صحيفة المثقف

رؤية العقاد للإصلاح الفكري والأدبي

يسري عبد الغنيلعلك تتفق معي في أن المبدع أو المفكر الذي لا يملك رؤية أدبية أو فكرية هدفها الصلاح والإصلاح لا يصح أن ينتمي إلى عالم الإبداع أو الفكر الجاد الواعي .

وأستاذنا الأديب الكبير / عباس محمود العقاد كان صاحب رؤية فكرية وأدبية إصلاحية تجلت في العديد من كتاباته التي أثرت الفكر العربي بوجه عام والثقافة المصرية بوجه خاص .

لقد تصدى العقاد في مقالين مهمين نشرا على صفحات صحيفة الجهاد في 9 و 12 من  نوفمبر سنة  1934، للكشف عن ألاعيب حياتنا الفكرية والأدبية في تلك الفترة الزمنية من تاريخ بلادنا، ومدى تأثير الكيد السياسي في حياتنا الفكرية، وقد قصد عمدًا إلى تسجيل الحقائق التي يجب أن يعرفها، ويطلع عليها مؤرخ الأدب المنصف أو المثقف الواعي المستنير .

يرى العقاد أنه من حق تاريخ الأدب أن يقوم بكشف الدسائس الخفية التي أحاطت بحياتنا الأدبية في تلك الفترة التي كتب فيها هذين المقالين، لأن كشفها ضروري لتصحيح الحكم على كثير من الحركات المريبة التي ظهرت في خلال هذه السنوات ظهورًا غريبًا مفاجئًا لا يسهل تعليله لغير الوقوف على دخيلة البواعث التي دعت إليه، فإن هذه الحركات لم تكن دليلاً على اتجاه في الأفكار أو تطور في الأذواق، إنما هي الأحابيل منصوبة للقبض على ناصية الفكر العربي، وأاقتياده إلى خدمة الأغراض المرسومة .

وأخذ العقاد يعدد الأساليب التي استخدمها الإبراشي باشا كبير سماسرة السياسة والمصالح في تاريخ القصور الملكية بمصر، فالإبراشي باشا أسمرت ألاعيبه أكثر وأكثر، في ظل رجل من كبار أعداء الحرية في تاريخنا، ويقصد بذلك إسماعيل باشا صدقي، صدقي الذي نكب الأمة في دستورها فقتله ومثل به أبشع تمثيل، صدقي الذي سلط زبانيته على الأحرار والمنادين بالحق والحرية يبيتون لهم المكائد، ولا يقابلون جموعهم كلما اجتمعوا إلا بالعصي الغلاظ، وأطراف الأسنة ورصاص البنادق، صدقي الذي أعاد جباية الأموال إلى عهد الوحشية الأولى، فأصبحت الضرائب لا تطلب إلا بألسنة السياط والكرابيج .

صدقي الذي عرف المصريون في عهده كيف يكون الدرك الأسفل من معاملة الحاكم للمحكوم، وكيف تمرغ وجوههم وجباههم في الأرواث والأوحال، وكيف يضطرون إلى التسمي والتنادي بأسماء النساء، إمعانًا في التمثيل والإذلال .

لقد شدد العقاد ومحمد توفيق دياب صاحب صحيفة الجهاد النكيرة في هجماتهما على صدقي باشا مما يعد بحق من مفاخر شجاعتهما، وقوتهما، وقد سجن محمد توفيق دياب بسبب هذه المعارك، وضيق على العقاد حيث عانا الرجل الأمرين .

ومن أقوى المقالات التي كتبها العقاد هذا المقال الذي نشر في جريدة الجهاد يوم 28 فبراير 1922، وفيه شن هجومًا لا هوادة فيه على صدقي ورجاله، وسخر من حلمي عيسى باشا وزير المعارف على عهد صدقي، لأنه صادر الحرية السياسية للطلاب .

وأذكر لك مثالاً آخر، مقالة العقاد التي نشرتها صحيفة الجهاد في 16 فبراير 1933، بعنوان (لماذا تبقى الوزارة الصدقية وقد حقت عليها كلمة  الزوال؟!) .

ومثال ثالث: مقالة العقاد والمؤرخة في 23 مايو 1934، والتي سخر فيها من لجوء صدقي إلى الصحافة والرأي العام، وهو العدو الأول لهما، وذلك أثناء وجود صدقي خارج الوزارة، وقد أوجعه العقاد .

يؤكد العقاد على أنه لا غرابة في بلادنا في ظل هذه القبضة الحديدية، قبضة صدقي والإبراشي وغيرهما أن تجد الحيل والإغراءات التي اخترعها الإبراشي رئيس الخاصة الملكية طريقها إلى إفساد الحياة الأدبية والفكرية بعد أن فسدت الحياة السياسية والاجتماعية .

أستاذنا العقاد أخذ يعدد لنا الأساليب التي استخدمها الإبراشي باشا في هذا السبيل، ويصفه لنا بأنه وسع من شباكه لتشمل رجال الفكر العربي والغربي على السواء، لأن الإبراشي يعرف مقدمًا أن الهيمنة الفكرية على مصر وحدها لا تكفي لتسخير الأدب العربي كله حيث يريد، لأن من الأدباء المصريين من تنشر كتاباتهم وكتبهم وتمتد شهرتها وشهرتهم إلى حيث الكتابة الأوربية في أوربا بين رجال الاستشراق والمؤرخين المهتمين بدراسة الآداب الشرقية عامه (وكان منهم بالطبع الأستاذ العقاد).

لابد إذن من توسيع الشباك، وإبعاد المرمى، لتشمل هؤلاء عن طريق إغرائهم بإلقاء الدروس والمحاضرات مع البذخ في العطاء والتفنن في إمتاعهم بالرحلات، والغارم الوحيد هو بالطبع الخزانة المصرية .

ويقول العقاد: إنهم من أجل ذلك فكروا في إنشاء المجمع العربي، ليستغلوا طمع الطامعين، ويملكوهم بالآمال التي يسيل لها اللعاب، قبل أن يملكوا بعضهم بالمرتبات والمكافآت، بل افتنوا في إنشاء الوظائف الأدبية، واستكتاب المصنفات العلمية ليدخلوا في روع المؤلفين الأوربيين أن بلادنا بابًا مفتوحًا للمغانم والأرباح، يدخله من يتبرع مشكورًا بالخدمة، ويتزلف إليهم بالتأييد من الأنصار وخذلان الخصوم .

يضيف العقاد: أنه قد وصل الأمر بهؤلاء السماسرة في حقل الأدب والفكر، أنهم عندما احتفلوا بمضي الأربعين على وفاة أحمد شوقي، وهو متوفى بعد حافظ إبراهيم بنحو ثلاثة أشهر، أن أرسلوا المساعي إلى البلاد العربية، واشترطوا على المدعوين أن يقصروا القول على رثاء شوقي فقط، دون أدنى ذكر لحافظ إبراهيم، لأن حافظًا شاعر الشعب لم يكن من المرضي عنهم .

كيف يكرمون حافظًا وقد وبخهم توبيخًا في الكثير من قصائده السياسية، أقول لك: لقد ذكر الأستاذ / عبد الرحمن الرافعي المؤرخ الكبير لحافظ إبراهيم جملة من أشعار الوطنية في مقاومة الاستعمار البريطاني، والسياسة الغاشمة على عهد صدقي باشا، وذلك في كتابه (في أعقاب الثورة المصرية)، وأطلب منك أيضًا أن تراجع ديوان حافظ إبراهيم، بتحقيق وتقديم الدكتور / أحمد أمين، والصادر عن دار الكتب المصرية لتعم الفائدة في هذا الأمر .

أعود بك لنجد العقاد يقول لنا: لقد ذهب بهم الأمر في إحكام خطتهم إلى إغراء بعض الصحف العربية في: سوريا، والعراق، وفلسطين، لتسخير كتابهم على النحو الذي يريدونه من المحاباة والإجحاف، وأن في كل قطر عربي لأناس من المشتغلين بصناعة القلم، يرجون الخير ويطمعون في النوال، وليس بخفي عليهم سبيل الوصول والظفر بالوعد المأمول، فماذا عليهم إن هانت ضمائرهم أن يتوسلوا بالوسيلة، ويلتمسوا وجه الحيلة ؟!، كل ما هنالك أن يفرطوا في مدح المحبوبين، وذم المكروهين، وكان الله يحب المحسنين .

ويوضح العقاد الخطة الجهنمية لمحاربة أصحاب الضمير من الكتاب المحترمين، فيقول: وكانت الخطة فيما يتصل بالأباة من الكتاب ذوي الضمير الحي، والشأن الرفيع، كانت الخطة منهم التشهير والنفير، واختلاق الجماعات التي تتزيا بألوان من الأزياء، وتتسمى بأشتات من الأسماء، ومقصدها كلها الغض من أولئك  الأدباء الأباة، ويذكر لنا العقاد أن الجزء الأوفى من هذه الحملات كان موجهًا إلى عميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين .

ويكشف العقاد عن أسماء المستفيدين من هذه السمسرة الأدبية الفاسدة، ويؤكد على أنه ما كان بوده ألا يهبط بقلمه إلى ذكر الأسماء والأمثلة، وليكن ذكرها قسطًا جديدًا من أقساط الأذى العميم الذي يصيبنا في أنفسنا وأبداننا وأعراضنا من جراء خدمة الثقافة والتصدي للمبطلين .

ونستطرد هنا فنقول: إن الباحث يكن كل التقدير والإعزاز والإجلال لكل من ذكرهم الأستاذ العقاد، فقد تعلمنا منهم الكثير والكثير، والعهدة على الأستاذ العقاد فيما كتب، وفيما عرض من وجهة نظره الخاصة، لاعنين السياسة وأحابيلها في كل وقت وفي كل آن .

يذهب العقاد إلى أن: الرافعي (الأستاذ / مصطفى صادق الرافعي) ألف كتابًا في التشهير بالدكتور طه حسين، وألف كتابًا أسماه (على السفود) الذي أصدره الأستاذ / إسماعيل مظهر، صاحب دار العصور سنة 1930، حيث أفعم الرافعي بالطعن الشديد الفاحش فيه على العقاد .

ويقال: إن الرافعي سرق من بعض كتب العقاد، ورغم ذلك أنكر عليه وعلى ما يكتب، وهذا بالطبع يحتاج إلى إثبات وتدقيق وتحقيق وأدلة وبراهين، فنحن ضد أخذ الأمور على عواهنها وضد أي اتهامات مرسلة.

ويقول العقاد: إن الرافعي يتحدث عن الجهاد النبيل، سلوه وسلوا تاريخه في أي شيء كان هذا الجهاد النبيل ؟!، سلوه عمن تعلم من أبنائه على نفقة الخاصة الملكية التي يديرها الإبراشي باشا (يقصد الدكتور / محمد الرافعي بن الأستاذ / الرافعي)، وعندما طبع من كتبه على نفقة الخاصة الملكية التي يديرها الإبراشي باشا (يقصد كتاب: إعجاز القرآن، للرافعي، والذي طبع على نفقة الملك في طبعة ملكية فخمة) .

ويذكر الأستاذ / إسماعيل مظهر صاحب دار ومجلة (العصور) الذي قام بطبع ونشر كتاب (على السفود) للرافعي، ولم يدخر من وسعه شيئًا في التشهير بالعقاد، والافتراء عليه، وانتحال المزاعم الخاوية التي يسندها إليه، ولم يمر على آخر مقالة كتبها في ذم العقاد شهر واحد، أو نحو ذلك حتى حصل على وظيفة مرموقة في المجمع العربي .

ويذكر الدكتور / محمد غلاب، فيقول: إنه استحق مقام التدريس في الجامعة الأزهرية لأنه قام بطبع وريقة في القاهرة، يسميها (النهضة الفكرية)، ويملؤها بالغباء، والبذاءة في انتقاص الدكتور / طه حسين والأستاذ / العقاد .

ويتكلم عن الشيخ / زكي مبارك (الدكاترة / زكي مبارك) الذي رجع إلى الجامعة المصرية بعد فصله منها زهاء خمس سنوات، لأنهم استخدموه في احتفال يقابلون به احتفال مصر بالنشيد القومي الذي نظمه الأستاذ / العقاد في أوائل عام 1934، وأذكر هنا: أن الدكتور / زكي مبارك كتب في عدد صحيفة الجهاد الصادر في 19 نوفمبر 1934، مقالة يدافع فيها عن نفسه، ولكن العقاد لم يعفه من نفس الملاحظة .

ويرى العقاد أن من أسباب عودة الدكتور / زكي مبارك إلى الجامعة أنهم رضوا عما كتب في غمز الدكتور / طه حسين، وغمز الأستاذ / العقاد، من كلام معيب في بعض كتبه وبعض مقالاته .

ويذكر الدكتور / أحمد زكي أبو شادي، ويصفه بأنه (طبيب متشاعر)، وأذكرك أن أبا شادي هو مؤسس جماعة أبوللو الشعرية الرومانسية، سنة 1931، حيث جعل أمير الشعراء / أحمد شوقي رئيسًا شرفيًا لها، وشاعر القطرين / خليل مطران أبًا روحيًا لها، وأصدر مجلة (أبوللو) الأدبية التي استمرت قرابة عامين، حيث عبرت عن فكر هذه الجماعة، التي كان سكرتيرها الشاعر الرومانسي الكبير الدكتور / إبراهيم ناجي، وقد ضمت بين أعضائها مجموعة من شعراء الوطن العربي المتميزين، نذكر منهم الشاعر التونسي / أبو القاسم الشابي، والشاعر السوداني / التيجاني يوسف بشير .. وغيرهم .. وغيرهم .

يقول العقاد إنهم سمحوا لأبي شادي بإصدار خمس مجلات في وقت واحد، وهو يعمل موظفًا بإحدى المصالح الحكومية، فجعل القسم الأدبي من مجلاته كلها وقفًا على التشهير بالعقاد، وأدب العقاد، وأخلاق العقاد .

ويذكر الدكتور / رمزي مفتاح، صاحب كتاب: (رسائل النقد)، يصفه بأنه من هذا الصنف، وأن كتابه كاملاً جاء على ذلك النمط من الفجور             والابتذال .

ونبه العقاد إلى طوائف أخرى من صغار الموظفين الذين يوفدون في أعمال السمسرة الأدبية إلى البلاد العربية، وكذلك سماسرة النوادي والمقاهي، الذين نيطت بهم مهام التزوير والتلفيق والافتراء على رجال الفكر والأدب الأباة المترفعين، الذين يصفهم العقاد ـ وهو واحد منهم ـ بأنهم لا يبالون بهذه النوعيات، على الرغم من كل كاشح مأفون، فالأدباء الأباة صنعوا للأدب وللوطن وللناس ما يضيق به الثناء، ويقصر عنه الجزاء .

ويرى العقاد أن المسئول عن هذه المخزيات المخجلات هو الإبراشي باشا في مقدمة أذنابه وأعونه بلا شك، وليس ذلك لأنهم دبروا كل عمل من هذه الأعمال أو أشاروا بكل حملة من هذه الحملات، بل لأنهم خلقوا الجو الذي يسول للنفوس الوضيعة أن تبتغي النفع وتطمع في الزلفى من هذه السراديب المظلمة .

وما إن بدأ الأستاذ الكتابة في هذا الموضوع، حتى انهالت عليه رسائل القراء من كل مكان تكشف له عن حوادث بعينها، وأسماء بعينها، من هؤلاء السماسرة وأتباعهم .

وبين كيف أن الإذاعة التي كانت تعد في تلك الآونة أهم وسيلة إعلامية بعد الصحافة، كيف أنها استغلت كوسيلة للسمسرة والإغراء، فهي مفتوحة للمنافقين وحدهم، مغلقة ضد الأباة إلا من رحم مثل الشيخ / عبد العزيز جاويش، كما أشار العقاد في هذه المقالات التي نشرتها صحيفة الجهاد، وفي تعقيبه عليها فيما بعد .

العقاد يوضح لنا مستوى الاضطهاد والمطاردة التي لحق بالناس في تلك الأيام إلى حد أنه اتفق مع زملائه من المجاهدين، على عدم البدء بإلقاء السلام على أحد ممن يعرفونهم، لأن مجرد فعل ذلك يعرض الآخرين للأذى العميم في وظائفهم وأرزاقهم .

ويحكي لنا أن  الأمر بلغ ذروته عندما جاء الأستاذ / محمد كرد علي، العالم الجليل ورئيس المجمع العربي بدمشق السورية، جاء في زيارة إلى مصر، وذهب إلى جريدة الجهاد ليزور أصدقاءه زيارة ودية، يومها حملوا على الرجل حملة شعواء باسم الدين، وحققوا معه أيضًا باسم الدين، وادعوا عليه الأباطيل، والرجل معروف عنه أنه أوقف حياته كلها على خدمة اللغة العربية والإسلام .

وادعى الطغاة السماسرة أنه قال في محاضراته قولاً لا يحسن بالعرب والإسلام ؟!، وفي الواقع أن كل الجريمة أو المصيبة التي استحق من أجلها الاضطهاد والتحقيق، وأوشك بسببها أن يفقد كرسيه في مجمع الخالدين، أنه زار جريدة الجهاد زيارة صديق لا زيارة محارب أو مشترك في الخصومة .

أيها القارئ العزيز: لقد حرصت في هذه السطور أن أسجل لك ابرز عناصر هذه الأخبار التاريخية الأدبية والفكرية التي قدمها أستاذنا العقاد، عبر مقالاته أو كتبه، لأنها تلقي الضوء على مدى طغيان السياسة ـ لعنها الله في كل كتاب ـ وتأثيرها في الحياة الأدبية والفكرية تأثيرًا سيئًا، وأرى أن لهذه الأخبار أهميتها القصوى كوسيلة بحث يمكن الاستئناس بها لمن أراد أن يعرف طبيعة تأثير السياسة في الحياة الأدبية والفكرية والأخلاقية في أعقاب الثورة المصرية سنة 1919، وأمر آخر نأمله ألا وهو أن نتعلم من دروس التاريخ لنتجنب أي سلبيات قد نقع فيها في حاضرنا المعاش .

أقول: بالطبع لا يذهب كلامي في هذه الأخبار أو عندها باعتبارها القول الفصل في هذه القضية، ولكنها علامة قوية وبارزة على الطريق، وهي من العقاد و العقاد رجل نسيج وحده، رجل من الرجال الذي لا يستهان بقولهم أو بفكرهم، وإذا كان العقاد قد كتب كلامه هذا تحت تأثير الخصومة فإنها خصومة لا يبعد فيها معرفة الحق من الباطل، خاصة ونحن نعلم أن المعارك التاريخية من خلال دراسة الخصومات والمعارك الفكرية، تكاد تؤيد تفصيلاتها .

، أقول لك: إذا كان العقاد قد هاجم هؤلاء بميولهم السياسية المؤيدة للطغيان والاستبداد والسمسرة الأدبية، فهذه وجهة نظر أستاذنا / العقاد نفسه، وهي خاصة به، وهو نفسه شنت عليه أبشع الهجمات وأضراها كمفكر وأديب بسبب مذهبه السياسي، فذهب خصومه إلى أنه إنما نال شهرته الأدبية، لأنه كان كاتب حزب الوفد الأول .

الرافعي يذهب إلى أن العقاد كاتب سياسي لا يستغني الوفد عنه، وهذه هي أهميته، وهذا هو سبب شهرته، ويعتقد الرافعي أن العقاد كاتب مأجور للسباب والمغالطة والنضح بما فيه !!!، ويدعي الرافعي أن ذلك هو أصل شهرة العقاد، وأنه كاتب حوادث للبلد، وينضح عن الوفد الذي بلغ من تمكنه في وإذا كان الأستاذ قد هاجم رجال نعتز بهم ونحبهم ونحترمهم ونقدرهم لما قاموا به من دور أدبي وفكري في نهضتنا الثقافية، مثل الأستاذ / مصطفى صادق الرافعي زعيم المحافظين في نثرنا العربي، والأستاذ / إسماعيل مظهر الكاتب الصحفي والباحث الناقد المستنير، والأستاذ الدكتور / محمد غلاب الباحث والناقد، والدكاترة / زكي مبارك، والدكتور العالم الشاعر / أحمد زكي أبو شادي، والدكتور الناقد / رمزي مفتاح الأمة أن قيل فيه: لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه .!!!.

ويواصل الرافعي كلامه فيقول: إن في بلادنا هذه قد يبلغ رجل عند قومه درجة من النبوة قرينه ألا يوحى إليه بوحي، ولكن بعمامة خضراء أو حمراء، وعمامة العقاد هي مقالاته السياسية ولا ريب .!!!

أستاذنا الرافعي قال هذا الهجاء الفاحش من خلال وريقاته المليئة بالفحش والبذاءات والشتائم في شخص العقاد، والتي أسماها (على السفود)، وقد أشار تلميذ الرافعي الأستاذ / محمد سعيد العريان إلى هذا الكلام في دراسته المهمة عن حياة الرافعي، والتي صدرت طبعتها الأولى عام 1939، ويمكن للقارئ الكريم أن يعود إليها إذا أراد الاستزادة في تلك المسألة .

وتهمة الرافعي على بطلانها وسخفها لم تفارق راهب الفكر / عباس محمود العقاد في حياته وبعد مماته، وإن كانت مجلة (العصور) التي يرأس تحريرها الأستاذ / إسماعيل مظهر، قد رددت هذا الاتهام في العشرينات من القرن العشرين  إبان حملتها الرافعية ضد العقاد، كما أن مجلة (أبوللو) التي يرأس تحريرها الدكتور / أحمد زكي أبو شادي قد رددت نفس الاتهام للعقاد في الثلاثينيات من القرن العشرين أيضًا .

وقد كتب الأستاذ / محمود الخولي مقالة مطولة نشرتها مجلة (أبوللو) في عددها الصادر في شهر مايو سنة 1933، ونجد فيها الخولي يصرخ بأعلى صوته من قسوة العقاد في الرد عليه وعلى غيره من ناقديه، إلا أن العقاد عند الخولي يستدر عطف القراء عليه كشاعر يتمسح في أعتاب الوفد، و يرى الخولي أنه لا علاقة مطلقًا بين نقده كأديب وبين مذهبه السياسي إذا كان له مذهب !!!، ويقول الخولي: أنه قرر ذلك وغيره من الحقائق المعروفة، فماذا يستدعي أن ينفيه العقاد ؟!! .

وهكذا أيها السادة تلاحمت السياسة والأدب بالتأثير والتأثر، وعكست الحياة الأدبية في هذه الفترة المهمة من تاريخنا طبيعة الصراع بكل أبعاده في الحياة المصرية .

وعندما كنت أراجع أعداد مجلة (أبوللو) متأملاً من خلالها تاريخنا الأدبي، رأيت أن المجلة قد حملت لواء معارك التجديد في بداية الثلاثينيات، ولكن بكل أسف سقطت هي وجماعتها الأدبية صريعة العراك السياسي الذي تسلل في شرسة إلى الأدب .

مما لا شك فيه أن المعارك الفكرية والأدبية كانت وثيقة الصلة في كثير من جوانبها بالتيارات السياسية والنزعات والأهواء الحزبية والشخصية، التي تردت فيها البلاد بعد نجاح الأعداء في تصفية الأهداف الكبرى لثورة 1919 .

والحق يقال: إن ذلك لا يمنعنا من الاعتزاز الكامل بالحرية الفكرية التي تمسك بها كبار الأدباء وأهل الرأي والفكر، وعلى رأسهم العقاد، وقد كان للحرية الفكرية، وحرية الكلمة أثرهما البعيد في النهوض بالمستوى الفكري والثقافي للأمة، وفي تبصيرها بأهم مشكلاتها وقضاياها الكبرى القريبة والبعيدة إلى الحد الذي رأينا معه إسماعيل صدقي باشا الذي كان يمثل الاستبداد والطغيان ينال أقوى وأعدل الجزاء على أسنة الأقلام الحرة المحترمة غير المأجورة وغير العميلة وغير الباحثة عن مصالحها الخاصة حتى لو خربت البلاد وضاع العباد في ألف داهية، وأهم مثال على ذلك المقالات النارية التي كتبها أستاذنا العقاد وأشرنا إلى طرف منها في سطورنا السابقة .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم