صحيفة المثقف

يصعدون إلى القمر

صالح الرزوقيصعدون إلى القمر ولكن يبدو أنهم غير مهتمين بدقات القلب البشري

بقلم: مارلين مونرو

ترجمة: صالح الرزوق


(ملاحظة من المحرر: في الخامس من شباط 1961، أودعت المطلقة حديثا، والمجهدة عقليا، مارلين مونرو، وبرعاية من الدكتورة ماريان كريس، في مصحة باين واتني للأزمات العقلية في نيويورك. وأقامت في غرفة مصفحة لمدة أربعة أيام فقط بعد تدخل مشكور من زوجها الثاني جو ديماجيو. وفي الأول من آذار كتبت مونرو - التي كانت تتعافى في مستشفى نيو يورك - رسالة من ست صفحات لطبيبها النفسي الآخر، الدكتور رالف غرينسون، وتكلمت فيها عن محنتها. وبعد عام وجد غرينسون، للأسف، مونرو ميتة في بيتها في لوس أنجليس).

........................

1 آذار 1961

الآن فقط حينما نظرت من نافذة المستشفى إلى الثلج الذي كان يغطي كل شيء، لاحظت فجأة أن كل شيء مثل غطاء أخضر أبكم. العشب، والشجيرات دائمة الخضرة الهزيلة - كانت الأشجار تعطيني القليل من الأمل - مع ذلك كانت الأغصان الواهمة والعارية تمنحني وعدا بربيع قادم، وربما هذا الوعد ينطوي على القليل من الأمل.

هل شاهدت “الناشزون” بعد؟. كيف كنت أرى الشجرة عارية وغريبة في نفس الوقت. لا أعلم إن كانت تبدو هكذا على الشاشة - لا أحب بعض اللقطات المختارة التي وظفوها. وحينما بدأت بكتابة هذه الرسالة سقطت أربع قطرات دمع بهدوء. ولا أعرف بالضبط ما هو السبب.

كنت أمس مستيقظة طوال الليل كالسابق. أحياناً أتساءل ما الفائدة من الليل والتوقيت الليلي. فهو تقريبا غير موجود عندي - كل شيء يبدو وكأنه يوم واحد طويل، يوم طويل وفظيع. على أي حال، فكرت في أن أكون إيجابية حياله وبدأت في قراءة رسائل سيغموند فرويد. عندما فتحت الكتاب لأول مرة رأيت صورة فرويد في الداخل مقابل صفحة العنوان وانفجرت بالبكاء - بدا مكتئبا جدا (ولا بد أن الصورة مأخوذة قرابة نهاية حياته)، فقد توفي وهو رجل خائب - ولكن الدكتورة كريس قالت إنه كان يعاني من ألم جسدي عضال وهو ما نما لعلمي من كتاب جونز - ولكن أيضا يمكنني معرفة ذلك بالاحتكام لغريزتي التي أثق بها ومن ملامح وجهه اللطيف والكئيب. يكشف الكتاب (على الرغم من أنني لست متأكدة ما هي الرسالة التي يجدر بنا نشرها) أنه لم يكن متصلبا!. أعني أن فكاهته اللطيفة والمحزنة وحبه للسعي كان أبدياً وجزءا لا يتجزأ منه. لم أقطع شوطا طويلا معه لأنه في نفس الوقت كنت أقرأ السيرة الذاتية الأولى لشون أوكيسي - (هل أخبرتك كيف كتب قصيدة لي ذات مرة ؟). في النهاية - قلقت من هذا الكتاب كما هو متوقع لو صادفتك أمور من هذا النوع.

2182 monreلم يكن هناك تعاطف معي في باين ويتني - وتركت عندي أثرا سلبيا جدا - فقد سألوني بعد أن أودعوني في “زنزانة” (أعني علبة إسمنتية وما شابه ذلك) عما إذا كنت أعرف شيئا عن المرضى المضطربين والكآبيين (علاوة على أني شعرت كأنني في سجن من السجون لجريمة لم أقترفها. اللإنسانية هناك متعمقة. وسألوني لماذا لا أشعر بالسعادة برفقتهم). كان كل شيء مغلقا عليه بالقفل والمفتاح. (أشياء مثل الأنوار الكهربائية، وأدراج خزانة الزينة، والحمامات، ومستودعات الثياب، والقضبان التي تدعم النوافذ - كان للأبواب نوافذ ويمكن رؤية المرضى طوال الوقت للمراقبة، وأيضا، كان العنف والعلامات التي يتركها لا تزال على الجدران من جراء مرضى سابقين). أجبت قائلة:”حسنا، أكون معتوهة لو أحببت هذا المكان”. ثم تناهى لسمعي عويل نساء من زنزاناتهن- وهن نساء تصرخن لأن الحياة بلغت درجة لا يمكن احتمالها على ما أعتقد - وكان في أوقات من هذا القبيل، على ما أظن، يحضر إليهن طبيب نفساني ويجاريهن بالكلام والملاطفة. ربما ليخفف مؤقتا من بؤسهن وألمهن. وعلى ما أظن (الأطباء) سيستنتجون شيئا ما من ذلك - ولكن كانوا يربطون كل شيء بمصدر واحد وهو الكتب التعليمية - وكم استغربت من ندرة المعلومات التي يعرفونها. ربما يمكنهم اكتشاف المزيد من الاطلاع على معاناة البشر الأحياء - كان لدي إحساس أنهم يهتمون بالسيطرة على المريض، وهم لا يطلقون سراحه إلا بعد أن ييأسوا منه. ثم طلبوا مني الاختلاط مع البقية، وأن أشترك بالعلاج المهني (ع. م.). قلت:”وما هو؟”. قالوا:”الخياطة أو لعب الضامة، أو حتى الورق وربما الحياكة”. وحاولت أن أبين لهم أن هذا هدر للوقت فقط، غبار يلوث اليدين فقط. فقد كانت مثل هذه الأمور بعيدة عن ذهني تماما. سألوني بعد ذلك لماذا أنا مختلفة (عن بقية المرضى). وحزمت رأيي: لو أنهم بهذا الغباء يجب أن أقدم لهم ردا بسيطا. لذلك قلت:”هذا ما أنا عليه وحسب”.

في أول يوم “اختلطت” مع مريضة. سألتني لماذا أبدو حزينة، واقترحت أن أتصل بصديقة لأخفف من وحدتي. أخبرتها أنهم أنبأوني أنه لا يوجد هاتف في ذلك الطابق. وبالإشارة للطوابق، كانت كلها مغلقة - لا أحد يمكنه الدخول أو الخروج منها. صدمتها بكلامي حتى ارتعشت وقالت:”سأقودك لهاتف حالا” - وبينما كنت أنتظر بالطابور ليحل دوري باستعمال الجهاز لاحظت وجود حارس (فقد كان يرتدي بذة رمادية)، وحينما اقتربت من الجهاز مد يده وقال بصلابة:”الهاتف غير مسموح لك”. بالمناسبة، كانوا يعتزون أنه لديهم هنا جو منزلي أليف. سألتهم (الأطباء) على أي أساس بنوا قناعاتهم. أجابوا:”حسنا، الطابق السادس مشهور بالسجاد والأثاث الحديث”. وعلقت فورا:”حسنا، مهما قدم المصمم من ديكور داخلي - لا بد من توفير النقود السائلة له”. كنت أقصد ضمنا باعتبار أنهم يتعاملون مع بشر لماذا لا يستطيعون أن يفهموا الحالة الداخلية للكائن البشري.

وكان يبدو أن الفتاة التي دلتني على الهاتف ضعيفة وسطحية. وقالت بعد أن منعني الحارس بيده الممدودة “لم أعتقد أنهم يتصرفون هكذا”. ثم أضافت:”أنا هنا بسبب ظروفي العقلية - قطعت حنجرتي عدة مرات وقطعت شرايين معصمي”. - وأضافت بلغ عدد المحاولات ثلاث أو أربع مرات.

انبعث رنين معدني jingle في ذهني:

واتربط ذلك بالعبارة التالية بطريقة لاشعورية :”الرنين يعني تلامس المعادن mingle - ولكن كيف يكون لدي تلامس وأنا مولودة وحيدة وأعيش بعزلة تامة”.

آه، حسنا. الرجال يصعدون إلى القمر ويبدو أنهم غير مهتمين بقلب بشري حي ينبض. يمكن للإنسان أن يتغير لكن هذا غير مؤكد - بالمناسبة، ذلك هو الموضوع الأصلي للـ “الناشزون” - ولم يفهم أحد هذه الفكرة حتى هذه اللحظة. وهذا جزئيا، برأيي، يعود للتبدلات في النص المكتوب، وبعض التغييرات في الإخراج و....

في وقت لاحق كتبت:

أعلم لن أكون سعيدة ولكن يمكن أن أمرح!. أخبرتكم أن كازان قال كنت أبهى بنت قابلها في حياته، وصدقوني كان يعرف كثيرات. غير أنه أحبني لعام واحد، ومرة هدهدني حتى غرقت بالنوم ليلا بعد المرور بفورة غضب. واقترح كذلك أن أخضع للتحليل، ولاحقا طلب مني أن أتعاون مع معلمه لي ستراسبيرغ. هل كان ملتون من كتب يقول:”السعيد لم يولد قط”. وأعلم أنه على الأقل يوجد طبيبان مختصان بالأعصاب، وانشغلا بالبحث عن مقاربة إيجابية للاضطرابات النفسية.

هذا الصباح. 2 آذار

مجددا لم أرقد في الليلة الماضية. نسيت أن أخبركم أمس بشيء ما. عندما أودعوني في أول غرفة في الطابق السادس لم أكن أعلم أنه طابق الصحة النفسية. وقالت الدكتورة كريس إنها ستزورني غدا. وجاءت الممرضة (بعد حضور الدكتور، طبيب الصحة العقلية) للفحص الفيزيائي، وتضمن ذلك معاينة الصدر خشية وجود أورام. وحاولت أن أمنعه لكن ليس بعنف. وحاولت أن أعرب عن رأيي: أن الطبيب الذي وضعني هنا، والحقيقة أنه رجل غبي وأحمق يدعى الدكتور ليبكين، فعل ذلك قبل ثلاثين يوما. ولكن عندما جاءت الممرضة لاحظت أنه لا توجد وسيلة، جرس أو زر موصول بمصباح، لاستدعاء الممرضات. وسألتها عن السبب وعن أشياء أخرى، فقالت لأنه طابق الصحة النفسية.

وبعد أن غادرت ارتديت ثيابي، وبعد ذلك التقيت مع الفتاة التي دلتني على الهاتف. كنت أنتظر عند باب المصعد، وكان يشبه بقية الأبواب وله قبضة لتفتحه، لكن يختلف بشيء واحد أنه بلا أرقام (لم يضعوا له رقما). وتكلمت مع الفتاة وأخبرتني عما فعلته بنفسها ثم عدت أدراجي لغرفتي ولدي قناعة تامة أنهم كذبوا علي بما يخص الهاتف. وجلست على السرير أفكر بهذا الوضع الذي ورطوني به، وكيف أتصرف لو كنت أرتجل دورا في تمثيلية من هذا النوع. كانت أفكاري مثل عجلة لها صوت صرير وتحتاج للزيت. وأعترف أن الصرير كان مرتفعا ولكن الفكرة كانت واضحة فقد اشتركت في فيلم يدعى “لا ضرورة لقرع الباب”. حملت كرسيا خفيفا وضربت به الزجاج، وكان هذا صعبا لأنني لم أكسر شيئا من قبل. ثم تهشم الزجاج. وكنت بحاجة لعدة ضربات للحصول على قطعة زجاج - وأسرعت بحمل الزجاج في يدي وجلست على السرير بانتظار حضورهم. وعندما وصلوا قلت لهم:” لو أنكم ستعاملونني كمجنونة سأجرح نفسي كمجنونة”. أعترف أن ما حصل بعد ذلك كان صعبا ولكن سبق أن فعلته في الفيلم باستثناء أنني استعملت في التمثيل حد الشفرة وليس شظايا الزجاج. وألمحت إذا لم يطلقوا سراحي سألحق الضرر بنفسي - وكان هذا أبعد شيء عن ذهني في تلك اللحظة. وكان الدكتور غرينسون يعلم أنني ممثلة ولا يمكن أن أتعمد ترك أثر واضح أو أي تشويه. كنت متألمة فقط. وحينما حاولت أن أضر نفسي، في وقت آخر، فعلت ذلك بحذر باستعمال عشرة حبوب مخدرة (سيكونال) وعشرة حبوب منومة (تيونال)، وقد ابتلعتها بمتعة (هذا ما شعرت به حينها). ولم أتعاون معهم بأية طريقة لأنه لم يكن بمقدوري الثقة بتصرفاتهم. وطلبوا مني الانصراف بهدوء، لكن رفضت التحرك، وبقيت على السرير حتى تعاون أربعة للقبض علي، امرأتان ضخمتان ورجلان ضخمان، وحملوني للطابق السابع بالمصعد. كان يجب أن أقول على الأقل أنهم تحلوا بالأخلاق وحملوني ووجهي نحو الأسفل. بتعبير آخر لم يكن وجهي للأعلى. وكنت أبكي بصمت طوال الطريق ثم أودعوني زنزانة أخبرتكم عنها وتلك المرأة الثور الضخمة التي أشرت إليها، قالت لي:”اغتنمي الفرصة واحصلي على حمام”. أخبرتها أنني للتو اغتسلت في الطابق السادس. قالت بعناد:”ما أن تبدلي الطابق عليك الاغتسال مجددا”. كان الرجل الذي يدير المكان، وهو من نمط مدراء المدارس الثانوية، مع أن الدكتورة كريس تشير له باسم “الملاحظ”، وكان مسموحا له أن يكلمني وأن يستجوبني مثل محلل نفسي.

أخبرني أنني مريضة جدا جدا، وكنت فتاة مريضة جدا جدا لسنوات عديدة. كان يقلل من شأن مرضاه، وسأخبركم، لاحقا، ماذا كان يبغي منهم. سألني كيف يمكنني العمل وأنا مضطربة. وتساءل هل لذلك علاقة بعملي. وكان شديد الصلابة وواضحا بطريقة كلامه.

وعمليا كان يقرر ولا يستجوب، وعلى هذا الأساس قلت:”ألا يعتقد أيضا أن غريتا غاربو وشارلي شابلن وربما إنغريد برغمان كانوا مضطربين عندما كانوا يقومون بأدوارهم. وقلت هذا يشبه أن تسأل هل لاعب الكرة ديماغيو يمكنه قذف الكرة حين يكون مكتئبا. يا للسخافة.

والآن أغتنم الفرصة لأقول: لدي أخبار طيبة. شيء شبه طيب. لقد خدمت شخصا. وادعى أنني كنت نافعة له. وهو جو. فقد قال إنني حافظت على حياته حينما نصحته بالطبيب النفسي، وقالت الدكتورة كريس إنه رجل لامع، تعني الطبيب. وقال جو إنه خنق نفسه مستعينا برباط حذائه بعد الطلاق. ولكنه أضاف لو الأمر بيده لطلق نفسه، فهو رجل لا يحتمل. وفي ليلة عيد الميلاد أرسل باقة زهور من نوع بوينسيتا. وعندما سألت ممن هذه الزهور فقد فاجأتني. (كانت صديقتي بات نيوكومب حاضرة) - وكانت الزهور وصلت حديثا. قالت:”لا أعلم، لكن البطاقة تحمل عبارة: مع أفضل تمنياتي، جو.

أجبت قائلة:”حسنا. ليس هناك غير جو واحد”. ولأنها ليلة عيد الميلاد اتصلت به وسألته: لماذا أرسل لي الزهور. قال: أولاً لأنني ظننت أنك ستتصلين بي لتشكريني. ثم قال، بحق الجحيم من لديك سواي في العالم. وقال: إنني كنت زوجك ولاحظت أنك بلا أقارب. وحياتك تخلو منهم أصلا. وطلب مني أن أحضر لأشاركه الشراب حالما يمكنني. قلت له: إنني أعرف أنك لا تشرب - فقال: إنه الآن يشرب قليلا - قاطعته بقولي: يجب أن يكون المكان مظلما جدا جدا إذا. فسألني: ماذا كنت أفعل ليلة عيد الميلاد. قلت له: لا شيء. رافقت صديقة. ثم طلب مني أن أسمح له بزيارة. وكنت سعيدة لأنه سيأتي. لكن قلت له كما يقتضي الواجب: حالتي كئيبة ومضطربة. ولكن بطريقة أو بأخرى كنت سعيدة بزيارته المزمعة.

والآن أعتقد أنه يجدر بي أن أتوقف لأنه لدي مشاغل أخرى. وشكرا لإصغائكم ولوقتكم الثمين.

مارلين م.

ملاحظة: هناك شخص ما كلما أذكر اسمه تعبس وترفع شواربك، وتنظر نحو السقف. احزر من يكون؟. كان (بالسر) صديقا معطاء جدا. أعلم أنك لن تصدق هذا لكن يجب أن تثق بغرائزي. لقد كانت علاقة عابرة وسريعة. لم يسبق لي أن فعلت ذلك من قبل، ولكن الآن تورطت بهذا التصرف – لكنه غير أناني على الإطلاق في السرير.

لم أسمع شيئا من إيف – ولا مانع لدي بذلك لأنني أحمل هذه الذكريات الحساسة والقوية والرائعة.

والآن أوشك على البكاء..

من مفكرة الممثلة الراحلة مارلين مونرو/ المصدر: فوكس بيوبولي.

***

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم