صحيفة المثقف

العقيدة الوطنية اساس بناء دولة الامة

مهدي الصافيالانسان والوطن او التوطن، جزء من حقيقة غرس الجذور العصية عن الاقتلاع، تمر السنين، وتتغير الحضارات، ويكتب تاريخ جديد، ويبقى الوطن هو بيت الشعب او الامة الكبير...

الاديان السماوية ليست ابواب مشرعة لانتاج العقائد، ولايمكن لها ان تكون بديلا لمفهوم الوطن، هي مدخل ايمان العبد او المسلم بربه اي بالخالق، ولهذا تندرج او تنتمي عبارة العقيدة وفق رؤيتنا الخاصة الى كل حقول المعرفة، من الانجازات والابداعات الفلسفية والفكرية، والعلمية الانسانية العظيمة، منذ بدء الخليقة حتى يوم الفناء الاعظم..

العقيدة الوطنية هي احدى اهم الانجازات البشرية في تكوين المجتمعات، وصناعة الحضارة المدنية، مع انها كانت ترتبط قديما بالطقوس والاساطير والامبراطوريات (المقدسة ارضيا اي من قبل الشعوب والامم)، الا انها اليوم تحولت الى صيغ ومفاهيم واساليب مختلفة، حتى بات مثال ولادة امريكا (الولايات المتحدة الامريكية) من الشعوب المهاجرة، المتعددة الاعراق والاديان او الاثنيات والثقافات، دليل على نجاح البشرية في تكوين دولة الامة، بعد ان تتوفر لها عوامل واسس بناء الدولة العصرية الديمقراطية العلمية الحديثة،

بينما ترى الاخفاقات والانتكاسات الاجتماعية تعصف بالدول التي كانت قبل الحضارة الالكترونية امم موحدة، غارقة في الفتن والاضطرابات والقبليات او الانقسامات الاجتماعية، وفي العادات والتقاليد البدائية،

وبعودتها او سقوطها في وحل الجاهلية الاولى،

وكذلك زيادة المعاناة من، حالة الفشل والفوضى السياسية والادارية والاقتصادية، وانتشار الفساد والانحراف والانحطاط الاخلاقي، لاشيء يمكن ان يسعف هذه الحالة المزرية،

التي وضعت فيها شعوب تلك الدول الفاشلة، الا ان بصيص الامل يبقى عالقا في اذهان شباب واجيال المستقبل، هذه الشريحة التي وضعت وحشرت عنوة بين جبهتين، جبهة الماضي وعقائده المنتهية الصلاحية، وبين جبهة التحدي اليومي الذي تواجه به اوكار الفساد والجريمة المنظمة ومليشيات او مافيات عمليات غسيل الاموال، وصناعة الارهاب، والتخريب المتعمد للروح الوطنية العامة في الدولة والمجتمع....

لاشك ان انتشار عبارة العقيدة السياسية في الدول والمجتمعات المسلمة جاءت بعد حقبة الاستعمار، ومع بداية ظهور عصر الصناعة الحديثة، بعد ان كانت رديف او تابع مهمل للاديان والطوائف،

ثم اقتبست او استخدمت بعد ذلك في الفكر السياسي (على اعتبار ان الايديولوجيات العصرية اقوى من الاديان في عملية بناء الدولة والمجتمع المدني، التحشيد الوطني القومي غالبا ما يأتي بعد انهيار الدولة او في الحروب الدفاعية)،

فتحولت بعدها الى المؤسسات العسكرية والاحزاب او الحركات الثورية (التي كانت تضع قسم الانتماء كدليل على قداسة الفكر الذي لايختلف وجدانيا عن قداسة الدين)،

وتدرجت هذه التعابير او الاطروحات العقائدية عبر حقب ومراحل متتابعة، الى ان وصلت الى مابات يطلق عليه حديثا في الحضارة الغربية "القيم الاجتماعية الغربية او الديمقراطية العلمانية"،

في حين لازالت تعيش الدول العربية او الاسلامية في دوامة الفتن والموروثات، وهواجس العقائد وملحقاتها البينية (المذاهب والفرق والمدارس الفقهية المختلفة، واراء وفتاوى وقراءات رجال الدين)، الخ.

حاولت الحركات السياسية الاسلامية الحديثة ان تكون اكثر تحضرا من المدارس الدينية التقليدية، عبر الانخراط في العمل السياسي، والتنظير الايديولوجي (اي كانت تريد ان تطرح عقيدة سياسية اسلامية تواجه العقائد السياسية القومية او اليسارية)،

الا انها فشلت في اقناع الامة بأنها تمثل حالة او ظاهرة فكرية متطورة، يمكنها التفاعل بسلام مع الطرح الديمقراطي العالمي لادارة الدولة، او ان تتجاوز فكرة اقحام المجتمع في متاهات العقائد، (القديمة والمستحدثة)، وخطوط الدين الحمر، والاملاءات والتوصيات الجامدة المتكررة، وشروط، الحركة الاخلاقية اليومية للدولة والمواطن، الخ.

العراق بلد محطم وطنيا، عبثت بارضه وثقافة وحضارة شعبه الدكتاتوريات السابقة، وانظمة الفساد الكارثي بعد 2003، تلك التي اسست للانقسام الاجتماعي على اساس الطائفة والعرق اوالاثنيات والانتماءات او بقية الثقافات، وصولا للتمييز المناطقي والقبلي او العشائري، في حالة غريبة قل نظيرها في المنطقة والعالم،

انهارت معها منظومة القيم الدينية والاخلاقية والاجتماعية، حتى شعر الناس انهم في حالة قريبة من يوم قيام الساعة، وبدأت تنشد وتنجذب للقصص والروايات الاسطورية، وقراءة النجوم والطالع، ومتابعة مايرويه ادعياء التنجيم وفك شفرات الابراج، وقراءة المستقبل، وشيوع ظاهرة ولادة جماعات الحركات المهدوية، والترويج لقصص السفياني واليماني، وخروج المسيح الدجال، الخ.

ولكن ماذا يجلب الفساد والفقر والفشل والدجل، غير الخراب والدمار، غياب العقل والتشبث بالغيبيات والسرديات او الروايات الاسطورية، والفاقة والعوز والمرض، ولهذا لم تعد اسواق الاصطفاف الطائفي او الاثني، وصناعة لعبة العقائد مجدية او نافعة لاحد، بعد ان انكشفت لعبة الهيمنة والاستحواذ، وانفضح اداء وعمل الطبقة السياسية الفاسدة في حكومة المحاصصة والتوافق، والمشاركة المباشرة في تمزيق وحدة الامة، وهدم بناء الدولة ومؤسساتها واجهزتها ودوائرها، وتحويلها الى ضيع واقطاعيات عائلية، يحرسها جيش من المرتزقة، ومن المنافقين والانتهازيين والمشردين (ابناء العوز والحاجة ) ....

قد لاتكون دولة الامة موحدة بين الطوائف والاثنيات، وبقية المكونات في الدول الديمقراطية الفيدرالية، الا ان الانتماء الوطني حتى لو كان داخل حدود الاقليم او المحافظة والمدينة، لابد ان يكون ذوعقيدة راسخة مؤمنة بقدسية العمل والبناء الوطني، لا ان يصبح الولاء والتخابر والتجسس للاجنبي عملا واسلوبا مبررا تحت شعار الشراكة العقائدية الهجينة، في حين ترفض هذه الدول التي يتواطئ معها بعض ضعاف النفوس من ابناء الوطن، ان تمس عقيدتها الوطنية والقومية (او ان تؤمن بنظرية تبادل المصالح والمنفعة بين الدول) ..

الدول الاقليمية الكبرى (تركيا وايران) هي دول متعددة الثقافات والانتماءات والاثنيات، لديها اصرار على ديمومة احياء الحضارة والثقافة او التراث الامبراطوري القومي، واعتبارها عقيدة سياسية للحفاظ على دولة الامة، لكن في المقابل ترى حالة من الانقسام والتشتت، والتورط في الازمات والاختلافات المفتعلة بين الدول العربية، مع عجزها التام عن الشروع بعملية اعادة احياء الحضارة العربية والاسلامية، لمواجهة التحديات المحدقة بدولها ومصير انظمتها وشعوبها،

فهي لم تقدم حتى الان اية نماذج حقيقية متقدمة لبناء دولة ديمقراطية قابلة للاستمرار، او البقاء حتى في الظروف الاعتيادية، اغلب ان لم تكن جميع بلداننا العربية هي مشروع جاهز للفتنة، واندلاع الحروب الاهلية والطائفية، او الانحدار نحو التجزئة والتقسيم او الفدرلة (الان دعوات في اصغر البلدان العربية لبنان لتشريع التقسيم الفيدرالي الطائفي والاثني، لعجزعهم عن ايجاد صيغة موحدة لبناء الدولة، ليس لان الشعب مقسم، انما لان الطبقة السياسية الحاكمة فاشلة )،

فلاتوجد عندنا سلطات دستورية مستقلة، او سلطة قضائية نزيهة نسبيا، او كاملة الصلاحيات، فكل شيء خاضع في بلادنا للتسيس والمساومة والابتزاز او التهديد...

ماذا نفعل؟

سؤال كبير ومهم جدا اطلق في جميع البلدان العربية بعد ثورات الربيع العربي، وتجربتها المريرة مع الحركات الاسلامية، وانتشار الارهاب والتكفير والدواعش في مناطق النزاع والتوتر المسلح (العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وبقية الدول) ..

الطرق اصبحت مسدودة امامهم، كما يبدو لهم ذلك بعد تجربة الاسلام السياسي (السني الشيعي)، في الحكم، وتصاعدة حدة التنافس بين عقيدة الوطن، والعقائد والايديولوجية البدائية الاخرى..

من خلال التجربة والتاريخ والواقع، نجزم ان الشعوب العربية كانت دائما تقدم عقيدة الانتماء الوطني على بقية العقائد (بما فيها الدينية او الطائفية)، وخير دليل انخراطها العفوي في نضال حركات التحرر العربي للخلاص من الاستعماراواسط القرن الماضي،

صحيح كان رجال الدين الى جانب تلك الثورات، وحركات التحرر الوطنية، لاعطاء دافع معنوي وشرعي لها (على اعتبار ان مفهوم الجهاد في الاسلام واجب مقدس في الدفاع عن الارض والعرض والمال، وان القتيل فيها يعتبر شهيدا) في مواجهة الاستعمار،

 او حتى الانظمة العميلة او الظالمة، لكنها لاتمثل بديلا سياسيا، او نموذجا متقدما لعلاقة الدين بالدولة، لان غريزة الدفاع عن الحقوق الخاصة والعامة، لاتقتصر على دين او طائفة او شعب او امة دون غيرها، اي انها، ظاهرة انسانية طبيعية، تحتاج في احيان عدة الى مقومات معنوية وروحية لكسب المعركة او تحقيق النصر في المواجهة....

الحلول المنطقية للاحداث والانتكاسات الوطنية المصيرية ليست ترفا سياسيا، هي في المقام الاول عمل فكري نخبوي ثقافي جماعي، ثم تأتي بعدها مراحل مهمة، من العمل السياسي المنظم، لتهيئة الاجواء والارضية الوطنية الخصبة، لدعم خطوات اتساع رقعة تأثير الثورة الشعبية الشاملة،

مع انها قد تبدو في بداياتها وكأنها ردود افعال فردية او نخبوية معزولة او تجمعات شعبية منفصلة، هي جزء من حركة دوران العالم، اي دورة طبيعية من سنة الحياة او من، صيرورة الكون المتغير، التي تكمن في التفكير والمحاولة والبحث والتجربة، هكذا بدأت الاكتشافات العلمية كما يقال بعد المحاولة جاءت التجربة وظهر الانجاز او الابداع..

الشعوب العربية مطالبة بالبحث الجدي عن ايجاد الحلول لبلدانها المحطمة، كما تبحث عن الخبز، وتنظر وتتطلع الى الرفاهية، عليها ان تعمل ليل نهار على ايجاد المخلص، والمنقذ الفعلي العملي، وليس التنظير للكسل وثقافة الاحباط واليأس، وانتظار الفرج بالمعجزات والخرافات، والصبر الذي يقود الى الانبطاح والاستسلام، لا الى الاستعداد والتحضير والقوة...

قطار الحضارة يسير بالسرعة الفائقة، وهم واقفين عند اعمدة التراث المتحجر او الميت، يتفرجون على نهب ثرواتهم، وضياع دولهم، يسرق من اجيالهم الامل والطموح والتفاؤل والمستقبل،

دون ادنى حركة او رفض او رد ولو باضعف الايمان، حتى وجدت نفسها في وضع تأريخي كارثي، بالذهاب الى التطبيع مع اسرائيل لمواجهة القوى الاقليمية الكبرى، بينما تركت مسألة تشخيص الخلل، والسبل الكفيلة في معالجة هذه الانهيارات المتتالية...

هناك عدة عوامل واسس منطقية علمية خاصة بالدول العربية (والعراق تحديدا، لانه اسوء النماذج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية العربية بعد 2003)،

لابد ان يتم مراجعتها نخبويا وشعبيا، والتثقيف عليها اجتماعيا، لكي يتم من خلالها فهم اليات العمل الوطني، للخلاص من حالة الفشل العام في تكوين دولة الامة المتماسكة، من هذه العوامل او المراحل، التي تعد بمثابة اعمدة او ركائز التأسيس الاساسية لبناء اي مشروع سياسي جديد او لدعم ولادة الحركات والاحزاب التنموية الاصلاحية الوطنية في بلدانهم، من هذه العوامل:

اولا: مفهوم او مبدأ فصل الدين عن الدولة:

الاديان التي وصلت الى القرن الواحد والعشرين هي اديان شعبية بأمتياز، يضاف لها في كل زمن او حقبة مقدسات ارضية او اضافات شعبية شخصية او فئوية (اي عبر رجال الدين او جماعات وفئات صغيرة تقدم مفهومها وقراءاتها الخاصة للدين، فتصبح بعدها طائفة او فرقة او ملة، وهذا يحدث في جميع الاديان السماوية، في الاسلام والمسيحية وحتى اليهودية)،

فالمؤسسات الدينية او الفقهاء ومراجع المذاهب والطوائف والفرق تعطي لنفسها احقية مقدسة في الافتاء والتأويل والاختلاق، اذ لايوجد وفق منطقها اي قوة على الارض يمكن ان تعترض او تنتقد او ان تختلف معها من خارج اسوار الحصن الديني، هم وكلاء الله (عزوجل) على الناس، يحق لهم التفسير والفهم والافتاء الديني، ولايحق لعوام الناس ان تسأل اوتعترض او حتى ان تستفهم عن "الالتباسات العقائدية"، الخ.

ابعاد الدين عن السياسية لاتعني بالضرورة عدم الايمان بقدسيته او وجوده او اهميته في بناء المنظومة الاخلاقية للمجتمع،

الا ان المفهوم العلماني في بناء الدول المتحضرة هو الحياد، او الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، والامتثال العام للدولة او السلطات الدستورية لخيارات الشعب او رأي الامة العقلاني (حتى في الثورة الايرانية بعد عام 1979 خضع اختيار شكل النظام الجمهوري، لرأي الاغلبية الشعبية، لكن الخلل الاصرار يكمن في الابقاء على هذا الخيار، دون السماح للمواطنين بأعادة تقييم ومراجعة خياراتهم السابقة بعد التجربة الطويلة معه، التي تجاوزت الاربعة عقود) ...

لا عقائد فوق عقائد الوطن، فالانسان بلا ارض امنة، اوبلا، نعمة الصحة والامان النسبي في وطنه، لايمكن ان يصلح اسلامه او ايمانه،

وامام الشعوب العربية تجربة الحضارة الغربية، التي يطمح كل انسان عربي ان يلجأ لبلدانهم، ليس بحثا عن حياة الغرب اليومية، انما من اجل الامن والاستقرار النفسي والاجتماعي وحتى المادي...

الدين يمثل حالة روحية نفسية وانسانية وعقلية فردية، لايحق لاية قوة على الارض ان تأخذ مكان الانبياء والرسل ع، او ان يصنع مذهب اقرب للدين الجديد، ليفرض على الناس طريقة عيشهم ولبسهم وأكلهم وشربهم،

ويضع في كل يوم خط احمر جديد بأسم المحرمات او المكفرات، الخ.

الحضارة الانسانية العالمية تفوقت على مايطلق عليه من حدود شرعية في الاسلام، وهذا يتم بأرادة الله عزوجل، الذي من حكمته انه لايسمح للاقوام والشعوب والمجتمعات المتخلفة، ان توقف عجلة الحضارة، تارة بحجة الدين او المذهب، وتارة اخرى بحجة العقائد والموروثات، والعادات والتقاليد والبيئة الاجتماعية السيئة، لكل شيء قانون في الحضارة الغربية،

بل ان عقوبات الاغتصاب والاعتداءات والتحرشات الجنسية تعد في مقدمة الجرائم، وهناك قيم اجتماعية رائعة في مجتمعاتهم، ليست مثالية او تمثل حالة فرعية عن مفهوم المدينة الفاضلة، لكنها قطعا افضل بكثير مما هو موجود في بلداننا، وعابرة لهم باشواط ومتقدمة عليهم بعقود او قرون..

ثانيا: لاعقائد او ايديولوجيات فكرية او اثنية او طائفية في السياسية غير عقيدة الوطن، التي يمكن لها ان تستثمر تجارب الدول والامم الناجحة في بناء قاعدة عقائدية سياسية وطنية تنموية عامة، لاتستثني طائفة او مكون او اثنية او ثقافة معينة،

هي باب وطني مفتوح للتقدم والازدهار، تدعم النخب السياسية النزيهة، وكل الشباب الطامح نحو المشاركة الفعلية في بناء وطنه على اسس علمية صحيحة،

تمنع عمليات تجويع واذلال وافقارالشعب، وتحويله الى قطعان طائفية او اثنية، يسهل السيطرة عليها والاستثمار السياسي بها

 (اقرب لمفهوم مناعة القطيع السياسي، اي كل مكون او طائفة او جهة سياسية، تبني ليها جماعة القطيع المغلقة عليها، تحركها وتوجهها وفق مصالحها الانتهازية الحقيرة، وتدخلها حتى في مسارات تضر بالقطيع نفسه، كالحروب والنزاعات المسلحة المتبادلة، او في التصفيات والتطاحن الداخلي لهذه القطعان المؤدلجة، الخ.) ..

عدم توفر العدالة الاجتماعية وفرص العيش الكريم الادنى للمواطنين، لايمكنها ان تساهم ببناء دولة الامة، هذه هي اسس دولة المافيات والاقطاعيات والدكتاتوريات الاستبدادية (حتى وان كانت هناك مظاهر وجود دولة ديمقراطية دستورية، لكنها غير حقيقية على ارض الواقع والتطبيق، هي خاضعة لسياسة الكذب والتضليل والتزوير والفساد العلني احيانا)، التي تستغل حاجة الناس وفقرهم لادخالهم في اسلوب المساومة والابتزاز، والاختيار بين الدخول في جماعة القطيع او البقاء وحيدا في دوامة البحث عن لقمة العيش..

ثالثا: الدول النفطية وصاحبة الثروات الطبيعية لايجوز لها التخلي او بيع القطاع العام للقطاع الخاص، انما عليها استغلال ثروات الشعب في زيادة الرفاهية الاجتماعية العامة، وتحسين مستوى دخل الفرد، وتطوير البنى التحتية عبر جذب الخبرات والشركات الاجنبية العملاقة، والعمل على ابعاد القطاع الخاص الاستثماري عن ثروات الامة الثابتة (الارض وثرواتها الطبيعية واملاك الدولة)، ومنع التنافس على شراء املاك الدولة، واستثمار ثروات الاجيال القادمة، وترك له حرية العمل في مجالات محددة او مشتركة مع القطاع العام، بغية تطوير الكفاءة والقدرات المحلية

رابعا: الفكر التنموي الاصلاحي في بناء الدولة والمجتمع، يرفع من المستوى الاقتصادي والمعاشي للدولة والمواطن، يعمل على تبني خطط خمسية وعشرية لتطوير قطاعات الصناعة والزراعة والموارد البشرية والثروات الطبيعية، واعتماد الشعارات العملية لبناء عقيدة احترام الخصوصيات الوطنية، فالنخلة ونهري دجلة والفرات تعد من الشعارات الوطنية المهمة لبناء شخصية الامة المعنوية،

اضافة الى الاهتمام بالاثار والمقدسات الاسلامية التاريخية، وكل الموروثات المهمة، وحتى الاصناف الزراعية الوطنية النادرة،

وتشجيع الابقاء على الحرف والمهن اليدوية التراثية، والبيئة في عالم الاهوار والحيوانات البرية والبحرية والطيور،

تعزيز دورعائدية الكائنات والمخلوقات المتوارثة في ارضنا، هي تعد بمثابة الحملة الوطنية لاحياء الفلكلور الشعبي الموروث للامة،

فكما هو معروف في الفلكلور الشعبي العالمي، الذي لازالت اغلب شعوب وامم الارض تفتخر بتاريخ وحضارة وشعارات وموروثات بلدانها، تتعمد اظهار التسمية والتشخيص المحلي لثقافاتها، ورفع الشعارات الشعبية او التراثية فوق شعارها الوطني، (وقد حملت اغلب اعلام الدول تلك الظاهرة الوطنية الطبيعية، اي وضع صورة الطيور او الحيوانات والاشجار والنباتات المشهورة في بلدانهم على الاعلام الوطنية) ...

خامسا: فلسفة بناء الدولة الحديثة، عقيدة وطنية خالصة ونقية، خالية من الشوائب الموروثة، تلك التي لازالت عالقة بخيط رفيع في شباك الماضي، المشدود بقسوة حول رقاب الاجيال الالكترونية (القبيلة والعشيرة او الدين والطائفة او العرق والاثنيات، الخ.)،

هذه الفلسفة لابد ان تصبح بعد الايمان بضرورة وجودها في عقل ووجدان المواطن (بغض النظر عن التحصيل العلمي او المستوى الاجتماعي او المادي، وغيرها من الحسابات الاجتماعية)، عقيدة وطنية ثورية، الغاية منها وضع الدولة والمجتمع على طريق البناء السليم المتين، وابعادها عن المخاطر والكوارث والهاوية،

فالفشل لا يقع على طبقة او جهة او فئة او جماعة معينة، انما تتحمل اوزار الاخفاقات والانهيارات الوطنية، جميع طبقات ومكونات وفئات الشعب، بما فيها الطبقة السياسية الفاسدة، التي حجبت عنها كثرة الاموال المنهوبة من خزينة الشعب، الرؤيا الحقيقية لما تفعله بأوطانها وارض اجدادها، وبشخصيتها المعنوية والاعتبارية،

فالانسان المتحضر اصبح يستمد قوته من قوة الدولة وكفاءتها الادارية والاقتصادية وحتى الخدمية، فضلا عن الامنية والعسكرية وبقية المجالات، يعبر حدود الدول بهيبة ومكانة جواز سفره، مقارنة ببقية مكانة وتقدير هويات دول العالم....

المعلم والاستاذ الجامعي، والعامل والفلاح، والقاضي والمحامي، والمهندس والصيدلي، والمفكر والاديب،

والرياضي والفنان المبدع،

 والسياسي والاعلامي،

وربة البيت والكاسب،

والرجل والمرأة،

لابد ان تبدأ عقولهم وقلبوهم في تخصيص مساحة كافية لتنمية فلسفة الدولة في اذهانهم، وبناء ثقافة العقيدة الوطنية، التي يراد منها ان تجلب الامن والامان، والعلم والعمل والازدهار، فليس من فلسفة البشر، ولا من نتاج الحضارات والاساطير القديمة، وادبيات الامم، والاقوام السالفة، ان تكون غاية الشعوب الفرهود والفوضى، او صناعة الثروات والزعامات فوق رؤوس الفقراء والايتام والارامل، وان تتحالف وتتداخل الاقطاعيات المالية الجديدة مع السياسة والدين، لتنتج ثقافة اجتماعية عكسية مشوهة، لايرى منها غير الانانية السادية، والتوحش، ومانسميه الظاهرة القارونية..

قد تكون من ثقافة الانظمة الشمولية الضغط بقوة على النخب وبقية طبقات المجتمع الواعي لاجبارها تجنب الاقتراب من السياسة، والترويج لعبارة السير الى جانب الحائط،

وهي للاسف تعتبر من الثقافة السائدة حاليا في بلادنا، وتحتاج لفترة من الزمن حتى يمكنها ان تعود الى وضعها الطبيعي، فكل شيء في الوطن مرتبط بشكل واخر بسياسة ونظام الدولة،

ولعل الانظمة الديمقراطي هي اكثر النماذج الابداعية السياسية الانسانية، تعطي هذه المساحة الواسعة المرجوة من كل انسان حر، لابداء الرأي، وطرح المقترحات، والاستماع لرغبات الشارع، وقد تكون ثقافة استطلاعات الرأي المعمول بها في الحضارة والانظمة الديمقراطية الغربية،

وتقارير وتوصيات واصدارات مراكز البحوث الاستراتيجية، بمثابة السلطة الرابعة، او الاستشارية الثانية بعد المستشارين العاملين رسميا مع الحكومات او الانظمة الديمقراطية العريقة، على العكس من انظمة الاستعباد والاقصاء ومصادرة حريات الشعوب واراداتها الوطنية، فالفرق واضح جلي بين الحرية الديمقراطية، وبين الاستبداد الشمولي، اي بين الحياة الطبيعية، وبين الموت البطيء ...

سادسا: فلسفة الثورة الدائمة، هي حالة انسانية فطرية لاصلاح الانسان لنفسه، ومن ثم اصلاح المجتمع الصغير، والانتقال للدائرة الاوسع في الدولة والعالم، كما كانت تفعل الحضارات القديمة، ومافعله بالطبع الانبياء والرسل والمصلحين من الفلاسفة والمفكرين،

ففي القرية الكونية المترابطة عبر شبكات التواصل الالكتروني، التي بات المرض والفيروسات الالكترونية والطبيعية (كفايروس كورونا) تؤثر به بطريقة اسرع من اي وقت مضى، صار التسابق العلمي والتجاري والاقتصادي هو سلاح واداة التنافس والتفوق وبسط النفوذ والهيمنة العالمية او الاقليمية،

وبدون ان تصعد طبقة العلماء والكفاءات والاذكياء والنخب الابداعية المفكرة الى قمة هرم الدولة، لن ترى شعوبهم اي تطور او تقدم وتفوق ملموس..

الثورة ليست بركان هائج، او معركة لقلب الطاولة على رؤوس الناس، هي محاولات جادة وحثيثة لتغيير الواقع البائس،

الذي يشعر به عموم المواطنين قبل ان تلمس اذاه وتأثيراته النخبة المثقفة، التي غالبا ماتحسن بناء وضع معاشي جيد لها، او اجتماعي امن نسبيا،

لانها طبقة متعلمة يمكنها الحصول على وظائف او فرصة عمل حكومي او خاص، فمن الصعب ان تعرف هه الطبقة ماساة ومعاناة الطبقات المهمشة، واجيال العشوائيات المحرومة، الا اذا كانت تعيش فيه اوساطها، فمن هذه المجتمعات تنطلق شرارة الثورات،

هذا لايعني ان النخب مسؤولة عن اهمال ذكر او متابعة تلك الظواهر الاجتماعية السلبية، على العكس لانها تعيش حالة الثورة الاصلاحية منذ ان تقدمت طبقات المجتمع وتنوعاته الى الامام، فأصبحت تمثل الوجه الوطني الحضاري للدولة والشعب، لكنها لاتملك عصا سحرية لانقاذ المجتمع، مالم يخرج الناس من حالة البؤس والضياع الى ساحة الثورة واعلان او ر فع قائمة المطالب والحقوق العامة.....

سابعا: الايمان بأن الله سبحانه وتعالى مع الخير الذي تجاهد وتناضل من اجله البشرية الصالحة، ولايرحم المتخاذلين والمنافقين والانتهازيين، اواعوان الفاسدين والظلمة، وعلى الناس ان تختار طريقها منذ بداية النضوج العقلي، وبزوع بذرة الوعي الثقافي،

اما مع الخير او مع الشر، لاتوجد منطقة للحياد او وسطى في هذا العالم، وقد عايشت اغلب الشعوب قساوة الانظمة الدكتاتورية الشمولية ضد المجتمعات المسالمة (المحايدة)، مثلما يأكل الراعي مايشاء ومايشتهي او يختار من قطيع الانعام التابعة له، تأكل ادوات الانظمة الدكتاتورية او الفاسدة كل من يقع او يقف امامها مما يعتبره قطيع البشر، المستسلم له ولحماقاته وشراهة نزواته وغرائزه..

لايحتاج جهاد النفس، والنضال من اجل العدالة، واستراجاع الحقوق، ونيل الحريات المستلبة، الى مذاهب وفرق، او فتوى دينية، او فقيه او رجل دين، او مليشيات او جماعات المقاومة والدفاع المقدس،

الشعوب المتحضرة تعرف ان الانجازات العظيمة في الدول المتطورة، هي من تحملهم مسؤولية الدفاع المقدس عن بلدانهم،

وترفع من معنويات المقاتلين والمتطوعين،

دولة الامة الموحدة لاتحركها الشعارات الحربية الحماسية، او اي فتوى دينية او مذهبية لاعلان الجهاد والنضال،

انما هي غريزة طبيعية مشتركة بين جميع المخلوقات او الكائنات، يمكن ان تموت او تبرد لاسباب وظروف قاهرة احيانا،

او قد تكون مجرد كسل او حالة اللامبالاة، او حتى نتاج البيئة الاجتماعية العشوائية المنكسرة، لكن في نهاية المطاف الشعوب والامم تدافع وتقاوم وتناضل من اجل البقاء، وليس من اجل حماية الامبراطور او المسؤول او الطبقة الحاكمة...

ثامنا: الحزب الاصلاحي التنموي الوطني او حركة اعادة بناء العقيدة الوطنية:تلك هي هواجس ومخاضات الحراك الشعبي الثوري العربي، فالمائدة او الطاولة العربية السياسية الثورية المعارضة لشكل الانظمة الشمولية السابقة، وللولادة المتعثرة المنتكسة للديمقراطية البدائية (التي استحوذت عليها الحركات الاسلامية الفاشلة والفاسدة) بعد الربيع العربي، تضع عليها فكرة بناء الديمقراطية العلمانية اي العلمية، وضرورة فصل الدين نهائيا عن الدولة (بما فيه رفع عبارة ان الشريعة الاسلامية اساس التشريع او احد مصادر التشريع من الدستور)،

ومنع تكوين الاحزاب والحركات والتيارات الايديولوجية، ورفض كل اشكال التنظيمات السياسية المبنية على اساس ديني او اثني او طائفي، لايمين ولا يسار ولا وسط.

احزاب وتيارات سياسية تتنافس من اجل خدمة الشعب، وتنمية موارده، ورفع المستوى المعاشي والاخلاقي والخدمي والعلمي والصحي والامني وفي بقية المجالات، لها برامج وخطط وطموحات اقتصادية وتجارية وادارية تنهض بالدولة، وتضعها على طريق التنافس الدولي المشروع في الصناعة والزراعة والعلوم التكنولوجية والفضائية....

الحاجة للفكر والثقافة والوعي قبل الانخراط بالعمل السياسي الوطني الكبير، هي الغذاء الروحي والمعني لحركة الجماهير وتعبئتها، حتى وان بدأت عبر تشكيلات وتنظيمات فردية مشتتة (كما حصل بعد ان تحولت انتفاضة تشرين العراقية المستمرة الى العمل التنظيمي المنقسم او المتنوع)،

منها من قد يثبت نجاحه في الشارع، ولو بنسب محددة او وفق التوزيعات او التشكيلات، المناطقية، واخرى قد تختفي بزمن قياسي،

لكنها بالطبع تعكس الرغبة في التغيير، كحالة طبيعية لاستثمار الاندفاع والحراك السياسي الوطني الجديد، الرافض لمايحصل من فساد وتخريب وتدمير متعمد للدولة والشعب،

لأظهار الشخصية الحضارية الوطنية العربية او العراقية، اذ لايمكن ان تكون من حكمة الانسان العاقل ان يجلس وسط بركة دماء او مياه اسنة،

لمجرد انه امتلك المال والسلطة،

لا يفعل ذلك الا الانسان المريض نفسيا وعقليا او جاهل خسيس قذر، استحوذ عليه الشيطان فملأ قلبه بالحقد والانحطاط وكراهية الناس والحياة، كيف يقبل ان يعيش هذا الزعيم او ذاك المسؤول في مدينة او بلد تسرق منه اموال تعبيد وتنظيف الطرق والبيئة، وتنهب اموال الادوية وبناء المستشفيات والمدارس وبقية الخدمات، بل كيف يقبل ان يرى طوابير العاطلين عن العمل تجوب شوارع المدن، بحثا عن اية فرصة لكسب القوت اليومي، ويرى استجداء فقراء الاشارات الضوئية، وضياع الايتام والارامل والمشردين، ولا ينفجر ثائرا ليل نهار بوجه الفساد،

وينتفض من اجل الانسانية لانقاذ مايمكن انقاذه من حالة الضياع الاجتماعي للطبقات المسحوقة، بينما ترى في الحضارات الانسانية الرائعة زيادة في حجم التبرعات والدعم المادي والغذائي او الدوائي، وارسال مختلف المساعدات الى ابعد منطقة او قرية من دول العالم الفقيرة، لايمت لها بأية صلة غير صلة الانسانية...

تاسعا: الثورة الاصلاحي ليست ثورة المواجهة او التغيير المسلح، او لتصفية الحسابات، وتكرار تجربة الاقصاء والابعاد، واحياء ثقافة بدوية قبلية قبيحة في الثأر والتصفية والاذلال، هي محاولة اصلاحية شاملة، تتسع للجميع، تلم الشمل ولاتفرق، تؤمن بالعفو والتسامح ولغة السلام والمحبة، وترفض اساليب الغوغاء والهجمية والعنف البربري، لان الوطن بحاجة ابناءه، ولايؤمن بنزع هذا الحق عن احد، مهما كانت انحرافاته او جرائمه او تجاوزاته، القضاء اولى بهذه المهمة...

عاشرا: العقيدة الوطنية فوق الانتماء القبلي او العشائري او المناطقي: لايمكن ان تبني القبائل او العشائر دولة مدنية امنة متحضرة مستقرة، وهي عاجزة عن ايقاف النزاعات والتوترات والمواجهات العشائرية فيما بينها، هي احد ضحايا الانظمة الفاشلة، فظاهرة فرص الفصول والديات اصبحت في الحضارة الغربية جزء من منظومة التأمين المالي الحكومي او الخاص على الحياة او جراء الحوادث والكوارث الطبيعية او المفتعلة، لايشعر المواطن هناك ان حياته غير امنة في الشارع او حتى في البيت، ولو اطلعت العشائر العراقية على التعويضات المقدمة للضحايا سواء من الدولة او شركات التأمين لاصابها العجب..

الدولة والادارة السليمة الناجحة قادرة على تخليص المجتمع من الصراعات والمشاكل والتوترات والاعتبارات الاجتماعية المحرجة....

لا تقل اني عاجز عن النهوض والثورة والتغيير

ولاتقتنع بما يقوله السفهاء بأن الشهداء فقدوا ارواحهم لاهداف غير عملية او واقعية،

ولايخاف اصحاب الحق من الباطل، مادامت هذه الارض تحمل فوقها وتضم تحتها المجاهدين والمناضلين والصالحين الاحرار،

الذين هم ورثة وخلفاء الارض والحياة، لهم الدنيا وبالطبع الاخرة....

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم