صحيفة المثقف

لماذا يهتم الغرب "بمريض برلين"؟

كريم المظفرأبدى الغرب اهتمامًا كبيرًا بقضية أليكسي نافالني، وحضور دبلوماسيين من عشرين دولة غربية وقائع محاكمته في موسكو، في سابقة لم تشهدها المحاكم من قبل، يؤكد حقيقة ان الغرب يرى في المعارض الروسي بوريس يلتسين الثاني، القادر على إعادة روسيا إلى المسار الموالي للغرب، على الرغم من انه حتى اليوم لا يوجد إجماع حول روسيا في نخبة أوروبا وأمريكا، ولكن حتى الآن هناك حاجة إلى نافالني من قبل أولئك الذين يعتبرون روسيا بمثابة دولة آسيوية، وأولئك الذين يرون كدولة أوروبية فيها، إذا وجدوا شخصًا آخر "أكثر قدرة" من نافالني، فانهم لن يتوانوا في نسيانه على الفور، لأن الشيء الرئيسي لهم هو عدم وقف عملية "التغيير".

لقد جرت العادة في المحاكم الروسية ان يحظر" قناصل " الدول لمتابعة القضايا التي تهم مواطني بلدانهم، ولكن ان تمتلأ ساحة وقوف السيارات المجاورة للمحكمة في موسكو بهذا الكم من السيارات التي تحمل اللوحات الدبلوماسية، لمتابعة قضية المعارض الروسي، حيث عُقدت الجلسة الميدانية لمحكمة مقاطعة سيمونوفسكي في قضية " مريض برلين " بحسب تسمية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين " لنفالني "، فهذا الامر يثير تساؤلات عديدة، فقد اجمع ممثلو الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا العظمى وألمانيا والسويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وسويسرا والنمسا وجمهورية التشيك وبولندا وبلغاريا ولاتفيا وليتوانيا واليابان على ان القضية " تستحق العناء "، وبالتالي فإن حضورهم سيكون عامل ضغط مباشر على هيئة المحكمة.

حتى لو اعتبر الغربيون ان نافاالني "ملكهم"، فهو مواطن في الاتحاد الروسي، ولم يحمل جنسية الدول التي حضر ممثليها جلسة الحكم عليه، وهو امر وصفته ماريا زاخاروفا، المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية، على صفحتها على فيسبوك، بانه لم يعد هذا مجرد تدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، بل - هذا كشف ذاتي للدور القبيح وغير القانوني للغرب الجماعي في محاولات احتواء روسيا

الحكم على "مريض برلين " هو ليس بالجديد، فقد سبق وان حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة الاختلاس مع إيقاف التنفيذ، ولكن تخلف "نافالني " عن الحضور لعدة مرات امام السلطات القضائية، استوجب إعادة محاكمته بالقضية ذاتها، وليس بتهمة " الخيانة العظمى " والتي من المفترض من وجهة نظر المراقبين الروس، ووسائل الاعلام الروسية ان توجه له، لدعوة الغرب الى فرض مزيد من العقوبات على رموز الدولة، وهذه بحد ذاتها تهمة كبيرة .

والغريب في الامر، ان الغرب المهتم بنافالني والدبلوماسيين الغربيين الذين هرعوا إلى المحكمة، لم يحضروا لمحاكمات لشخصيات مثل منسق الجبهة اليسارية سيرغي أودالتسوف أو القومي مكسيم تيساك مارتسينكيفيتش، على الرغم من كل معارضتهم، لكنهم يختلفون عن " نافالني "، بانهم لم يدعوا إلى العودة إلى أسوأ الأمثلة على سياسة يلتسين الخارجية، وظلوا في المنطقة، ودعموا ضم شبه جزيرة القرم، وهذا يعني أنهم ليسوا مهتمين حقًا بحرية التجمع وتنوع الأحزاب في روسيا.

فمن وجهة نظر النخبة الليبرالية اليسارية، لا ينبغي عقد صفقة مع "الطغاة"، والاعتراف بالسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية مفاهيم ميتة منذ زمن طويل، لأن "الحرية لا حدود لها"، لذلك، تتنافس وسائل الإعلام الغربية على نافالني، رغم أن الرجل المحلي في الشارع لا يهتم به،، وإن السياسيين الغربيين يدافعون عنه واحدًا تلو الآخر - بعد كل شيء، إنه يقترب من "توسيع مملكة الحرية".

الحضور الغربي لم ينفع " نافالني " وفشلت التوقعات في إمكانية حدوث ضغوط غربية على هيئة المحكمة، كما فشلت التوقعات بان الحكومة الروسية لا تلقي القبض على " نافالني " فور وصوله ارض المطار، خوفا من " ازعاج " الإدارة الامريكية الجديدة، ولهذا سيقضي أليكسي نافالني عامين وثمانية أشهر في مستعمرة النظام العام بتهمة الاحتيال ضد شركة إيف روشيه، في عام 2014، حيث تلقى حُكمًا مع وقف التنفيذ في هذه القضية، لكن في 2 فبراير، وبناءً على طلب من دائرة السجون الفيدرالية، أصدرت محكمة سيمونوفسكي في موسكو حكماً حقيقياً على المدون لارتكابه انتهاكات متعددة لشروط فترة الاختبار، وقضت المحكمة أيضًا بإجراء فحص في دائرة السجون الفيدرالية نظرًا لعدم تقديم الالتماس لتغيير الموعد النهائي في وقت سابق ,

ويقول محامون إن "نافالني" سيقضي عقوبته على الأرجح في منطقة موسكو أو في المناطق المجاورة، وفي الأشهر المقبلة - في الوقت الذي يستأنف فيه المحامون الحكم - سيبقى المدون في السجن، اذن لم تكن هناك مؤامرة حكومية معينة ضد المعارض الروسي، لكن الدبلوماسيين ووسائل الاعلام الغربية كانت تنتظر ما تنتج عنها محاكمة " نافالني " من قرارات قضائية جديدة، وبمجرد حدوث ذلك ونطق الحكم، تدفقت موجة من بيانات النسخ الكربونية: مثل طالب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين بالإفراج عن المعارض، وصولا الى الهدف الرئيس الا هو مناقشة فرض عقوبات جديدة على روسيا.

وراحت وسائل الإعلام الغربية وحلفائها، ترديد جملة واحدة متفق عليها، على ما يبدو، في جميع البلدان الأوروبية، وفي أمريكا الشمالية واليابان، واللهجة هي نفسها تقريباً في كل مكان: يقولون، "لقد حاولوا تسميم العدو الرئيسي للكرملين بسبب آرائه وأنشطته المعارضة، ثم وضعه خلف القضبان"، جملة تثير العديد من الأسئلة، مثل من هو نافالني، ولماذا ينصب هذا الاهتمام عليه؟ ولماذا يهتم الغرب الجماعي بمصيره؟ وهل المواطنين في كندا وامريكا وباريس وألمانيا وحتى العربي، معني بأخبار نافالني؟ هل تركت دول العالم كل مشاكلها وازماتها وأصبحت " متفرغة " لحضور جلسة محكمة روسية تقاضي مواطنا روسيا؟

بالتأكيد سيكون الجواب بسيط بما فيه الكفاية، هو ان " مريض برلين "، بات رمز لآمال الغرب في تغيير سياسة روسيا في الاتجاه الذي يريده، وحتى ولو لم يرغب أليكسي أناتوليفيتش في البداية في أن يصبح أداة لأوروبا والولايات المتحدة، فقد أصبح واحدًا، وحتى لو كشفت بعض تحقيقاته عن قرح الفساد في جسد السلطات الروسية، فقد صبوا الماء مباشرة على طاحونة أولئك الذين يريدون إضعاف روسيا من الخارج.

مخطأ من كان يتوقع ان هذا العداء الغربي " وشرهم الجماعي " ضد شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو وليد ظهور قضية القرم او " نافالني "، ولم يحدث هذا " العداء " على الفور، ولكن بنظرة جدية الى الوراء، سنجد ان خطاب الرئيس بوتين الذي لا يُنسى في ميونيخ في فبراير 2007، والذي انتقد فيه بشدة سياسات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كان الحجر الأساس لعلاقات شراكة مع الولايات المتحدة وحلفائها غير مريحة، وحاول الغرب توجيه ضرباته إلى أقصى حد لشخص الرئيس الروسي، وبما أن نافالني تحدث شخصياً عن بوتين أكثر من غيره من المعارضين، فقد جعل الغرب يلتفون حوله .

في الوقت نفسه، لا يعد نافالني الشخصية المرغوبة للغرب في المعارضة الروسية، وحتى رفاقه في السلاح في المعسكر الليبرالي لاحظوا طموحه المفرط وعاداته الديكتاتورية، بالإضافة إلى ذلك، كان يغازل ذات مرة الأفكار القومية، التي بالكاد تكون قريبة من النخب الليبرالية اليسارية في أوروبا والولايات المتحدة، ومع ذلك، فإن إيليا ياشين أو غاري كاسباروف، المعارضين التقليديين لم يتمكنوا من حشد أي شخص حول أنفسهم.

وبغض النظر عن مدى عدم كمال " نافالني " من وجهة نظر النخبة الغربية الليبرالية اليسارية، فإنهم ينظرون إليه، وإن كان مع تحفظات، على أنه "ملكهم"، وخلفيته لم تكن هناك فيها خدمة في إدارة الخدمات الخاصة السوفيتية والروسية، والتي تعتبر في حد ذاتها "وصمة عار" في الغرب، ولم يكن يشغل أي مناصب في هياكل الدولة الروسية، تم تشكيله كشخص في التسعينيات، عندما كان هناك، كما يعتقد الغرب، "ازدهار للحرية" في روسيا، او درس في الولايات المتحدة الأمريكية.

هناك أكثر من شيء، غالبًا ما تم مقارنة "نافالني" بالرئيس الأسبق بوريس يلتسين، وعلى الرغم من الاختلاف بين الاثنين، فإن لكليهما ميزة رئيسية واحدة في نظر الغرب، كلاهما لم يكن له علاقة بالشؤون الدولية، وكانت لديهما فكرة غامضة للغاية عنها، ما تحتاجه هو سياسي عديم الخبرة على رأس دولة كبيرة، يمكنه تعليق المزيد من "دوشراك" على أذنيه، وسوف يبتلع هذه المعكرونة، حتى لو لم يكن ينوي الإضرار ببلده.

ومن حيث المبدأ، لا توجد رؤية مشتركة لروسيا في أوروبا وأمريكا، فهي بالنسبة لمجموعة واحدة من السياسيين والمحللين، فإن روسيا هو مثال على "آسيا "، التي ولد شعبها بالفعل "عبيدًا"، الروس، بحكم التعريف، غير قادرين على الحرية والديمقراطية والقبول الصادق "للقيم المتقدمة"، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب عزل روسيا، وهذا يتطلب شيئًا واحدًا فقط - لجعل روسيا مطيعة دوليًا، وفي الداخل، يجب أن يكون هناك "يد قوية"، بينوشيه الخاصة بها، هذا هو نوع السياسي الذي تراه هذه المجموعة في نافالني.

لكن هناك أيضًا جزء آخر من الغرب، إنها متأكدة من أن روسيا، وإن كانت خاطئة، لا تزال أوروبية، وهذا يعني أنه يجب إعادتها تدريجياً إلى "الطريق الصحيح"، وبهذا المعنى، يعمل نافالني باعتباره يلتسين الثاني، الذي يجب أن يلعب دور الشخص الذي سيقرب روسيا من أوروبا، كما يُعتقد هناك، ويتعين في بعض الأحيان كسر الدول الاستبدادية من خلال عدم استخدام الأساليب الديمقراطية على الإطلاق، وبعد هذا الانقطاع، يجب استبدال نافالني بشخص "صحيح" تمامًا ...

اذن يريد الغرب شيئًا واحدًا من نافالني: أن تخسر روسيا مرة أخرى سياستها الخارجية، للتشاور بجدية مع واشنطن وبروكسل وعواصم غربية أخرى حول كل قضية حرفياً، و من الواضح أن الحكومة الروسية الحالية لن تفعل ذلك حتى ممثليها الذين لم يدلوا بتصريحات قاسية بشأن الغرب، لذا، فهم ( أي الغرب) بحاجة إلى بديل، فإذا اعتقد الغرب أن هناك من يستطيع أن يهز روسيا أفضل من نافالني، فإن مصير  " مريض برلين " سيتوقف فجأة عن إثارة اهتمام السلطات الأوروبية والأمريكية، ولن يأتي أي دبلوماسي غربي أو ياباني إلى محاكمته، ولشيء الرئيسي هو جعل روسيا "مفهومة" ومتوافقة، ومن سيجعلها هكذا - نافالني، كارنافالني أو ساسي - ليس مهمًا جدًا.

 

بقلم : الدكتور كريم المظفر - موسكو

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم