صحيفة المثقف

الناصرية.. حكاية الشجرة الخبيثة

قاسم حسين صالحاشاع النظام السابق تسمية الناصرية بـ (الشجرة الخبيثة) ليصف اهلها بالخبثاء، لأن اهوارها احتضنت الثائرين عليه من التقدميين والاسلاميين، وفيها مدينة الشطرة التي منحها لقب (موسكو الصغيرة) وأوجعت رأسه فتقصد اهمالها. وفي انتفاضة آذار" 91" كانت الناصرية آخر مدينة تمت السيطرة عليها في 23/3/1991 بعد ان اعتقل ثوارها رئيس اركان الجيش العراقي السابق نزار الخزرجي الذي رأس وفدا للتفاوض مع قوات التحالف في سفوان، وأقالوا المحافظ وسيطروا على المدينة بالكامل.. وكنت حينها في مدينتي الشطرة.. وشهدت كيف تجمع شبابها ظهر ذلك اليوم الذي انتفضوا فيه واعتلوا سطوح دوائرها الرسمية وهم يهزجون.

و(للشجرة الخبيثة) حادثة هي ان القوات البريطانية التي احتلت العراق عام 1917 دخلت من البصرة. وكانت الامدادات العسكرية والجنود تنقل في سفن عبر الفرات مرورا بالناصرية باتجاه بغداد.

وذات ليلة كانت السفن راسية قرب الناصرية، فامطرها الثوار برصاص بنادقهم (البرنو) وقتل منهم من قتل. وفي الصباح تبين للقائد العسكري البريطاني ان مصدر النار كان من شجرة صفصاف كبيرة تسلقها الثوار، فأمر جنوده قائلا: (اقلعوا هذه الشجرة الخبيثة).

هذا يعني ان التسمية تشير الى حادثة بطولية تشّرف اهل الناصرية، وعشائر العراق الجنوبية تحديدا التي قاتلت المحتلين الانكليز لاسيما في واقعة (الشعيبة) التي شكلّت رمزا للوحدة الوطنية العراقية شارك فيها الكورد ايضا.

وتاريخ الناصرية يحكي الجزء الأكبر من تاريخ العراق الحضاري والسياسي والثقافي. فأبو الانبياء ابراهيم ولد في اور، والحضارتان السومرية والاكدية نشأتا في محيط الناصرية، ومعظم الحركات السياسية الحديثة، التقدمية والقومية والاسلامية نشأت في الناصرية، وعدد من رؤساء الوزارات، والوزراء كانوا من الناصرية، واول ثلاثة مطربين غنوا في اذاعة بغداد عند تأسيسها عام 1936 كانوا من الناصرية: حضيري ابو عزيز، داخل حسن، ناصر حكيم. فضلا عن شعراء ومثقفين معروفين.. بينهم الأديب وزميل دراستي الفقيد عزيز السيد جاسم، وزامل سعيد فتاح كاتب اغنية (اعزاز)، وآخرهم طائر الثقافة.. الوديع الدمث الأخلاق.. كامل شياع.. المسفوح دمه في آب 2008 الذي اطلق أسمه على قاعة ثقافية بصقيلية في أيطاليا فيما طوى النسيان ذكراه بوزارة الثقافة العراقية التي عمل فيها مستشارا، وبالوطن الذي لم يسأل عن قاتله ولم يثأر لدمه!.

ولقد زرت الناصرية لأمر يستدعي حضوري دائرة التسجيل العقاري. واخذت المعاملة طريقها نحو (المدير) وانا مع صاحبها، فوصل الى شخص كان واقفا في الممر الرئيس المزدحم بالمراجعين. ولأن الجو حار، والبناية قديمة، وكهرباء (ماكو)، اشرت له ان يستعجل بالدخول على المدير، فقال لي: هذا هوالمدير.. يقصد الواقف أمامنا الذي ترك مكانه ليستلم معاملات الناس ويوقعّها في الممر!.

ولقد اثارت هذه الظاهرة الايجابية فضولي فسألته عن السبب الذي يستدعيه لفعل ذلك.. فاصطحبني من يدي وادخلني مكتبه الواسع والمؤثث والمحترم.. وأجابني بأن معظم المراجعين هم ناس بسطاء يحتاجون الى المساعدة وانه يسهل ابتزازهم من قبل الدلالين والمعقبين، ولأن دائرة التسجيل العقاري تعدّ الاخطر في دوائر الدولة لانها تتعلق بنقل املاك الدولة والمواطنين، فضلا عن ان هذا التصرف يرفع همّة الموظف حين يرى مديره يشاركه المتاعب نفسها. شكرت (ابا محمد) وتمنيت لو ان كل المدراء في دوائر الدولة كانوا مثله.

في الممر ذاته كان المطرب حسين نعمة.. وحين رآني فتح ذراعيه وصاح بلهجة اهل الناصرية المحببه: (هاي انت اهنا.. يا يابه!).. واخذني بالحضن.. وتذكرنا حادثة، انني كنت في السبعينيات جالسا بغرفتي بالقسم الثقافي باذاعة بغداد. ولما التفت الى الجالسين معي وجدتهم: (الملّحن طالب القره غولي، الشاعر زامل سعيد فتاح، حسين نعمة، الصحفي عادل سعد، وانا مقدّم البرامج الثقافية وخبير برامج الأطفال). قلت لهم:

-  تدرون انتو الكاعدين بنص اذاعة بغداد.. كلكم ناصرية!

ضحكنا للمفارقة.. وعلّق أحدنا قائلا:عوزها "خضير مفطوره ".. وكان هذا أشهر مطرب في الناصرية سبق المطرب العمارتلي سلمان المنكوب.

ومع ان حسين نعمة شكا لي اهماله واهمال المبدعين عموما، وحكى لي كيف ان دولة خليجية استضافته في فندق ست نجوم وتذكرة الطائرة وسائق تحت تصرفه لعشرة ايام و 25 الف دولار.. وكيف ان المبدعين العراقيين يحضون بتكريم الخارج واهمال الداخل، الا ان اهل الناصرية حملّوني عتبا شديدا لأبناء منها.. نسوها ونفظوا أيديهم منها حين صاروا في الدولة!.

ولأنهم (حلّفوني بأيمانهم!) ان اوصل عتبهم الى الاعلام، فاني برّأت ذمتي حينها بذكر من يخصّهم العتب "مع أن بينهم من لا يستحقه": (عادل عبد المهدي، شيروان الوائلي، حسن السنيد، عزيز العكيلي، خالد الأسدي، صادق الركابي، احمد الجلبي، وموفق الربيعي).

اللهم اشهد ان عتب اهل (الشجرة الطيبة) قد اوصلته الى اصحابه.. عسى أن أحدهم يقول لنفسه (والله حقهم علينا) فيخصها بزيارة ليرى كيف حالها.. وياحيف على أهل الناصرية أن يضطرهم الزمن النحس الى ان يستنجدوا بمن جاءت بهم حليفة من امطروا جنودها برصاص " البرنو" من على شجرة الصفصاف!.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم