صحيفة المثقف

القصيدة علاقة سياقية بين تداولية الملفوظ وحجب المضمر الدلالي

حيدر عبدالرضادراسة في عوالم شعر علي الإمارة، الفصل الثاني ـ المبحث (3)

توطئة:

إن علاقة الذات الشاعرة بالمنظور الملفوظي لديها، يشكل أكثر من علاقة انشائية وتصويرية ناتجة عن أفق محاور الأشياء الوجودية، بل أنها علاقة وصلة من طرف الشاعر في البحث في غياهب المحاور والدلالات المضمرة من الوجود اللامرئي للأشياء وحالاتها. أما كيفية التقاط ذلك الغياب المسكوت عنه في قيمة المضمر من دلالات النص الكبيرة، فهذا الأمر يعتمد بدوره على أبعاد حسية المخيلة الناشطة في مكنون أسرار وصنعة أدوات خطاب الشاعر المحترف، وليس الشاعر التقليدي الذي يتعامل مع حالات الأشياء وكينونتها ضمن دوال لفظية عابرة ومضطربة.

ـ الخطاب الشعري بين بنى التفاعل وخلفية رؤية النص.

أن القراءة إلى عوالم تجربة الشاعر علي الإمارة في مجموعته الثمينة (حواء تعد أضلاع آدم) ربما عند التحقيق في نصوصها يساورنا هذا السؤال: هل أن العلاقة الدلالية في عوالم الشاعر الإمارة تقتضي حالة من التطابق بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه من ناحية المخصوص الدلالي بذاته من حيث منهجية التأويل ؟ بل أننا وجدنا في قصائد مجموعة (حواء تعد أضلاع آدم) تلك المعاودة الصياغية في صناعة وإنشاء العلاقة السياقية التنافذية، إي من ناحية الإحالة النصية بوصفها غاية منجزة في روابط وسائل النص المرجعية ـ السياقية:

 

لكني لابد أن أعدَّ أضلاعك

كل ليلة..

حفاظا على كنز أنوثتي

و احتفاء ببقائي

فلن اطمئن وفي صدركَ

أضلاع أخرى

الأضلاع الدهشة والرعشة

الأضلاع الأمل

الأضلاع الخيانة

فأين تهرب من ظمأي

أيها الماء القديم

يا ماء التفاحة

وملامحَ الطوفان. / ص21  قصيدة: حواء تعد أضلاع آدم

يجتمع في هذه المساحة من حركية الدوال، ثمة علاقة سياقية متداخلة ومتواترة في مرجعية واصلة محكومة بمواقف ميثولوجية متخيلة في حدود من التحول الدلالي والإمكاني المتماثل في جملة (لكني لا بد أن أعد أضلاعك) بوصفها قابلية احصائية مرجعية من شأنها التعامل مع مكونات ـ حواء ـ كحقيقة مرجعية تتكونها مجموعة من أضلاع الرجل الواهنة، لذا فإن العملية الأحصائية المقصود من وراءها هنا هي القيمة البحثية في مفقودات الأضلاع الأخرى من جسد آدم والتي تتركز من خلالها حظوظ حواء كعلامة تقويمية لخلقها (كل ليلة ـ حفاظا على كنز أنوثتي ـ فلن أطمئن وفي صدرك أضلاع أخرى) ويمكننا فهم مقصودية جملة (أضلاع أخرى) الأهمية الأخرى المعقودة من صفات دال حواء ـ لذا يترتب على كينونتها الناقصة البحث في الأجزاء الأخرى من حظوظها المفقودة في جسد آدم. والملاحظ على الاستخدام القديم للأساطير والرموز المرجعية الدينية، على أنها تتعامل مع الأجزاء العضوية كاستخدامات رمزية مجملة، كما أنها تعاملات جزئية في الآن نفسه، فما كان للشاعر والشعر إلا أن يكتشف ببعدها المتخيل والمتحول في الاستعانة السياقية المرجعية إلى مؤشرات محمول زمن شعرية التصوير. وهذا ما وجدناه في جمل النص: (الأضلاع الدهشة والرعشة / الأضلاع الأمل / الأضلاع الخيانة) ثم وصولا منها إلى خيارية اللاواقع واللابديل دون محددات واعترافات حواء المتوعدة بمكونات آدم: (فأين تهرب من ظمأي ـ أيها الماء القديم ـ يا ماء التفاحة ـ وملامح الطوفان) وتتشاكل العلاقة الماضوية المعاينة في حدود شعرية السياق المرجعي نحو تحقيق خلوصات محققة في زوايا التركيب الآدمي، فالشاعر الإمارة جعل من مظاهر مادة الخلق ك (أيها الماء القديم) كواصلة مدلولية نحو دلالة (ماء التفاحة)، اقترانا بحكاية سفينة نوح والطوفان، وما تتخفى من وراءه ملامح أفعال وذوات الأرحام وتلويناتها المرتبطة بأصل دليل الخلق:

يا خشب َ السفينة

و رمادَ السؤال

يا حبيبَ الجنة

و رفيقَ الكهوف

يا قلقَ العروش

و ترابَ الملاجىء

أين تضعني الآن

بعد أن امتلأتْ خطاك بالوقوف. / ص 22 قصيدة: حواء تعد أضلاع آدم

أن تمفصلات بنيات شعرية الإمارة في أسلوب الوظيفة السياقية، قد لا يمكن تقديرها بكلمات عابرة في قراءة نقدية بسيطة بل أن أمر هذه التجربة وتأريخها الخصب، يتطلب من الدارس والباحث تأسيس آليات منهجية نقدية شعرية جديدة لها، أردت أن أقول أن بنيات الدوال في مشغل شعرية الإمارة، وتحديدا في مجموعته الثمينة (حواء تعد أضلاع آدم) ما هي إلا جملات انتقائية ادائية يصعب علينا مقاربتها مع أي تجربة شعرية منجزة في جيل الشاعر الثمانيني. حاولنا بدورنا تسليط الضوء على نماذج من نصوص هذه المجموعة الشعرية، فأخترنا لها ذلك المحور المبحثي المكرس بصورة خاصة نحو دراسة العلاقة السياقية ـ المرجعية، الكامنة ما بين الذات الشعرية إلى جانب بحثها في الوجود الدوالي والدلالي المضمر من على شاشة القراءة الأولى إلى نصوص الشاعر، وذلك نظرا إلى مستوى سمو أدوات وموهبة ومخيلة الشاعر، التي لا يمكننا كقراء لها دراسة أبعادها الدلالية بطريقة عفوية وعابرة وغافلة. وعلى هذا النحو فأن جملة (يا خشب السفينة) وجملة (رماد السؤال) تفتح لذاتهما أفقا سياقيا مخصوصا نحو مرحلة حكاية سفينة نوح القرآنية وطوفانها، وهذا الأمر بذاته ما راح يحفز إمكانية الدلالات الشعرية في النص، اقترانا له بذلك التواصل الخلقي الأول، وبحكم كونه النبي الأول كمصدرا لأنبعاث البشرية جمعاء، وعلى هذا النحو وجدنا سلسلة العلاقة السياقية في النص تتخذ لها من الملمح التناصي المرجعي دليلا ممتدا نحو مواقف كبيرة من الطابع التصويري والتعددي الاسلوبي في جمل السياق: (السفينة ـ السؤال ـ الجنة ـ الكهوف ـ العروش ـ الملاجىء ـ خطاك) بمعنى ما أن الراوي الشعري حاول التوصيف مظاهر الأبعاد المكانية والزمانية في تلفظات ذات وشائج حسية خاصة بمواقع الهيئة الأحوالية الضامرة لشكل العلاقة الواقعة ما بين (آدم = حواء = مرجعية السياق) فالشاعر بعد أن راح يطابق بين موصوفه القصدي وأبعاد اللحظة المصورة، فما كان عليه لاحقا سوى توكيد مستويات التشكل في المتواتر السياقي، كحال هذه الوحدات من النص:

فما زال بين حذائك وقبعتك

متسع للنبوءة

تسلق لبلابي وعاقر ثناياي

و أخرج من صدأ الأيام

لهفة مفاتيحي. / ص23 قصيدة: حواء تعد أضلاع آدم

فالمتحدث ها هنا بضمير المتكلم هو بمثابة نموذج القناع المتمثل بشخصية حواء صوتا ورمزا بالزمن الأحوالي، لتغدو دالا في مزايا اللحظة الشعرية الدالة تفاعلا مع مفاتيح الاستجابة الممكنة ووجه تعييناتها الاستعارية في صورة المرسلة القناعية.

ـ الأنا الشعرية بين أغنية الشاهد ومضمر التجديف الزمني.

توافينا من ناحية أخرى دلالات قصيدة (أغنية القتلة) بذلك االمؤشر الامكاني المتوحد وهوية الذات الشعرية الموغلة في مدار هيمنة وحدات ذروة الإيقاع الزمني الوافد في خلجات ومحدثات خطاب النص.. ولأنها شعرية تتسع لأبعد مدى من فضاء المحذوف المقطعي، لذا وجدنا مستهل ملفوظها ملوحا نحو فضاء رمزية المسكوت عنه من الوجود الآخر:

أغنية القتلة..

أنا

صوتي

الذي كان يركض

في الوحول

بحثا عن

شمس سواداء

كان فؤاد قصيدتي

فارغا

مفتوحا... للداخلين

ومتسعا

للعواصف. / ص54 قصيدة: أغنية القتلة

 

أن رؤية الشاعر الإمارة إلى لقطات هذا النص، يترشح من خلالها تلك الحدود من مسميات تقانة المحذوف والتعمية، مما يجعل أحوال الدوال تتلمس لها في ملفوظها قيمة إحالية تعمل بإتجاه فتح الصور من حيز اللامرئي حيث هواجس الشاعر في أحوال النص: (أنا ـ صوتي / الذي كان يركض ـ في الوصول) أن تمحورات هذه الفواعل من الدلالة، تبدو وكأنها الاستعارة اللغوية الحاصلة في منظومة التقاط ديمومة المضمر من المرئي والتقاط اللامرئي من العدم تباعا مع دوال أسئلة وجود الأشياء من حول الشاعر ذاته، لذا فأنها في الوقت نفسه شبه معللة نحو ملاذات القلق وحالة الوصول أو اللاوصول إلى أفق السؤال، وذلك لأننا وجدنا صيغة المركز العنواني ـ النواتي الأول من النص ـ شبه إجماليا وليس محددا في مسار فعل المحدد من حال الضمير الأنا المتصدر في الجزء اللاحق من سياق النص. وعلى هذا النحو تبقى جملة العنونة (أغنية القتلة) بمثابة الصيغة المقاربة في المحسوس أو اللامحسوس من حجب ووصولات دلالة النص الجزئية. ولكننا عندما نتابع دلالات جملة (بحثا عن شمس سوداء)و جملة (كان فؤاد قصيدتي فارغا) وجملة البياض التوسطي  (مفتوحا... للداخلين) نفهم هنا بأن انحسار أفعال الذات الشعرية، يشكل في دلالة النص بما يقارب القطيعة المتمركزة وحالات ذلك الوجود المتأزم الذي يحيط بأفعال وصفات وأحوال النص والذات الشعرية، الأمر الذي راح يقودنا نحو دلالة جملة (متسعا للعواصف) أي بمعنى ما راح يتجلى لنا من حيز حدود الضيق، ذلك السؤال للشاعر في حجب المخبوء من تفاصيل قلق السؤال ومكابرات وصولات الذات الشاعرة:

 

و يا للأسف

لم يحظ قلبي

بهبة نسيم

ولا شهقة عشب. / 55 قصيدة: أغنية القتلة

من هنا تبقى مؤهلات خيبات الشاعر من جراء مناخات موضوعة القصيدة المضمرة، بمثابة الخلاصة المأساوية بدلالة تبدد أحلام وأفئدة الشاعر عبر محاور الدوال من حوله ب (حتى النساء الحميمات.. لم يجدن.. ملاذا أمنا.. في زواياه) لهذا صرنا نعاين أخيرا تحولات أداة النص عبر مستلزمات تطهير قلب الشاعر من أهوال وخرائب فصول الأفعال الشعرية السالفة بأداة جديدة من الكلمات والدوال الشعرية الرائقة:

تفريغ قلبي من العواصف

أنظّفُ..

بمكنسة الكلمات

بقايا

الأحتفال الوحش

في جوفي. /  ص56  قصيدة: أغنية القتلة

ـ تعليق القراءة:

حاولنا في مبحثنا هذا أظهار مساحة العلاقة السياقية عبر وظيفة أداة التجربة الشعرية لدى الشاعر، إذ هي تدخلنا في مجاهيل الوجود اللامرئي من الأشياء التي لا تتيح لقارئها لمعرفتها في الوهلة الأولى من قراءة النص، إلا أن هذا القارىء قد يستفهم تلميحاتها وإيحاءاتها ومقاصدها وعلاماتها المحبوكة عبر لغة تداولية الملفوظ في أحوال النص، وصولا لنا إلى فهم لغة الشاعر التصويرية الحاذقة ظاهرا وباطنا والتي تتوارى من خلفها حجب الوجود القصدي والإيحائي الثمين، فيما تبقى كشوفات العلاقات السياقية في القصيدة تعلن عن ذاتها عبر ذلك التحول الثيماتي المضاعف في تقديم أشكال خاصة من المسكوت عنه بأدوات جادة وجديدة من مؤثرات النموذج الشعري.

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم