صحيفة المثقف

ذاكرة وذكريات

القصف الجوي لجسر النصر في الناصرية ..

كيفَ أنسى ذلك اليوم التراجيدي ...

في الثالث من شباط/ فبراير عام 1991 تَوجهتُ إلى بغداد، إلى مبنى وزارة التربية ..

لا أعرفُ لماذا أخذتني قدماي إلى بغداد في ذاك اليوم الملبد بغيومِ الموت، والسماءُ تحترقُ بصواريخِ القصف الجوي لدول التحالف (التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية) ..

مازالتْ الذاكرة تشتعلُ في مخيلتي وتزودني بأحداث ذلك اليوم المرعب ..

كانت وزارة التربية عبارة عن ملاجىء تحيط بها أكياسٌ من الرمل، لا تَرى فيها إلا أشخاصا مُحَصَنينَ بالخوف، وتسمعُ آهاتِ أصواتهم تتمازجُ مع أصوتِ الصواريخ المتسللة عَبْرَ نافذةِ السماء، السماءُ التي لم تشبع من أزعاج وترويع العراقيين بسمفونيات الموت المُعبأ بالخوف ..

أنهيتُ معاملتي ..

دُوَّنَ يوم الثالث من شباط/ فبراير 1991 في ملفي الصامت في وزارة التربية ..

خَرجتُ من بابِ وزارة التربية ما بعد الثالثة عصرا، والخوفُ يدبُ في عروقي، وروحي تسألني إلى أين ستمضي يا صديقي المدمن على مغامراتِ الوجع؟..

أجبتها بصوتٍ يتناسلُ ألما ..

- سنزحفُ أنا وأنتِ كعَصفورين خَائفين إلى مكانٍ يأوينا في هذا الليل الزاحف بالموت..

اتَّجهتُ صوبَ منطقةِ الكاظمية لأمتصَ بعضًا من عذاباتِ روحي.

طَرقتُ أبوابَ الفنادق واحدا تلو الآخر ..

كلُّ الفنادقِ موصدة الأبواب، عشعشَ الصمتُ فيها، سوى حركةِ صريرِ الأقفال وصوتِ الريح يأتيني ..

تجولتُ بخوفٍ وحذر، وروحي تتجولُ معي ..

يا إلهي أين سأمضي بروحي؟..

الليلُ مخيفٌ، وأصواتُ الانفجارات تأتيني كأمواج البحر الهائج، وقلبي مثل سمكةٍ قذفتها الريح خارج النهر وما عادت تستطيع العودة إلى الماء ..

تذكرتُ أمي في تلكم اللحظات، وقلت في نفسي: سامحيني يا أمي، ربما سأموت دونَ أن أراكِ، ربما يبتلعني رصاص الصواريخ السابحة في سماءِ بغداد في هذا الليل المظلم المخيف، ربما وربما وألف ربما تجولت في مخيلتي المزدحمةِ بالوجع ..

وأخيرا تَعاطفتْ معي السماءُ إذ وجدتُ فندقا قديما مظلما، يرتجفُ فيه الشتاءُ، جدرانهُ مكسوةً بالخوف ..

ما إن دلفتْ روحي داخل الفندق المشبَّعة جدرانهُ بالظلام وإذا برجلٍ طاعنٍ في السن يستقبلني بكلماتٍ ينخرها الوجع ..

- تفضل يا ابني ..

- أريدُ أن آوي روحي ليلةً واحدةً هنا .. قلتُ له

- لا عليكَ، تُوجدُ لدينا فقط غرفةً واحدةً في الطابق الثالث، فيها شخصٌ واحد يُقاسمك وجعَ الليل ..

- لا بأس .. المهم أن يكون مكانا يأويني من برد الشارع وأزير الطائرات ..

- خذ هذه الشمعة لتنيرَ لك سلالم الفندق كي لا تتعثر قَدماكَ وتسقطُ كما صواريخ الموت السابحة في سماء الوطن ..

- شكرا لك ..

وصلتُ إلى باب الغرفة، فتحتهُ والشمعة بيدي، وما إن دلفتُ بجسمي النحيف وإذا بذلك الشخص المقيم معي في الغرفة، أجدهُ يبتلعهُ الخوف والبرد يعبثُ به ويقطعُ أوصال جسده النحيف..

حييتهُ بتحيةِ الغريب المسافر ..

شعرَ صاحبي الغريب بالدفءِ والارتياح النفسي حينَ شاركتهُ وجعَ الليل الشتوي الطويل ..

جلسنا طوال الليل نلتحفُ الحكايات تلو الحكايات، ونلوكُ الخوف بدخانِ سجائرنا، وشهقاتِ أنفاسنا المكبلة بهواجس مرعبة لا حصر لها حتى انبلج الصُّبحُ، وأصواتُ الانفجارات نستشعُرها تُوقظ فينا صرخةَ الخوفِ..

نهضتُ من مكاني، تحسستُ قلبي، ودعتُ الشخصَ الغريب، واتَّجهتُ مسرعا نحو مرآب النهضة وأنا أرددُ عبارتي المحشوة بالتمني: عسى ولعلَّ أجد وسيلةَ نقلٍ تُوصلني إلى مدينتي الجنوبية الناصرية، إذ شعرتُ كما لو أني غبتُ عنها دهرا ..

لم أعثر على وسيلةَ نقلٍ، المرآبُ موحشٌ، ووجوه الجنود يلوَّنها الخوف والقلق، والبردُ يتجحفلُ بقسوتهِ الشتائية ..

بعد حوالي ساعتين، رأيتُ حافلةَ نقل عسكرية مخصصةً فقط للعسكريين .. يا إلهي ماذا أفعل؟

لحسنِ الحظ، كان معي قمصلة عسكرية، أحتفظُ بها لسنوات، ولعلَّ معظم العراقيين، يحتفظون بالقماصل العسكرية، ويتخذون منها لباسًا لتدفئةِ أجسامهم في الشتاء، خاصةَ تلك القماصل الرومانية الصنع ..

ارتديتها وأوهمتُ سائقَ الحافلةِ حين بدا مظهري الخارجي كما لو أنني عسكريّ، وقفزتُ نحو جهة اليمين ما بعد السائق بمقعدين حيثُ كان شابا جالسا لوحده، فدفعتُ جسمي ليكون مكملا لثنائي معه في المقعد ..

حمدتُ الله وشكرتهُ ..

أنطلقتْ الحافلة بعد أن أغرقها عددٌ كثير من الجنود ..

توقفتْ الحافلةُ بعد أقلِ من عشرِ دقائق قربَ مفترق طرق، وإذا بامرأة كردية مع طفلين، تندفع إلى باب الحافلة، والدموع تسبق كلماتها، لم يفهم السائق حرفا واحدا، حتى القريبين من السائق لم يفهموا من كلماتها حرفا ..

قفزَ الشخصُ الذي يشاركني المقعد نحوها وترجمَ للسائق كلماتها المعتقة بالوجع، فسمحَ لها السائق أن تصعد ..

يبدو أنها متجهة إلى مدينة الكوت لأمرٍ ما ..

وهنا، قفزَ إلى مخيلتي السؤال الذي توجهتُ به إلى الشخص الذي يشاركني المقعد ..

- سألتهُ هل أنت كردي يا صديقي؟

- أطلقَ قهقهةً عاليةً ودَمعتْ عيناهُ ..

- شرُّ البليةِ ما يُضحك يا صديقي .. أجَابني بصوتٍ يتدفقُ وجعا ..

قبل حوالي سبعِ سنواتٍ، كنتُ طالبا في أحد أقسام جامعة الموصل، وكان معي مجموعة من الطلبة الأكراد، أحدهم سردَ لنا نُكتةً عن القائد، فلم ينقضي ذاك اليوم إلا ونحنُ نجدُ أنفسنا مقيدين في دائرة الأمن ..

الشخص الذي خانهُ لسانهُ (صاحبُ النُكتة) أُعدم في الحال، أما نحنُ (الجمهور المُستمع) فرحموا بِحالنا لمدةِ ثلاث سنوات في زنزانةٍ رباعيةِ الدفع، أنا العربيُّ اللسانِ وثلاثةُ أشخاصٍ أكراد ..

ولأن زملائي الأكراد لا يجيدون اللغة العربية، يتحدثون اللغة الكردية، فما كان مني إلا أن أكون مستمعا جيدا لهم، وتعلمتُ منهم الكردية، وها أنا يا صديقي وجدتني مترجما لتلك المرأة الكردية، والفضلُ يعودُ لتلك الزنزانة الرباعية الدفع ..

- ألم أقل لك شرُّ البليةِ ما يُضحك .. أضافَ قائلا ..

- ولعلَّهُ يبكي .. قلتُ له ..

وبعد رِحلةٍ مُضنيةٍ وقاسيةٍ وصلتُ إلى مدينتي الجنوبية عصرا، فوجدتُ أمي، رحمها الله، تصرخُ بيَّ بصوتٍ يُهللهُ الفرح وهي تقولُ الحمدُ لله يا ابني، حسبتُكَ ميتا في القصف الجوي الذي طالَ جسر النصر في الناصرية اليوم ظهرا ..

القصفُ البريطاني الذي صهرَ حياةَ عشرات الأبرياء، وأذابهم، وهم يزحفون بأرواحهم البريئة على جسرِ النصر ليكونوا طعاما للموت، إذ تناثرت أجسامهم في الهواء، وفي ماء نهر الفرات، وتحت أنقاض الجسر ليصبحوا ترنيمةَ وجعٍ، ونشيدَ حزنٍ، ودمعةَ ألمٍ، ولتشهقَ أرواحهم إلى السماء، معاتبةً الإله الجميل، ومعاتبةً العالم، ومنظمات حقوق الإنسان، وكل المهرجين المطبلين للسلام والإنسانية، معاتبةً العالم الأخرس الذي يتألم عندَ مشاهدةِ فيلمٍ تراجيدي مصطنع، لكنهُ لا يتألم على مشاهدةِ الواقع المأساوي لشعبٍ يضجُ موتا ويتنفسُ قتلا على يدِ سفراء السلام وحمائم الإنسانية الكاذبين ..

آه يا روحي ..

وشبيدي يا روح ...

 

أحمد الشحماني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم