صحيفة المثقف

البحث عن سالم الفطير

انمار رحمة اللهلم أرتح في حياتي سابقاً لشخص يصفني بــ "الفطير"، بل كل من أعرفه من طفولتي وإلى الآن، قلما رأيت رجلاً يرضى حين يصفه أحدهم بهذه الصفة ماعدا (سالم). كان لا يبالي إن ناديناه بــ (سالم الفطير).. ولا أبالغ إن قلت أنه كان يشعر بالارتياح.. وكنت اتساءل بيني وبين نفسي، كيف يرضى الرجل الباحث عن القوة والصرامة والتجبّر، أن يصفه أحد بهذه الكلمة كسالم زميلنا الذي عرفناه في الجيش؟!. هذه الكلمة التي نطلقها عادة على أولئك الأشخاص الطيبين بإفراط حدَّ السذاجة.. بداية معرفتي به كانت حين جمعني به القدر في إحدى مواقف السيارات، تلك التي يستقلها الجنود الذاهبون عند التحاقهم بكتائبهم العسكرية. وبالتحديد قبل أن نركب السيارة المتوجهة إلى الوحدة ذاتها. وقفت عند دكّان بقالة محاذ للكراج، أجس بنظري الفواكه بدقة حتى أفوز بأفضل ثمرة عنده، فرأيته وهو يحدث البقال عن ثمرة تفاح كان نصفها سيئاً كما يبدو. ثم ألتقطها بيده ودفع للبقال ثمنها، فحاولت تنبيهه إلى أن الثمرة التي في كفه غير صالحة، وعليه كرجل نابه أن يبدل هذه الثمرة بأخرى صالحة. لكنه أجابني بعبارة غريبة وحزن طافح على وجهه (إذا لم أشترها منه فمن يرضى بها؟). وحين تهكمت من عبارته قائلاً (هل كسر خاطرك البقال؟.. هذه مشكلته لا مشكلتك). أجاب مرة أخرى (إذا لم أشترها ستظل كاسدة فيصيبها التلف أكثر ولن يقبل بشرائها أحد). في حينها عرفت أن هذا الرجل مسكين أو أبله أو (فطير) كما شاء لنا تسميته لاحقاً في الكتيبة. ولم يكن هذا هو الموقف الأخير، بل جمعني به موقف آخر حين عدنا للمدينة التي نمرُّ من خلالها لوحدتنا العسكرية لشراء بعض اللوازم. وكان من ضمن الأمور التي أريد شراءها إبريق لحمل الماء أستعين به على قضاء حوائجي، وكان سالم يريد أيضاً طشتاً يغسل به ملابسه، ولما وصلنا إلى بائع اللدائن، أخترت أنا أفضل قطعة عنده، وصرت أدوّرها في يديّ لمعرفة إن كانت صالحة أو لا. لكن سالم هبط مباشرة على طشت واختاره من دون أن يجسّه أو يتفحصه، فنبهته لضرورة إلقاء نظرة على السلعة لعلها مكسورة أو فيها ضرر ما، وبالفعل كان الطشت فيه فطر صغير من جانبه المستدير. لكن سالم ألقى نظرة على الفطر وقال مرة أخرى بحزن( إن لم أشتره أنا فمن غيري يشتريه؟). لم أتكلم معه صراحة، لكنني اكتفيت بضحكة  في الكتيبة حين عاد سالم مع طشته، وصار يغسل ملابسه والماء يسيل من جانبه، والجنود الآخرون يضحكون ويطلقون النكات عليه وأنا بينهم.. كان سالم يغسل الملابس في طشته المكسور وينظر إلينا ويضحك براحة عجيبة!!. ثم بدأت هواجسي حوله تزعجني صراحة.. لماذا يتصرف رجلٌ هكذا؟!. هل هو دافع فطري أم مُكتسب؟؟. حتى أنني كنت أتخيل مسكه في مكان بعيد في وسط غابة، وأقيده وأجرده من ملابسه وأضربه بسوط لعله يفيق من هذه "الفطارية" اللعينة التي استحوذت عليه. خصوصاً بعد عدة مواقف صار فيها سالم (نصبة) لجنود معنا في الكتيبة لا يرحمون شخصاً مثله. فكيف يقضون الليالي الطويلة الباردة، بلا سالم الذي صار مختبراً لتجاربهم في النكات والسخرية، والأمر المحزن انه لا يبدي أي تأثر، بل كان سعيداً بهذا، وحين أوبخه وأقول له كيف تدعهم يسخرون منك هكذا، يجيب كعادته (إذا لم أدعهم يسخرون مني فمن غيري يقبل بهذا؟).. ثم تعدى الأمر السخرية.. فذات مرة ورطه أحدهم بعقوبة لم يكن له ضلعاً فيها، ولما استفسرت الأمر من الآخرين قالوا أن جندياً مجهولاً أفلت من عقوبة عسكرية في تقصير له، ورمى أخرُ القضية كلها برأس سالم الفطير. ولم تحزنني سوى عبارته التي مزق قلبي غيظا بها منه، حين قال لما سألته لماذا لم يدافع عن نفسه ويدفع العقوبة قال( إذا لم أقبل بها من سيتحملها غيري؟). وعلى أثرها أمر الضابط بأن يتدحرج سالم عارياً على ساحة التدريب ذهاباً وإياباً، وأن يحلقوا شعره نمرة صفر علناً أمام الجنود، ويلقون به في السجن لمدة أيام.. ثم حدث الشيء الذي كنت أخشى وقوعه.. وحدتنا العسكرية كانت موقعاً مكشوفاً أمام أي هجوم جوي متوقع، لهذا كنّا نمتثل لأوامر صارمة في إنشاء مواقع بديلة في حالة حدوث أي غارة. وفي الحقيقة كنّا عازمين في أنفسنا أن لا يظل أحد منّا في المكان عموماً إذا حدث شيء، بل كنّا نخفي ملابسنا المدنية في حقائبنا خشية أن ترصدنا طائرة ما بملابسنا العسكرية، فنرتدي الزي المدني ونهرب من نيران تلك الطائرات التي تصبها فوق رؤوسنا. وبالفعل أقبل هذا اليوم الذي أحمرت به السماء، وملأ دخان القنابل الأرجاء في كتيبتنا.. في الحقيقة كنت خائفاً على نفسي، ولم أفكر إلا بخلاصي حالي كحال الجنود والضباط والقائد الذي كان أول الهاربين، بعد أن تقيأ أوامره وتعليماته بأن لا يغادر الجنود مواقعهم دفاعاً عن أرض الوطن وهيبته. لكننا لم نمتثل، فليس من المعقول أن يمتلك الرجل منا عقلاً، ويقاوم في هذا الحال الميؤوس منه سوى سالم الفطير.. فقبل هروبي من هذه المعركة الخاسرة بدقائق، جمعتني بسالم لحظةٌ مليئة بالقلق والخوف والترقب. صرخت في وجهه أن يترك سلاحه ويهرب، فلا جدوى من المقاومة ولا المواجهة في حال كحالنا، لكن سالم كعادته ولكن بخوف واضح على وجهه أجابني وهو يترجف مرتعداً بشدة (ألم تسمع القائد..؟ إذا غادرتُ من سيبقى غيري؟؟). أخبرته أن القائد قد هرب وكذلك الضباط والجنود ولم يبق سواي أنا وهو، وسبب بقائي كان هو حقيقة. فعلى الرغم من خشيتي على سلامة نفسي، إلا أنني كنت غاضباً من احتمال بقاء سالم أسيراً لهواجسه المعتادة.. ثم ان الموقف هذا لم يستمر، فقد أدرت ظهري له وخرجت من البناية التي كان يحتمي سالم بداخلها، ثم سلكت طريقاً آمناً بين الأشجار ودشداشتي تحت إبطي. وما ان شعرت أن الموقف قد حان لخلع ملابسي العسكرية، لم اتوان في تغيير هيئتي، وحملت مسحاة عتيقة عثرت عليها صدفة عند ساقية، وتظاهرت أنني فلاح من تلك البساتين المحاذية لكتيبتنا.. وقفت بعدها على مسافة، أنظر إلى القنابل التي تنهمر على أبنية الكتيبة، وذلك الأدخنة المتصاعدة كأنها ثعابين سود، وأفكر في سالم الفطير ماذا حلّ به الآن؟!!. كان هذا المشهد هو آخر ما تبقى في كيس ذاكرتي من ذلك اليوم.. ماذا حلّ بسالم!!. لماذا لم يهرب ذلك التعيس معي؟!. لماذا جعلني أفكر به حتى هذه اللحظة في يقظتي واحلامي؟!. كلما غفوت من وقت إلى وقت قفز وجهه ذاته، بملامحه الخائفة المسكينة ساعة القصف، وهو يقول بصوت كأنه صدى (لماذا تركتني وحيداً؟!). وأصحو من الكابوس صارخاً، ثم تلزمني الكآبة طوال اليوم.. وكم حاولت إقناع نفسي إلى أنه هو من أختار نهايته بيديه، حين اختار ان يكون "الفطير" في وقت كان يتطلب من الرجل أن يكون ذئباً مع هذه الحياة. ولكن بلا جدوى أحاول إقناع نفسي فأعود إلى تأنيبها ولومها.. هل ذهب سالم للجنة وتركني في حياتي أعيش نار التأنيب والغضب والحزن؟. هل أرتاح سالم وبقيت هنا أجترّ مرارات الأيام حين يخالط وجهه ذو التعابير المسكينة، وصوته الصادق المرتعش ذهني؟!. وكنت اتساءل أيضاً.. هل انقرض سالم وفنيت سلالته من الوجود؟.. هل يوجد إنسان مثل سالم، لكي أكفّر عن ذنبٍ أتخيّل أنني ارتكبته حين تركته، ولم أضربه على رأسه وأحمله مبتعداً رغماً عنه بعيداً عن ساحة الموت.. سنوات مرت.. وأنا في كل يوم أغظ النظر عن بقّال الحي، ذلك الذي يحشر في كيس تبضعي الفاكهة الفاسدة، وأنا أعلم أنه يغشني لكنني لا أعترض.. سنوات وأنا أفتّش في محلات الأغراض عن طشت مكسور توبخني إذا اشتريته زوجتي قائلة (يا لك من فطير.. غشوك حين باعوك طشتاً مكسوراً مثل كل مرة) فأجيبها بحزن كالعادة (إن لم أشتره أنا فمن غيري يشتريه؟).

***

أنمار رحمة الله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم