صحيفة المثقف

جيلُ الشياطين

ناجي ظاهروقعت احداث هذه القصة قبل سنوات بعيدة موغلةٍ في البُعد، تعود الى اعماق السبعينيات من القرن الماضي. يومها كنت في نحو العاشرة من عمري. كان ذلك حين رفعت رأسي وسط الحي الشرقي لأرى الدنيا وقد تزيّنت بالوان قوس قزح، بعد امطار عاتية. في الناحية الاخرى من الحارة. شاهدت مجموعة من ابناء الحارة ترسل انظارها نحو آخر الزقاق، وتبدأ باستنفار ذاتها رويدا رويدا.. بعدها انطلقت من حناجرها صرخة..

- طويل طول النخلة.. عقله عقل السخلة.

ارسلت نظري الى حيث اطلقوا صرختهم، فرأيت شخصًا طالما رأيته في مناماتي واحلامي. كان يمشي متمايلًا جرّاء رصاصة غادرة اخترقت قدمه اليسرى.. اغمضت عينيّ لاستعادة ما رأيته طوال سنوات وعيي.. مناماتي واحلامي.. كان ذلك الطويل يحاول أن يرد هجمةَ عصابةٍ من مهاجمي قريتنا سيرين على اعقابهم.. بعصا اقتدّها من شجر السوّيد.. استعملها في رعاية مواشيه وتوجيهها في المسارب المؤدية إلى مواقع الكلأ والاشجار الصالحة لغذائها.. كنت اشاهده وهو يبذل كل ما لديه من جهد ليردّ مهاجمي قريته.. وفجأة يسقط أرضًا بعد اصابته برصاصة طائشة.. كنت أراه يزحف على ظهره ليغور في أعماق أرضه.. وكان يغيب.. وها انذا أراه يمثُل امامي خارجًا من غياهب الذاكرة.. ليسخر منه ومن مشيته اولاد الحارة.

فتحتُ عينيّ.. ارسلت نظري إليه.. كان يولّي ظهره غير آبهٍ بصرخات اولاد الحارة.. يواصل سيره غيرَ ناظرٍ إلى الوراء كأنما هو يسير في طريق لا نهاية لها. احزنني ما حدث وخطرت لي خطة شرعت من فوري في تنفيذها.

في أول لقاء لي مع من أحبّ اللعب معي من ابناء الحارة. سألته عن سبب مضايقته هو واقرانُه لذاك العابر الطويل. فقال لي إنه لا يعرف السبب وان كل ما فعله هو انه صرخ كعادته مع الصارخين.

- هل تحب أن تستمع إلى حكاية غريبة بطلُها رجلٌ طويل؟ سألته.. فرد هازًا رأسه علامة الموافقة. عندها اغمضتُ عينيّ ورحتُ اروي له ما رأيته طوال سنوات وعيي .. مناماتي واحلامي، عن ذلك الراعي المقاتل.. وعن إصابته برصاصة مهاجمي قريته. ما ان انهيت حكايتي هذه حتى سألني الصارخ:

- هل يمكن ان يكون هذا الطويل. بطلّا صنديدا؟

وأضاف بعد هنيهة صمت:

- لو كان بطلًا كما تقول حكايتُك ما كان ترك قريته.

ما ان قال الصارخ كلمته هذه حتى تذكّرت أهلي.. الم يكونوا أبطالًا؟ لهذا تركوا قريتهم؟

في الليل عندما جمعنا كانون النار في ليل شتوي بارد، توجّهت إلى أبي. سألته عن سبب تركه قريتنا. فنظر صوبَ البعيد ولاحت في عينيه العجوزين دمعةُ حزينة.

- عندما تكبر ستعرف لماذا تركنا قريتنا. قال.

- انا كبرت يا أبي.. أريد أن أعرف.. ألم تكونوا ابطالًا. قلت.

عندها انحنى ابي على كانون النار.

- اذا كنت قد كبرت حقًا.. سأقول لك إنه لا أحد يموت من خاطره.

فهمتُ ما قاله أبي. وانتظرت أول لحظة التقي خلالها بذاك الولد الصارخ.. لأكمل له حكايةَ ذلك الطويل.. القابع في وعيي.. منامي وحلمي. بعد اختلاقي قصة عن البطولة والصمود والموت القسري.. سألني الولد الصارخ:

- والحل.. ما هو الحل رأيك؟

عندها اغتنمتُ الفرصةَ. وأجبت:

- الحلّ.. هو أن نعرف القصة الحقيقية لذاك الطويل.

وافقني الصارخ الرأي.. وتوصّلنا نحن الاثنين معًا. إلى أننا يفترض أن نفعل شيئًا ينصف ذلك الطويل.. إذا كان حقًا بحاجة إلى من يصفه.. وشرعنا في اجراء مفاوضات مع اولاد الحارة لإقناعهم بموقفنا.

في الساعة المحدّدة.. في الدقيقة والثانية.. أطل ذلك الطويل من اقصى الحارة.. ما ان اقترب من حيث اقتعدنا ارضها.. حتى انطلقت الهتافات:

طويل طول النحلة.. عقله عقل السخلة.

مضى الطويل وقبل ان يغيب في غيهبه.. وجدنا انفسنا نحن ابناء الحارة ننقسم الى فريقين.. فريق اليمين وقبالته فريق اليسار.. وشرع فريقُنا اليسار في مناقشة فريق اليمين.. وتعالي النقاش فيما بيننا حتى كاد يصل إلى الاشتباك بالأيدي.. ولم نتوقف إلا عندما عاد الطويل وراح يتفرس في وجوهنا واحدًا بعد الآخر.. عندما اصطدمت عيناه بعيني. سألته:

- لماذا تركتم القرية لمهاجميها؟

فرد قائلًا:

- لان طولي طول النخلة وعقلي عقل السخلة.

عندها تعالت ضحكات فريق اليمين.

بسرعة تذكرّت ما قاله لي أبي.. رددت بكل ما لدي من عزم وإرادة:

- لا احد يموت من خاطره.

اشتدّ حيل الطويل وارسل نظره الى البعيد.. البعيد وقال:

- اذا كنّا نحن اضعناها بغفلتنا.. أعيدوها انتم بذكائكم.

ومضى.. منذ ذلك الوقت اختفى ذلك الطويل ولم يعد للظهور في حارتنا مرة اخرى.. تاركًا وراءه كلماتٍ ما فتئت تتردد في اذاننا جميعا.. أعيدوها انتم بذكائكم.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم