صحيفة المثقف

مثل قصيدة لكافافيس

صالح الرزوقبقلم: ريبيكا روث غولد

ت: صالح الرزوق


 

حضورهما معا كان مثل قصيدة لكافافيس. عندما تعانقا، تحول الزمان لفضاء مضغوط، والفضاء تحول إلى زمان. وكل قهر وتخاذل لفهما بعمق، وسقط أحدهما في ثنايا عواطف الآخر، وترك انطباعا يشبه بلوزة قديمة تشعر لارتدائها بالراحة حتى لو آلمتك، وليس مثل قميص جديد فضفاض. وعندما يكونان معا، تغيب العوائق التي تقف في طريق لقائهما دون إنذار. والجدار العازل ينهار ويتداعى، ويصبح ممارسة الحب ممرا ممهدا للتكوين، وسبيلا يحول كلماتهما إلى علقة ومضغة مخلقة، شيء - ليس كاملا، فقط كتلة كلمات، أو قشرة سطحية للوعي - ولكن يبقى على هذا الكوكب بعدهما.

قالت له في إحدى المرات:”لا أرغب أن أموت”. كانا يسيران على طول القناة في أمستردام، والشمس تتراكم فوق الأفق بطبقات وسلسلة من السحب تعلو في السماء. ثم أردفت:”أريد أن أعيش للأبد. ويدك تقبض على يدي”.

لم يرد. لم يكن لديه شيء يعرب عنه. كانا مجرد مخلوقين داخل قصيدة كافافيس، التي يتذكر بها الجسد نصيبه من الحب، وكيف يمنح نفسه لهذا الغرام، كما لو أنه لا يوجد عودة للوراء، وأن الحركة المسموح بها للأمام، باتجاه الهاوية. ولا يسع الكلام أن يكون مفيدا إلأا بتجميد لقائهما داخل المساحة الزمنية، ومنحه مظهرا متماسكا هو بحاجة له. كان حبهما مثاليا، في هذا الوجود، ولا تستوعبه أية لغة.

وأحيانا كانا يتبادلان الكلام بالشعر. وفي بعض الأوقات يلزمان الصمت التام. ويميلان لتتبع الملامح الأساسية لوجه كل منهما في خطوط يد الآخر. وأحيانا يختبئان عراة تحت الغطاء، مثل أولاد يهربون من أبويهما.  وفي مناسبات غيرها يقرآن معا، ويترلان بنعومة، الكلمات التي تبرق وتشع على الصفحة. وتبدو كل فقرة، بطريقة أو أخرى، كأنها عنهما حصرا.

2194 rebeccagouldكانا يتشاركان شريحة رقيقة وبراقة من الوقت، وانعكاسات النور الخاطف على سطح الماء: وكانت القبلات الأولى على ضفاف الدانوب، ثم خلال عبور جسر التيمز، أوهما ينظران لمياه السين ويتماسكان بالأيدي. كذلك حام نوتردام فوقهما وقمته مجللة بسواد فاحم.

ولكن انعقدت أواصر الحب بينهما مع شيء آخر: تلاقي الأفكار، والاندماج الثقافي، وبهذه الطريقة مزق كل منهما الحجاب الذي يخفي جسد الآخر أو تكلم بلسانه.

وذلك الكلام - المخلص - تغلغل في روحيهما. وفاضت العاطفة الحارة على الصفحة، وضمنت اتحادهما، وأقامت جسرا فوق المسافة الغائبة. وشعر كل منهما بكل لمسة حب كانت تعيد للعالم الواسع والفسيح شيئا من هباته. ثم كل على حدة ومعا تكفلا بتقديم أشياء لا يمكن أن تولد ما لم يتجاوزا هذه المعابر والممرات. ولمع البرق على سطح الماء حينما حدقا به معا.

وحينما كانا منفصلين، تعلمت كيف تحتمل غيابه. ليس لأنها غير مغرمة به، ولكن لأن زمام غرامها ليس بيدها. ولم تحتمل الجروح المفتوحة التي أصابت قلبها، وأصبحت مناطق ضعف فيها. وعذبها عجزه عن تخفيف جروحها، والعناية بها حتى تشفى بمعونة من عاطفته الفياضة كلما احتاجت له.

وهناك أوقات أيضا يكون فيها غائبا ولو أنه موجود، وهي الأوقات التي تفشل فيها كلماتها بالنفاذ إلى روحه. وبما أنه أنفق كل حياته في معارك تدور ببلدان نائية، لم يتمكن من ملاحظة ندوب معاركها. كانت حروبها تبدو صغيرة بالمقارنة مع حروبه. وكان معجبا بها. وأحيانا كان يعاملها مثل رب معبود وليس كمحبوبة، هذا هو الانطباع الذي تشكل لديها. وقالت له في عدة مناسبات: الوثنية دائما وقت مستقطع من الحياة. أو أنه تزوير وخداع. ولكنه لم يتأثر بقولها. فأردفت: إن الشعور بالعزلة وهي وحدها، أبسط من العزلة التي غرقت بها بعد أن بحثت لديه عن العزاء والصداقة دون فائدة.

وفي كل لقاء روحي مشترك، كانت النجوم تقف، وتكتب عليهما لعنة الوداع الأبدي غير المعلن عنه.

وقالت له، مجددا، بعد عامين من علاقتهما:”لا أريد أن أموت”.

في هذه المرة، كان للكلمات معنى مختلف عن معناها عند قناة أمستردام، مع أن الكلمات هي، هي نفسها.

ثم أصيبت بالسرطان، وانتشر بسرعة غير متوقعة. وأخبرها الأطباء أنه أمامها أقل من عام واحد. بالإضافة لذلك، لم يكن معها كلما احتاجت له. ولم يمكنه حل لغز ندوب معركتها، ولم يفهم لماذا هي مخلوق متألم. لقد عشقها ولكن بأسلوب خاطئ. كما لو أنها شخصية موجودة في كتابه المفضل، أو ممثلة في مسرحية يألفها، جزء - محبوب ومتخيل - من ثنايا خياله، الذي يولد مع ممارسة الحب.

وبالموت، اتحدا مجددا، مثلما هو حال قصيدة كافافيس.

***

 

.......................

ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould: كاتبة وأستاذة جامعية أمريكية. تعمل بتدريس الحضارة الإسلامية والأديان المقارنة في جامعة برمنغهام، غرب إنكلترا. لها عدة مجموعات شعرية وقصصية آخرها “غرباء عشاق”. ستصدر في صيف عام 2021. وهذه القصة من هذه المجموعة. وتمت الترجمة بالاتفاق مع الكاتبة. وبتصرف بسيط اقتضاه الفارق الشعري والفلسفي بين اللغتين.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم