صحيفة المثقف

لعنةُ ساسوكي

انمار رحمة اللهنعم سيدي.. أتذكر.. حدث هذا في موسم من مواسم الصيف. ولعلك مثلي تتذكر أيضاً فأنت قريب من عمري. أول حلقة شاهدتها كانت مع بداية العطلة الصيفية.. لا أنكر أنني حين رأيت (هانزو هاتوري) الشرير من عصابة (الإيجا لينجا) في مفتتح الحلقة الأولى، شعرتُ كأي غشيم بالإعجاب اتجاهه. لكن رأيي تبدل شيئاً فشيئاً حين اتضحت نواياه، وحين دخل على خط الاحداث (ساسوكي) فتى النينجا المغوار، وأحد أميز أبطال القائد (سانادا).. صراحة لم أكن مرتاحاً لرفيقه (جامبو الجبار) كثيراً، فقد كان ضخماً زيادة عن اللزوم، ولم يكن يتقن فن (الكوجا)، ذلك الفن السحري الخارق الذي كان يتمتع به مقاتلو النينجا. حتى أن جامبو كان يحسد ساسوكي على امتلاكه هذا الفن. لكن رأيي تبدل لاحقاً حين رأيت مواقفه، وزاد إعجابي به بعد كل حلقة تنتهي. راق  لي في جامبو لأنه لم يكن قوياً وحسب، بل كان مخلصاً ووفياً وطيباً.. على أية حال.. صارت عيناي لا تفارقا ساسوكي في كل خطوة في الحلقات. وحين يدخل في صراع مع هانزو عدوه اللدود، والذي كان أيضاً يتقن فن (الإيجا) الخارق، كنتُ أقف على ساقيّ وأصرخُ كمشجع مهووس من مشجعي كرة القدم. ثم تنتهي الحلقة وأعود لأفكاري وتلك الصور والمشاهد، واشتياقي لحلقة جديدة سيعرضها التلفاز في اليوم التالي. وكما تعرف لابد لكل شيء من نهاية، وحين جاء اليوم الذي ظهرت فيه في تتر المسلسل عبارة (الحلقة الأخيرة)، شعرت بقلق وخوف شديدين، وطالعت الحلقة وكنت حزيناً جداً لأن كل شيء سينتهي ببساطة. ولشدة ضيقي تخيّل أنني أتذكر كلَّ حلقات المسلسل إلا الحلقة الأخيرة!!. نسيتها بسبب تفكيري المفرط في ما لو أنتهى كل شيء!!. ماذا لو أختفى ساسوكي ولم أستطع رؤيته مرة أخرى؟!. لماذا لا يستمر هذا البطل الذي بعمري تقريباً طوال سنوات حياتي؟!. لماذا لا ينتصر بدلاً عني في معاركه مع هانزو الشرير؟!. وهذا الأمر دفعني للتفكير بقضية في وقتها. كنت أتذكر العبارة التي كان ساسوكي يقولها وهو يضمُّ بكفه الأيمن سبابة كفه الأيسر، ثم يلصق كفيه بشكل عمودي أمام وجهه، جاعلاً سبابة الكف الأيمن بالتحديد على طرف أنفه أو أسفل بقليل، ثم يصرخ في وجه عدوه (أووون بسروووون) ثم يختار الشكل والكيفية التي يتحول لها ليحارب عدوه، حسب إمكانيات مقاتل نينجا محترف. كنتُ أظن أن الأمر لا يتطلب سوى هذه العبارة، مع قليل من الشجاعة والصدق والعزيمة. لكنني فشلت في كل محاولة جربتها مع نفسي ساعتها. وتوقعت معرفة السبب لأنني أستخدم فن الكوجا في غير محله، فأنا لم أدخل في معركة مع شرير كهانزو هاتوري. وربما مفعول هذا الفن سيعمل في ساحة العراك. لهذا قررت بعد أيام من التفكير حين انتهت حلقات المسلسل، قررتُ أن أختار صديقاً لي شبيهاً بجامبو الجبار، ومن الشروط الواجبة أن يكون ضخماً وطيباً ووفياً في الوقت ذاته. وقد وجدت هذه الصفة في  صبي جار يُدعى(جبار). ولا أصف الفرحة التي طارت بي حين لاحظت أن اسمه قريب من اسم (جامبو الجبار) في المسلسل. على الرغم من معرفتي به السابقة لكنها معرفة بسيطة، غير أنني حين قررت طرح الفكرة عليه لأعرف رأيه، تراءى لي أنني عرفته للمرة الأولى في حياتي، تماماً كساسوكي الذي تعرف على جامبو في أولى حلقات المسلسل.. صديقي جبار لم يقبل بهذا وحسب بل فرح فرحاً كبيراً، لأنه صراحة كان معجباً أيضاً بالمسلسل الذي شاهده كلُّ صبيان الحي وقتها. وعرفتُ لاحقاً أنه يريد الانتقام من صبي خبيث وشرير قد أتعبه جداً. وجلست ساعة مع صديقي جبار ورتبنا الشخصيات في الحي كما في المسلسل، وادخلنا في تعداد الشخصيات معلم مدرستنا وابنته بدور القائد (سنادا) وابنته (يوكي) التي كان مغرماً بها ساسوكي، وبائع (اللبلبي) وبقال الحي وموظف جبابة الكهرباء في أدوار نسيتها، واكملنا للنهاية ترتيب كل شخصية في المسلسل ومطابقتها مع شخصية في الحي. ولم يبق لدينا سوى (هانزو) الشرير..!!. فوقع اختيار صديقي جبار على الصبي الذي يبعد بشارعين عنا اسمه (علّوكي)، والذي كان ذا أنف ضخم كأنف هانزو، وكان ماكراً وشريراً حسب كلام جبار فهو زميل له في المدرسة ويعرفه أكثر مني.. نعم.. لقد كنا في مدرسة واحدة لكنني لم أتعرف به بالطبع لأنه في صف آخر، وحين استغربت كيف لا يستطيع صبي مثل جبار بهذه الضخامة من التغلب على آخر بالعمر نفسه، أجاب جبار: علّوكي خبيث ويغدر وشرير لكنه يتظاهر بالأدب أمام المدير والمعلمين، ولا أعرف لماذا يجتمع حوله الآخرون ويساندونه ويتركونني!. وكلما دخلت في معركة معه عاقبوني أنا ونجا هو.!!.. عرفتُ من كلام جبار أنه ليس بضعيف في البنية ولكنه طيب زيادة عن اللزوم، تماماً كجامبو الجبار الذي لو لم يلتق بساسوكي لما تغلب بمفرده على عدو واحد. ثم اتفقت مع صديقي أن ننتظر عّلوكي خلف سياج المدرسة الخلفي، بعد أن نبلغه بأننا قد طلبناه للعراك في ذلك المكان. ولو سألني في ساعتها أحدهم هل لديك مشكلة مع هذا الصبي سأجيب بـ لا، لكنني كنتُ أبحث عن شخص تكمل به حلقات المسلسل الذي أنتهى في التلفاز وسأكمله أنا. ثم أن شهادة صديقي الطيب جبار لم أكذبها وأخذتها على محمل الجد، فكم روى لي عن أحداث ومشاكل كانت لعلّوكي يد فيها، لكنه كما قال ينجو وتقع في رأس صديقي الساذج.. وجاءت فرصتي.. الفرصة التي سأعيد فيها حلقة جديدة من الجزء الثاني من سلسلة بطولات فتى النينجا ساسوكي.. وحينما اقتربت ساعة الحسم، اجتمعنا أنا وجامبو الجبار(صديقي) من جهة، وهانزو الشرير(علّوكي) وأنصاره من جهة. وبعد صياح وشتائم وتهديدات لفظية ألقى بها كلُّ واحد منا صوب الآخر، أغمضت عينيّ ووضعت سبابة كفي الأيسر في كفي الأيمن، وقربتهما صوب وجهي وصرخت (أوون بسرووون.. الحصان الطائر).. مرت ثوان وأنا أسمع ولا أرى لأنني مغمض العينين.. أسمع أصوات عفطات متفرقة!!.. وحين فتحت عيني على مهل لاحظت أن علّوكي تمدد على الأرض وحوله أصدقائه يضحكون. حتى أن بائع (شعر البنات) المتجول، والذي راق له أن يقف ليتفرج على مشهد العركة المفترض، قد هزّ يده وعفط هو الآخر ضاحكاً.. في الحقيقة لم اهتد لسبب المشكلة بالضبط، لأنني طبقت كل شيء بحذافيره كما كان ساسوكي يفعل، لكنني لم اتحول إلى حصان طائرة ذي جناحين أبيضين وقرن ذهبي، كان في الحلقات يضرب به رؤوس اعداءه فيسقطون، كذلك الذي كان يتحول له فتى النينجا؟!. ثم أن صديقي جبار أيضاً قد صُدم، واخبرني أنه كان ينتظر مني عركة بالأيادي والسيقان والركلات، وعتبه أشعرني بالحزن الشديد وخيبة أمل لا أستطيع وصفها. والأمر الآخر الذي أحزنني أن علّوكي صار يذيع الحادثة في كل مكان، في المدرسة أذاعها بين المعلمين والتلاميذ، وجعلهم يزفونني بين الحين والحين بعبارات السخرية والضحك، وصار يأتي إلى شارعنا ليروي الحادثة بين نساء الحي والرجال جيراننا، وأصحاب المحلات والباعة المتجولين، وصاروا كلهم يلقبونني بـساكوكي، فأرد عليهم بغضب(اسمه ساسوكي.. ساسوكي لا ساكوكي)، فيضحكون وأمضي إلى المنزل كئيباً، حالماً بأن ألقن الجميع درساً في مهارة فن الكوجا ذات يوم. لقد تحول الجميع إلى عشيرة هانزو هاتوري، ولم يقف معي أحد كما حصل مع ساسوكي ووفرة أصدقائه ووفائهم في المسلسل. حتى جبار تركني ورافق صبية أشدّاء في العراك، وصار يراقبني من بعيد بنظرات كلها حزن، ويتحاشى اللقاء معي كأن بي جرباً!!. على أية حال.. مرت سنوات على تلك الذكريات، حتى صار الذي أجلسني هنا اليوم لأحكي لك هذه الحكاية.. فبعد كل هذه المدة من الزمان، لم ينس الكثير منهم تلك المواقف، ومازالوا يتهكمون من حلم يصفه الآخرون بالحماقة وقلة العقل.. فعلّوكي الصبي الذي أردتُ مع جبار تلقينه درساً، وتحول الأمر إلى سخرية مريرة على قلبي لسنوات، هو ذاته الأستاذ (علاء) ذو المكانة الحساسة التي فرضها منصبه العالي. وأنا إلى الآن مازلت في نظر الآخرين (ساكوكي) الفقير الخبل!!. لم أتعرف عليه صراحة، فسيارته الفارهة وحمايته كانوا يحجبون النظر إلى رئيسهم.. لكن عبارته (هااااا .. بعدك ساكوكي لو عقلت) أشعلت في قلبي الفضول لمعرفة صاحب الصوت.. نعم إنه هو.. عّلوكي.. هانزو هاتوري الذي لم أنتصر عليه!!. وكما ترى حدثت الحلقة الأخيرة من حلقات مسلسل فتى النينجا التي نسيتها قديماً كما أخبرتك.. وضعتُ إصبع كفي الأيسر في باطن الكف الأيمن، وقربتهما من وجهي وصرخت (أووون بسروون.. الحصان الطائر) وانطلقتُ.. هذا كل ما عندي سيدي.. لا أهتم إن وضعتموني في السجن أو مستشفى المجانين.. لقد انتصرتُ نوعاً ما.. الناس الذين تهكموا مني طوال تلك السنوات صرتُ في أعينهم بطلاً الآن.. نطحة رأسي التي غرستها في رأس هانزو، والتي كما تدّعون أنها أرقدته في المستشفى في حالة خطيرة، كانت هي نهاية الحلقة الأخيرة التي نسيتها.. نعم إنها قوية جداً، لأنني نطحته بكل تلك المعارك التي كان يخزنها رأسي سنوات لساسوكي.

***

أنمار رحمة اللهأن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم