الشيعة والشعب "بأسم الدين باكونه اي سرقونا الحرامية"، يكرهون سيرة او ذكر اسم رجل الدين او اي زعيم او تيار سياسي اسلامي شيعي او سني، في مرحلة تاريخية مصيرية، وضعت الدين والمذاهب والحركات الاسلامية على طريق المواجهة الشاملة مع الحضارة الالكترونية -الفضائية...

الخلل ليس في الدين او في فطرة الناس، انما بالتفكيروالعقول التراثية المتصارعة مع ذاتها، التي لاتقوى على المراجعة بنية التغيير والاصلاح، ولايمكنها تقبل نتائج المواجهة مع التطور العلمي والتكنولوجي او التقدم السياسي الحضاري العلماني، لان ادواتها المعرفية معطلة بالكامل، هي مشلولة امام العلم، لان حقيقة الايمان بوجود الخالق عزوجل، والاديان لايمكن لها ان تقدم الفهم التاريخي الاسطوري لهما كحجة او دليل امام الحقائق العلمية وحتى الموضوعية، بينما بالعقل والعلم والمعرفة يفهم الناس ربهم ودينهم بصورة مختلفة عما يقدمه من يحسب انفسهم وكلاء الله عزوجل على خلقه...

كان الناس يعتقدون ان رجل الدين او الاسلامي الحركي صاحب كتاب الحلال والحرام والخطوط الحمر، لايمكنه ان يسرق دينارا او سنتا واحدا، او حتى يكذب او يكون منافقا وانتهازيا، لان زحمة ضخ الصور الدينية والاحاديث الصحيحة والملفقة عن نزاهة الصحابة او السلف الصالح، والاتباع والخلفاء والولاة، جعلت من تلك الاكاذيب حقائق راسخة بالوجدان الشعبي للمسلمين، لكنها سقطت مع اول تجربة جلبت الويل والفساد والارهاب والفوضى للمجتمعات، الفساد الذي لم يستثني مجالا معينا، بما فيها مجالات قوت الناس وادويتهم واحتياجاتهم الاساسية (كما حصل من نهب للبطاقة التموينية واموال مخيمات النزوح، والادوية ومشاريع بناء المستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق، وبقية الخدمات الضرورية لحياة وبيئة امنة خالية من الاوبئة والامراض) ..

بعد ان مرت الشعوب العربية المسلمة (السنية والشيعية) بتجارب الحكم الديني الطائفي الفاشلة، التي لم تخلف غير الفساد والمعاناة والجهل والتخلف والارهاب، صار لزاما ان تفكر هذه الشعوب بصناعة دولة الامة الموحدة خلف الفكر والثقافة السياسية التنموية، التي بدورها ستكون قادرة على ان تنتشل ابناء تلك المجتمعات المحطمة بسبب البطالة والفراغ، وانتشار الجريمة والمخدرات، او حالات الاحباط واليأس، الى واقع التنافس والسباق الدولي نحو بناء دولة التطور والازدهار والتكنولوجيا، لاسبيل للنجاة او الخروج من هذه الماساة، الا بالوحدة الاجتماعية والالتفاف حول النخب المثقفة والمفكرة، تلك التي لايمكنها ان تنظر الى الحياة على انها وسيلة لاغتنام الفرص، انما الى حياة العمل والصناعة والانتاج والتقدم العلمي، الذي سيجلب السعادة والامل والرفاهية والامن والاستقرار كما حصل في اوربا الحديثة، بعد معاناتها الطويلة مع حكومات القرون الوسطى، فالتطور الاخلاقي والعلمي والابداع الانساني جاء بارادة الله عزوجل، وليس عبر بوابة الكنيسة او المسجد او الحسينية او فتاوى الفقهاء او المذاهب والفرق، الاسلام اوسع من ان يختزل بحوزة او معهد ديني او رجل دين او حركة اسلامية، هو يمثل اهم قاعدة الهية متينة لبناء المجتمعات الانسانية على اسس ومنطق علمي عقلاني رصين، لايمكنه ان يتجرد عن اسرار واكتشافات هذا الكون الواسع..

الدولة او الامم التي لايقودها الاذكياء ستفشل

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم