صحيفة المثقف

رحلة تشرين ومضائق السلطة

ساهمت الدسائس الامريكية في خلق نزاعات في اوساط اليساريين، كثيرا ما تحدث عنها زعيم الحزب الشيوعي البوليفي ماريو مونهي في عدة مناسبات محذرا جيفارا من حالة الجزر الثورية والانقسامات التي تعانيها البلاد، فمنذ عام ١٩٦٧ وجد جيفارا نفسه مع مقاتليه العشرين، وحيدا يواجه وحدات الجيش المدججة بالسلاح تحت قيادة السي آي إيه في براري بوليفيا الاستوائية .

من كتاب : جيفارا ثائر لا يموت، السيد عبد الفتاح ص ١٠٤

- فليعتبرها البعض من باب المغالاة، (خاصة اولئك الذين تذوقوا لذة طعم السلطة وتلذذوا مجتَمِعين اكثر، بطعم الانحطاط المجتمعي)، لو قلنا بأن ثورة تشرين اعطت للكثير منا نوعا من التشبث بالحياة، بانتظار ظل غيمةِ امل ٍ قادمة، بانها ستسقي شيئا من ارضنا القاحلة الجرداء ولعلها (سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت) *١ وما اضيق العيش لولا فسحة الامل، وبعض ٌ من احلام اليقظة !! والا فنحن وسط هذا الركام الاخلاقي المعيب الذي قل نظيره وهو يفتك بالمجتمع افرادا ومجموعات بشرية، في ظل هذا الجمود الحضاري والتقهقر المدني الرهيب لصالح مجموعات فكرية رجعية متسلطة غير منسجمة من الاساس لا فكريا ولا مفاهيميا، فكل ٌ يدعي نزوعه نحو قاعدة فكرية واعتقاد سياسي، ليس في نتائجها الا المزيد من التطرف الفكري او الاثني او الحزبي، سلطة غير متجانسة تعيش اقصى مديات التناقض في بلورة تنفيذ قرار يخص الصالح العام، والامر هذا، بات مفهوم الدولة مفهوما خياليا عائما غريقا بمستنقع فسادها الآسن، الذي احال الحياة بعد ١٧ عشر عاما الى اشبه بالمغامرة الضائعة المجنونة والتي حسبتها الاقدار على انها بذور اعوامنا المنسية، التي انتثرت على ارض رخوة، زرعتها حماوات المعتوه الضرورة قبل هذه الاعوام العجاف والهمتها رسوخا، حماقات و حماوات الضرورات من الافاقين الجدد بعدها .

وهكذا ابدا تمضي أمانينا،،، فلا سفن ولا وجود ولا نلقى مراسينا،، على حد قول الشاعر *٢ .

- حينما تدخل الامواج، المضيق، عليها ان تكمل الرحلة نحو المحيط الواسع، لا تتعثر وتتباطئ ثم تموت .

رُسِمَ لثورة تشرين ٢٠١٩ بعد ان تعثر وأدها باطلاقات قناص غادر، ان تدخل مضائق السلطة، من أجل ان تتعثر وتتباطئ بانتظار نشر خبر وداعها المنتظر من قِبلهم !!، لكنها لم تمُت ْ بعد، لسببين :

- اولهما المد العاطفي الذي كان له اكبر الأثر في قلوب الغالبية من الشعب العراقي، قلما وجد بأطاره الشعبي وتأثيره الوطني الكبير على فكر المواطن العراقي من قبل، في ظل اي ثورة شعبية عراقية سابقة *٣

الا ان هذا التأثير سيبقى متفرقا ً غير مؤثر بسبب كونه تأثيرا ذاتيا وشخصيا قابعا بقلب كل ثائر وكل مشارك ومتعاطف مع هذه الانتفاضة الشعبية التي خلفت مئات الشهداء والضحايا وعشرات الاف الجرحى والمعاقين، فقد بات هذا التأثير غير مُجْتمِع اجتماع القوي المؤثر في ساحة الصراع !! فهو لم يخرج عن حدود الذات والافكار والتمنيات العريضة التي لا تتناسب والواقع المفروض !!

- والسبب الاخر هو بقاء مسببات بقائها، فالثورات الشعبية الخارجة من رحم الاحزان لن تموت ابدا، بل تتجذر وتستمد اسباب نموها من اسباب بقائها .

فعلينا ان نستثمر تلك الطاقة التي ستخبو وتموت مالم نحشد فيها اسباب القوة ومبررات البقاء ونعيدها لحلبة الصراع .

- اللغة التي تتفاهم بها السلطات مع منطلق الثورة وسلوك الثوار، تماما كلغة تفاهماتها مع مرتكز الدين وسلوك المتدينين، فالسلطة تريد ان يثوى الدين تحت عهدتها جبلا جاثيا هادئا متمترسا بفقه الطقوس والغيبيات وتفسيرات الاحلام وكذلك سلوك المؤمنين عائما بنظرياته الطقوسية الدعوية المُغيبة، ولا تضر بعض الشعارات الحماسية في ظهيرة نهاية الاسبوع من اسبوع واخر !!

ما دام لا يحرك بالفرد وعيا ولا يستنهض بالمجموع فكرا، فاذا كان يراد بالدين هكذا محصورا بفقه التعبد والزهد والتشرد الذاتي، كذلك يراد للثورة ان تكون محصورة بفكر التمرد الذاتي على الماضي والاعراف وحتى الدين نفسه، لا يهم ما دامت افكارها على ورق او عبر الأثير تحت تأثيرات الديمقراطية التي لا بد منها، ولا يهم ايضا ان كانت افكارها المتمردة تعيش بفكر بعض الافراد او كم هائل منهم ما داموا لا يجتمعون على اساس بلورة تلك الافكار وتكريسها من اجل استنهاض، ثورة قادمة.

- اليوم لدينا من سلاح الوعي الكثير الذي يدفعنا لاختيار من يقود وان نقبل به ونرسم لقيادته الامر المُرجى بالوصول لسفينة تشرين الى ما اردنا، فمرحلة ولادة البيعة السرية للوطن والشعب وما رافقها من الالام ولادة قسرية على الاخر، لا بد ان تنتج مرحلة اخرى من الوعي وهي اختيار من يقود ومن يصل بمبادئ الثورة الى حيز التنفيذ، خاصة وان المدة التي مرت منذ تشرين ٢٠١٩ والى اليوم قد افرزت الكثير من النتائج على نطاق الافراد ومخاض الافكار ومتبنيات المد الثوري، الذي يجب ان يتنزل عن الافكار و الورق، لصالح ارض الواقع البَور .

- سفينة تشرين اليوم قابعة في ميناء للسلام، لتكون كما خُطط لها من قِبل السلطات، مجرد ذكرى عابرة، قابعة في وجدان وضمير شعب حي، حالها حال ثورات كثيرة مرت بتاريخه السياسي، فمن يسير بدفتها نحو وسط البحر، لكي تصل نحو تطبيق متبنياتها التي خرجت من اجلها ؟؟

- والثورات العفوية اذا قامت نتيجة لظروفها المحيطة، فانها لا تركن الى الخلود من منطلقها العفوي مطلقا، فالثورات التي كتبها سفر المجد، تلك التي تخضع لامكانية تطبيق مبادئها وادراج مفاهيمها على ارض الواقع، اما النجاح والفشل بعد انتصارها كائن (او مفهوم اخر) والحديث عنه ليس اليوم .

- لغة السلطات واحدة وديدنها، لحنٌ متكرر واحد وكذلك الثورات، فان لم تكن بلغة وادوات واحدة فهي من منطلق واحد،

حيث ادخلت السلطة، الثورة، مضيق الاتهامات والتبجحات والقذف واللعن، فبادلتهم بها، وفتحوا عليها نيران التقولات ودعاوى ابواب السفارات فردوا اليهم الكرة بالمقدار نفسه والاتهامات نفسها، لقد أكل الثوار الطعم !! وانزوى الثوار بالقيل وقال (وهدأت موجة الثورة من اجل الانقضاض عليها ووأدها الى الابد) .

هكذا ترسم السلطات منهج قتل الثورة وصّد امواجها واقتلاعها ومن ثم رميها نحو الشواطئ البعيدة المجهولة، فتكون بلا تأثير يذكر على ارض الواقع، تاريخا ليس الا .

- الا يستطيع وعي تشرين الذي جابه سلطة قابعة وسط مساحة مليئة بالفوضى والاوحال، الانتفاض على نفسه واستثمار وعيه والخروج بقادة ياخذون بفكره نحو التطبيق !؟ وهناك من يعطي زخم للثورة من السلطة نفسها، وعلى القائمين برفع شعاراتها الوطنية وابقاء ديمومتها الفكرية مشتعلة بالنفوس، استثمار تلك القوى التي آمنت بالثورة ودعمتها وساندتها وطالما حاولت الميل نحوها من اجل لفت انتباه جماهيرها، فالذي يؤمن بثورة قائمة على سلطة هو من المشاركين المؤثرين بها، هو انتصار للثورة واهدافها الثورية .

- لقد فتحوا للثورة، مشاجب سلاحهم الاعلامي واوهموها بالقاء عدة اسلحة مستهلكة فاستخدمها (الثوار) وسرعان ما تبين لنخبة وعيها الجمعي، حجم اللعبة التي ادخلها بهم، الإعلام المضاد للسلطة، ورداءة السلاح المُهدى من الخصوم، دخلت الثورة الحرب بسلاح العدو، وقُتل الثوار بسلاح الخصوم، وفتكوا بهم لانهم يعلمون جيدا حجم السلاح الغير منسجم مع تطلعات وافكار ومنهج ما يدعو اليه الفرسان، فثبطوا العزائم محاولين ترسيخ الفشل منتظرين لحظة رصاصة الرحمة التي للاسف ستأتي من الثوار انفسهم، وتُشيعُ احلامهم واحلامنا كما شيعنا شهدائنا من قبل، مالم،

يتم الاسراع بلم الشتات واظهار كواكبنا التي لا بد ان تشرق من جديد .

- فالسلطات لها المقدرة الكافية والخبرة الطويلة في فك طلاسم الحركات و التظاهرات الشعبية من خلال زجها بمضائق التسييس والتخوين والتأطير الضيق لاهدافها وافكارها الثورية . كما فعلت السلطات بكافة الثورات التي قامت من قبل في العراق دون استثناء .

[ان الثوار لا يمكن ان يصنعوا الحرية، انهم ابدا خصومها، ان الحرية تصنع طريقها بلا تشريع، بلا ثورة، كما النهر يحفر مجراه، بمواصلة السير في جوف الصخور، بمقاومته الطبيعة، ان الحرية لا توجد بالارادة او الخطة او الامر، ان الحرية توجد مع الاشياء الصعبة والمتناقظة والمضادة .

* ان الحرية هي التعود على السير في طريق مسدود بالتناقضات والاحزان !! ]] *٤

- فمفاهيم عبثية وقف العالم عندها !! مثل ابناء السفارات والجوكرية لا تختلف في منطلقها النفسي، عن مفاهيم الذيول او الولائيين،، اقتنع الطرفان باستجابات لا شعورية، فاطلقوا لانفسهم العنان وراحوا يستجيبون لما اُريد لهم بالضبط من بعض المتحكمين بالسلطة !!، فردوا اليهم الهجمة ولكنهم تُرِكوا وسط سديم فوضوي فسيح، من الاتهامات والتقولات والإدعاءات محاولين مسك طوق النجاة، فلم يفلحوا !!

وهذه سُنن ْ الثورات العفوية، التي تُنتَج بعاطفة شعبية جياشة وتلقائية، ليس لانها ولدت دون قيادة، على الاطلاق، فهذا سر من اسرار بقائها، بل لأنها أبت ان تبقى دون قيادة !!

فالقيادة بهذه المرحلة هي هواء الثورة !!

ومتبنياتها وغاياتها، جسدها !!

وسلميتها روحها التي ظلت عصية على الموت .

جسدا وروحا وهواءا لديمومتها والوصول بها الى حيز التطبيق من خلال المشاركة الفاعلة بالانتخابات .

- اما وقود الثورة فهو كالنفط تماما، يحتاج الى قوة استخراج من الباطن لاستثماره بما يتلائم وخدمة الدولة والمجتمع، ولا يتم ذلك الا بظهور قيادات نابعة من نفس تلك الارض التي انتجتها ثقافة التحرير كساحة، والحبوبي والتربية ومجموع ساحات التظاهرات الاخرى اللاتي لملمت كل الاطر الايديولوجية وأطَرّتها بصورة واحدة هي قضية الوطن وحقوق المواطن، فهو ارثها وميراثها القابع بالنفوس وقوتها الدافعة وحماستها المخبوءة وعاطفتها الجياشة التي تحتاج الى عود ثقاب، مصنوع في ارض الوطن، مُدافع ٌ عنها، مراهن ٌ فيها، منسلخ ٌ منها ومن فكر ساحات التظاهر، قريبا من الجوع والحاجة والحزن والحرمان، فكلها عجينة الثورة التي تشكلت عبر تاريخ طويل وهي تنتظر من ينفخ فيها الروح (روح الامل بالألم) التي توارت تحت جمرات العذاب والتاعَت بزيف الوعود، وهَتَكت استارها زُمَر الفساد .

- اليوم سفينة تشرين التي انطلقت لاهداف واضحة جسدتها الجماهير بكلمة واحدة وغاية واحدة وشعار واحد (نريد وطن)، هي بحاجة اليوم الى قبطان يدير دفتها، او عدة قباطنة في هذه المرحلة، لا يهم، ما داموا على ارض واحدة هي ارض العراق ومركب واحد هي مركب تشرين وغاية واحدة هي بناءُ وطنٍ دمره الاوغاد والفاسدون، ويجب الحذر واخذ الحيطة من الدسائس وزرع الانقسامات بين اوساط الثورة (حالة الجزر الثورية)، اليساريين منهم او اصحاب الأيديولوجيات الاخرى او باقي مجاميعها المنظوية تحت لواء الغايات الرئيسية للثورة، فكلهم تقاسموا هدفها والمها ودمعها ودمائها، خاصة وان بلادنا اليوم حاضنة مريحة لكل توجهات وتوجيهات الدول الاخرى والتي لا تدخل الا بوساطة من الداخل وتتحرك بواسطة اجهزتها المخابراتية والاستخبارية تحت ذرائع متوفرة على الدوام .

- ولعل منا من يقول، الانتخابات والدخول من بابها الضيق، هو مضيق ايصا، نعم بالتأكيد هو مضيق ولكنه يقبل بمشاركة كل الامواج الصغيرة المندفعة والكبيرة الهادئة، ومهما ضربت تلك الامواج المراسي والشطآن في النهاية، مبدأ تكافل الفرص موجود ولو نسبيا ! والمشاريع العملاقة عادة تبدأ بفكرة !

كما ان هناك من يدير ادارة ذلك المشروع وطريق الدخول والخروج من بعيد، لا نريد الاندفاع بشأن مغازلتهم حتى وان كانت لهم اليد الطولى بصناعة ادوات المشروع القائم، ولا نريد من الاخرين ان يعطفوا علينا بنعمة المشاركة وهي ملك الجميع، بل علينا فقط وفقط جمع شتاتنا (وجمع دمائنا) التي فرقوها بين قبائل احزابهم وزجوها بين دسائس اقلامهم ونزاعات جهلهم المرير، المتسكع خلف منهج اعلامي حزبي مؤدلج ورخيص، يُعيب على شعب ان يقوم بانتفاضة شعبية للمطالبة بحقوقه، ويُطبل لاصنام فتكت بقدسيتها المخادعة كل المبادئ والاخلاق والقيم السامية .

[ان الحرية هي التعود على السير في طريق مسدود بالتناقضات والاحزان !!

اننا نتعلم الحرية كما يتعلم الاعمى السير في حقول المهالك مبصرا بعصاه !!] *٥

- ولعل عصانا اليوم وعكاز مستقبلنا الاتي القريب، التي ستكون متكئا لعبور الصدمة الكارثة المأساة، هي تشرين، تشرين الأمل والتغيير والمستقبل .

 

 حسن عزيز الياسري - شباط - ٢٠٢١

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم