صحيفة المثقف

علاقة مكسيم گوركي بالثورة البلشفية وما كان مخفيا حولها

مصدق الحبيبتعرّف الاديب مكسيم گوركي على الثائر الشيوعي فلاديمير لينين واصبح صديقه القريب عام 1902، أي قبل اندلاع الثورة البلشفية بخمسة عشر عاما. كما كان قريبا من ستالين بعد وفاة لينين، على الاقل كما أظهرته الصور الكثيرة لهما معا وما عرف عن دور گوركي الرئيس في توجيه الثقافة السوفيتية بعد الثورة. تقول الكاتبة يولاندا ديلگادو: برغم مراسيم التشييع الرسمية المهيبة فان مكسيم گوركي کان قد مات كمداً، ممزق المشاعر بين مبادئه الانسانية العليا وبين ولاءه للنظام الذي أعاده من المنفى وكرمه (.Russia Beyond, July 14, 2014)

وكان راديو موسكو قد قطع البث في 18 حزيران عام 1936 ليذيع نبأ وفاة مكسيم گوركي الذي وصفه بأنه " أديب روسي عظيم، صديق العمال وحليف الثورة الشيوعية". وقد أصر ستالين أن يكون في مقدمة من حملوا نعش الاديب على الاكتاف، وأمر أن يوضع في الساحة الحمراء ليلقي الناس عليه تحية الوداع. وقد قدر عدد من اشتركوا في التشييع و أولئك الذين داروا على نعشه بنصف مليون مواطن سوفيتي. ودفنت رفاته تحت جدار الكرملين جنبا الى جنب مع كبار المسؤولين والشخصيات المهمة. تقول ديلگادو ان ذلك كان خلافا لما ورد في وصيته وهو دفنه الى جوار ابنه في مقبرة نوفوديفيجي.

2188 غوركي 6

ولد گوركي في نزني نوفگورد في الامبراطورية الروسية عام 1868، وكان اسمه الحقيقي ألكسي ماكسموفچ بشكوف. عمل في صباه وشبابه اعمالا عديدة من أجل العيش وطاف في أرجاء الامبراطورية من اجل العمل الاحسن والعيش الافضل، مما جعله عارفا بطبيعة وطنه وخبيرا متآلفا مع شعبه بكل طبقاته الاجتماعية، وهو ما انعكس جليا على اعماله الروائية ومقالاته. اصبح ماركسيا في مقتبل العمر ودأب على معارضة حكم القيصر وقد ساعدته على تركيز ذلك في دواخله علاقته العقائدية بلينين وبگدانوف وعلاقاته الفكرية العميقة مع الاديبين تولستوي وتشيخوف والفنان التشكيلي ايليا ربن والفنان المسرحي ستانسلافسكي وآخرين من رجال الثقافة المعروفين. اعتقل واودع السجن بعد ثورة 1905 ولم يطلق سراحه الا بعد حملة استنكار اوربية شاملة اشترك فيها رجال ونساء العلم والثقافة منهم العالمة مدام كوري والنحات رودان والاديب اناتول فرانس. وفي عام 1906 نفي الى أوربا فأمضى ثمان سنوات منفيا في كابري الايطالية، ولم يعد الى روسيا إلا عام 1914عندما أصدرت سلطات القيصر العفو العام. كتب الكثير من المقالات اضافة الى قصصه ورواياته المعروفة واهمها ستة وعشرون رجلا وفتاة 1899، نذير العاصفة أو اغنية المشاغب 1901، الحضيض 1902، بين الناس 1904، اطفال الشمس 1905، الأم 1906، وطفولتي 1913.

2188 غوركي 3

بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917 رأى گوركي مالم يكن في الحسبان. رأى الثورة تتحول الى فوضى والثوريين يتحولون الى طغاة قساة وكأنهم رموا بمبادئهم التی عرفها في سلة المهملات. كان غاضبا بالذات من لينين وتروتسكي، وكان قد كتب بشجاعة:

2188 غوركي 4 " السلطة هي التي سممت لينين وتروتسكي بسمها الزؤام فتراهم قد سحقوا حقوق الناس لمجرد تحقيق احلامهم الثورية.. انهم مستعدون ان يصادروا الحريات ويقمعوا رفاقهم ويطلقون حملات الاعتقالات الواسعة لأي سبب .. أما لينين فلايعرف حياة العمال بحقيقتها كما يدعي لانه لم يعش معهم ". وكانت جريدة گوركي "الحياة الجديدة" قد اخضعت للرقابة الشديدة. أما الحلقات التي كان يكتبها بعنوان "افكار خارج وقتها" فقد منعت من النشر، ولم يكشف عنها النقاب الا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومع انتقاداته الصريحة فقد كان گوركي يسرع الى استرحام لينين والقادة الاخرين كلما اعتقلت السلطة أحدا من زملائه الادباء والفنانين.

2188 غوركي 2وفي مرة من تلك المرات اعتقل الشاعر نيكولاي گملوف عام 1921، وهو شخصية لا يطيقها گوركي، لكن ذلك لم يثنه عن ان يهرع الى موسكو مسترحما لينين مرة اخرى وراجيا اطلاق سراح الشاعر الذي كانت تهمته الثرثرة وامتداح ايام القيصر ووصفها بانها كانت الافضل. وبالفعل استطاع گوركي ان يحصل على أمر باطلاق سراح الشاعر من لينين، ولكن حين وصل بالامر الى الجهات المعنية قالوا له لقد تم اعدام هذا السجين. وفي نفس العام وجه گوركي مناشدة الى احرار العالم يرجوهم فيها انقاذ البلاد التي ضربتها المجاعة التي سميت Povolzhye Famine والتي راح ضحيتها خمسة ملايين نسمة. وبالطبع لم يلق ذلك قبول لينين الذي كان منزعجا بالاصل من استرحامات گوركي وتدخلاته بامور السلطة وانتقاداته الجارحة المستمرة! ولذا فقد قام باستدعاء گوركي وطلب منه ان يحزم حقائبه ويغادر البلاد، على الاقل ليريح اعصابه ويهتم بصحته!! وهكذا أذعن گوركي للامر واصطحب عائلته الى برلين كبداية لمنفاه الثاني. وهناك سمع خبر احالة 12 من القادة الشيوعيين الكبار الى المحاكمة فسارع الى شجبها علنيا وكتب الى رئيس الوزراء ألكسي رايكوف مترجيا اياه ان يخبر تروتسكي بأنهم لو قاموا باعدام هؤلاء الرفاق لكان ذلك قتلا مع سبق الاصرار والترصد. وقد اغضبت كلماته تروتسكي ولينين معاً، فوصفاه بأنه "أديب ساذج لايفهم في السياسة شيئا". بعد أن امضى گوركي مدة قصيرة في برلين غادرها الى عدة مدن اوربية فاستقر به المقام في سورنتو ايطاليا التي بقي فيها الى ان دعاه ستالين للعودة الى الوطن.

2188 غوركي 5

بعد وفاة لينين عام 1924 واستلام ستالين للسلطة، فكر ستالين باعادة الاعتبار لگوركي والاستفادة منه في صياغة الحياة الثقافية الجديدة للثورة بحكم تأثيره البالغ في الوسط الثقافي وحجم الثقة الممنوحة له من هذا الوسط، محليا وعالميا. في عام 1932 استجاب گوركي للدعوات الملحة والواعدة التي تلقاها من ستالين والتي يحثه فيها بالعودة الى وطنه وشعبه. وفعلا، فقد استقبله ستالين بحفاوة واغدق عليه تكريمات ومناصب مهمة. فانتُخب رئيسا لاتحاد الادباء السوفيت، وفي بيته وتحت اشرافه تأسست مدرسة الواقعية الاشتراكية في الادب والفن لتبدأ حياة ثقافية اممية جديدة، وسميت بإسمه العديد من الاماكن وانهالت عليه التكريمات والحفاوات فغطس الى اذنيه في كنف النظام وبشكل لا رجعة من بعده، وكان عليه وبحكم موقعه ان يظهر مع ستالين في كل النشاطات المهمة ومنها ما آلمه الاشتراك فيها كما حصل في تكليفه بقيادة حملة حفر قناة البحر الابيض التي استخدم النظام في انجازها آلافا من سجناء الگولاگ ولقى المئات منهم حتفه في عمل السخرة المضني ذلك.

2188 غوركي 1

صيف 1934 كان موعد انعقاد المؤتمر الاول لاتحاد الادباء ولكن قبل موعد الانعقاد توفي ابن گوركي، بشكوف بعد ان عاد من حفلة سكر باذخة وصارخة اصطحبه الیها وزير الداخلية ياگودا مما اثار اللغط والاسئلة والشكوك، فكان هذا الحدث صفعة بليغة لگوركي حالت دون استعداده المناسب للمؤتمر فطلب تأجيله الى الخريف. ويبدو ان موت ابنه الشاب التراجيدي والاسئلة التي اخذت تحوم حوله ، كان الحدث الذي ايقظ گوركي وجعله يواجه دواخله فيراها ترفض الدور الذي تقمصه دون قناعة ودون حماس حقيقي! وهنا بدأ البرود مع ستالين يدب شيئا فشيئا ، خاصة وانه اعتذر عن كتابة مذكرات ستالين الذي كلفه بها، يضاف الى ذلك ان صحة گوركي تردت سراعا في ذلك الوقت جراء اصابته بمرض السل الرئوي.

2188 غوركي 7في هذه الاثناء أراد النظام تنفيذ ما خطط له مسبقا وهو تبني المؤتمر العالمي الاول للادباء الذي اراده ستالين ان ينعقد في باريس وأمر بانفاق مبالغ طائلة من اجل تحقيقه وأراد گوركي ان يترأسه، وهو الاديب الذي اكتسب وقتذاك شهرة عالمية ورشح خمس مرات لنيل جائزة نوبل في الادب. لكن گوركي خيب آمال ستالين بانسحابه من المؤتمر قبيل انعقاده. وهنا اصيب ستالين بغضب هستيري فقال انه لايقبل ذلك مطلقا وان مرض گوركي عبارة عن حجة باطلة. وهنا اعتقل گوركي في بيته ووضع تحت المراقبة على مدارالساعة وقطعت كل الاتصالات معه بما في ذلك امكانية اتصاله بأي جهة في الخارج . يقول المؤرخ الروسي أركادي فاكسبرك " ان وفاة گوركي لم تكن بسبب السكتة القلبية كما ثـُبت في شهادة الوفاة، انما مات مسموما وبأمر من ستالين، ودماغه مايزال محفوظا الى اليوم في مختبرات المعهد العصبي الروسي في موسكو، وبالامكان تشريحه والوقوف على الحقيقة المخفية".

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم