صحيفة المثقف

رحلة الوجود والعدم.. سارتر مقابل كانط

حاتم حميد محسنفي مقال له بعنوان (مقال في الانطولوجيا الظواهيرية) يعرض سارتر الوجود والعدم كأعظم تعبير عن فلسفته الوجودية. هذه الفلسفة اساسا، هي دراسة لوعي الوجود. الانطولوجيا تعني دراسة الوجود، اما الظواهيرية تتصل بالوعي الادراكي. في هذا المدخل للوجود والعدم يعلن سارتر بالتفصيل رفضه لمفهوم كانط في "الشيء في ذاته" او noumenon. كانط كان مثاليا، يعتقد ان ليس لدينا طريقة مباشرة لإدراك العالم الخارجي وان كل ما نستطيع الوصول له هو افكارنا عن العالم، بما في ذلك ما تخبرنا احاسيسنا به. كانط يميز بين الظاهرة phenomena والتي هي تصوراتنا للاشياء او ما تبدو لنا عليه الاشياء، والشيء في ذاته، الذي ليس لنا معرفة به لأنه مستقل عن وعينا(1). وبالضد من كانط يجادل سارتر ان مظهر الظاهرة هو خالص ومطلق. الشيء في ذاته يتعذر ادراكه، هو ببساطة ليس هناك. الظهور هو الحقيقة الوحيدة. ومن نقطة البدء هذه، يجادل سارتر بان العالم يمكن رؤيته كسلسلة لامتناهية من المظاهر المتناهية. هذه الرؤية تزيل عدة ثنائيات ولاسيما الثنائية التي تقارن بين الداخل وخارج الشيء. مانراه هو ما نحصل عليه (او ان ما يبدو هو ما نعرف).

وبعد التخلص من مفهوم الشيء في ذاته، يطرح سارتر التمييز المزدوج الذي يسيطر على بقية نظريته (الوجود والعدم)، وهو التمييز بين الوجود غير الواعي (الوجود في ذاته) والوجود الواعي (الوجود لذاته).(2) الوجود في ذاته هو مادي، يفتقر للقدرة على التغيير وهو غير واع بذاته. اما الوجود لذاته هو واع بوعيه لكنه ايضا غير تام. سارتر يرى ان هذه الطبيعة غير المحددة هي التي تعرّف الانسان. طالما الوجود لأجل ذاته (مثل الانسان) يفتقر للجوهر المقرر سلفا، فهو مجبر على ان يخلق ذاته من العدم. العدم،  وفقا لسارتر هو الخصائص المعرّفة للوجود لأجل ذاته. الشجرة هي شجرة وتفتقر للمقدرة لتغيير او خلق وجودها. الانسان، من جهة اخرى، يصنع نفسه من خلال الفعل في العالم. بدلا من مجرد وجود، كما يفعل الشيء في ذاته، فان الانسان، كشيء لأجل ذاته، يجب ان يحرّك وجوده.

بعد ذلك يعرض سارتر الحقيقة ذات الصلة وهي ان الوجود لأجل ذاته يمتلك معنى فقط من خلال اندفاعه الأبدي نحو المستقبل المجهول. بكلمة اخرى، الانسان ليس بالضرورة ما يصفه المرء كما الآن. فمثلا، اذا كان هو مدرس، فهو ليس مدرس بنفس الطريقة التي تكون بها الصخرة كوجود في ذاته،  صخرة. في الحقيقة، الانسان ليس جوهر ابدا، لايهم كم هو يكافح في الجوهرية الذاتية. الطريقة التي يفسر بها ماضيه ويتوقع بها مستقبله هي ذاتها سلسلة من الخيارات. وكما يوضح سارتر، حتى لو أمكن القول ان الفرد لديه طبيعة مادية معينة، كما في الكرسي "الذي هو 2 قدم طول، بينما طوله هو ستة أقدام"، فان الفرد مع ذلك يجسد نفسه بإضفاء معنى او أخذ معنى من خصائصه المادية وبهذا ينفيها. المفارقة هنا كبيرة. الوجود لأجل ذاته يرغب في ان يصبح وجود ضمن الوجود في ذاته، يفرض ذاتيته على موضوعية الآخرين. الوجود لأجل ذاته هو وعي،  وبهذا تتأكد الفجوة غير القابلة للتسوية بين الوجود في ذاته والوجود لأجل ذاته .

يوضح سارتر انه كوجود واعي، الوجود لأجل ذاته يعترف بما هو مناف لذلك: انه ليس وجود في ذاته. من خلال الوعي بما هو ليس كذلك، يصبح الوجود لأجل ذاته ما هو عليه: العدم، متحرر بالكامل في العالم، في لوحة فارغة يخلق عليها وجوده. هو يستنتج ان الوجود لأجل ذاته هو الوجود الذي يدخل من خلاله العدم والنقص الى العالم، وبالنتيجة، الوجود لأجل ذاته هو ذاته نقص. ان الغياب الذي يشير له هو غياب المركب (الوجود لأجل ذاته والوجود في ذاته) غير القابل للاكتساب. الوجود لأجل ذاته يُعرّف من خلال معرفته بكونه ليس في ذاته . الانسان لايعرف ابدا وجودا كما هو حقيقة، لأنه لكي يقوم بذلك،  لابد للمرء ان يكون الشيء ذاته. لكي نعرف الصخرة، نحن يجب ان نكون الصخرة ذاتها (وبالطبع، الصخرة كوجود في ذاته، تفتقر للوعي). غير ان الوجود لأجل ذاته يرى ويحدس العالم من خلال ما هو ليس حاضر. بهذه الطريقة، يكون الوجود لأجل ذاته هو سلفا حر بالكامل،  ويحوز ايضا على قوة التصور. حتى لو ان الجمال المطلق (لدى سارتر الاتحاد المطلق للوجود والوعي) لايمكن فهمه، فان معرفته من خلال غيابه، كما في حالة المرء الذي يشعر بالفراغ الحاصل اثر رحيل محبوبه، هي حقيقته الخاصة به.

عند الخوض في الطرق التي يتصل بها الوجود لأجل ذاته بوجود آخر، يجادل سارتر اننا ككائنات بشرية يمكن ان نصبح واعين بانفسنا فقط عندما نُواجه بنظرة الآخر. نظرة الآخر هي تشيؤ بمعنى انه عندما يرى المرء فردا آخر يبني بيتا، هو يرى ان الفرد مجرد بنّاء للبيت. يكتب سارتر اننا نتصور أنفسنا كوننا متصورين ونأتي لتجسيد أنفسنا بنفس الطريقة التي نتشيأ بها. وهكذا، نظرة الآخر تسلبنا من حريتنا المتأصلة وتجعلنا نحرم أنفسنا من وجودنا كوجود لأجل ذاته وبدلا من ذلك نتعلم تزييف الهوية الذاتية كوجود في ذاته.

 

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) طبقا لكانط، من المهم دائما التمييز بين عالمي الظواهر والشيء في ذاته. الظاهرة هي ما يبدو لنا والذي يشكل تجربتنا، اما الشيء في ذاته هو الاشياء المفترضة ذاتها والتي تشكل الواقع. جميع أحكامنا القبلية التركيبية تنطبق فقط على عالم الظواهر وليس على عالم الأشياء في ذاتها. (فقط عند هذا المستوى بشأن ما نستطيع اختباره، يكون لدينا تبرير في فرض هيكل من المفاهيم على موضوعات معرفتنا). طالما الشيء في ذاته هو حسب التعريف مستقل تماما عن تجاربنا، لذا نحن  جاهلون تماما في عالم الشيء في ذاته. وهكذا، حسب رؤية كانط، القوانين الاساسية في الطبيعة مثل حقائق الرياضيات يمكن معرفتها فقط لأنها لا تبذل جهدا لوصف العالم كما هو حقا وانما بدلا من ذلك تصف هيكل العالم كما نلاحظه. عبر تطبيق الأشكال الخالصة للحدس المعقول والمفاهيم الخالصة للفهم، نحن ننجز رؤية منهجية للعالم الظواهري ولكن لا نتعلم أي شيء عن عالم الشيء في ذاته. الرياضيات والعلوم هي بالتأكيد ظواهرية حقيقية، لكن الميتافيزيقا فقط هي التي تبلغنا عن الوجود في ذاته.

(2) الوجود في ذاته يشير الى الأشياء في العالم الخارجي،  هو شكل من الوجود غير الواعي، فهو لا فاعل ولاسلبي، ولايحمل أي إمكانية للتعالي. هذا الشكل من الوجود يلائم الجمادات وليس الانسان الذي يقول عنه سارتر يجب ان يتخذ خيارات. اما الوجود لذاته فهو شكل من الوجود الواعي له فعاليته وطبيعته الهادفة. الوجود في ذاته هو مجرد شيء. في أي لحظة نحن وجود في ذاته، بعد ذلك وفي اللحظة القادمة،  نحن وجود في ذاته مختلف. اما الوجود لذاته فهو رحيل دائم من الوجود في ذاته نحو وجود آخر في ذاته. الوجود لذاته هو العدمية او الفراغ بين كل وجود في ذاته  كنّا فيه ولازلنا فيه حتى الآن، انه الوعي بكوننا وجود له إمكانية ان يصبح وجودا آخر. الوجود الذي نصبح فيه هو الاختيار الذي نقوم به اثناء الرحلة من الوجود في ذاته الذي كنّا فيه تواً نحو وجود في ذاته نحاول ان نصبح فيه. ان العلاقة بين هذين الوجودين(الوجود في ذاته والوجود لذاته) هي علاقة ارتباط وابتعاد في آن واحد، فالوعي حينما يدرك الاشياء هو يختلف عنها لكنه ليس منفصلا عنها لأن الاشياء تقع ضمن مجال الفهم.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم