صحيفة المثقف

التراب الأحمر

صالح الرزوقبقلم: سكاوت ساترفيلد

ترجمة: صالح الرزوق


 

تراب أحمر. على امتداد أميال. لا شيء غيره يحاصر المطعم في وسط أرض قاحلة مهجورة في أريزونا. هذا المطعم المحاصر بالتراب كان مكانا مثاليا لأشياء عارضة غريبة. ففي داخله خمس مقصورات طعام خاصة من الفينيل الأحمر ملوثة بسجائر تحترق وبقع صلصة بندورة. وتخفي الأثلام بين مقاعد الفينيل أطعمة مقلية فاسدة وبقايا من جلد بشري ونمل ووقت.

هناك طاولة مغطاة بالموكيت، نظيفة، ولكن ألوانها باهتة بسبب مرور السنوات. وسوزان المرأة العجوز الواقفة خلف الطاولة مثلها، لونها باهت، ويستحيل تنظيفها. كانت الأسرار تجلل سوزان من رأسها لأخمص قدميها.

في معظم الأيام يتواجد زبون واحد في المطعم وتراه جالسا لوقت غير محدد. كانت سوزان تخدم جمهورا مطيعا يترك بقايا قليلة من حياته في هذه الفراغات البينية. وهي تصغي وتراقب، دون أن يلاحظها أحد، منسية، وخلف طاولة المبيعات، كما لو أنه هناك جدار بينها وبين الحاضرين، كما هو الحال في غرفة الاعتراف. كانت تشاهد أشخاصا يتشاحنون بغضب لا تدرك مصادره، ورأت أشخاصا يتخبطون في دورات المياه لممارسة الحب، وقابلت أشخاصا مهجورين في العراء بلا عائلة أو عاشق أو أصدقاء. حتى دون أمل ولا رغبة بالحياة.

كان بحوزة سوزان رقم سيارة أجرة، وقد ثبتته بمسمار على الجدار في نهاية المكتب. الإنسان المهجور يحتاج دائما لسيارة أجرة لشحنه إلى حياته المدنية، وهو ثمن اللعنة التي لا ترعاها عين الرب الساهرة.

2211 scoutفي إحدى المرات راقبت سوزان رجلا ترك طفلا وراءه. طلب الرجل من الصبي أن يذهب للحمام ليغسل يديه اللزجتين بالشراب. وحينما اختفى الصبي، نهض الرجل، ووضع ورقة من عشرين على الطاولة، وغادر. غطى معطف جديد من الغبار نوافذ المطعم عندما انطلقت سيارته من موقف السيارات. وبعد أن عاد الولد، قدمت له سوزان كوكتيل الحليب مجانا، وطلبت الشرطة. وجاؤوا بعد ما يزيد على ساعة وحملوا معهم الولد. ولا تعلم سوزان ماذا جرى له أو لوالده إن كان أباه.

تؤدي سوزان واجبها من وراء المنصة بصمت. هي لا ترقى للحكم على الآخرين - على الأقل ليس علنا. والتزمت بحدود التلصص. وكلما زاد هدوؤها، كلما ارتفع صوت الأسرار في داخلها.

اليوم، اثنان احتلا إحدى مقصورات الطعام.

هما الزبونان الوحيدان في المطعم.

اسم المرأة أماندا، ولكن الرجل لا يعرف اسمها.

وقامت أماندا بعملها، وهو ما تتقنه. ولا تزال مستمرة به منذ عشرة سنوات وأصبحت امرأة غنية منه. وهذا الرجل الجالس قبالتها هو آخر واجب لها قبل التقاعد. فقد بلغت 35 عاما. كانت أماندا تفكر بالتقاعد كلما تسنت لها فرصة للتفكير بسيرتها المهنية. وهي فرص لا تزيد على لحظات عابرة. هناك بيت في كوزوميل قامت بتجديده وإعادة تهيئته. هناك امرأة جميلة بانتظارها وسط رمال بيض. وهي تفكر بالمارغاريتا، والنقود، والمرأة، والبيت، والرمل، والشمس. ثم تناست صوت الأخلاق.

رشفت أماندا القهوة السوداء، مع ملعقتي سكر. فعلت ذلك بحرص لتحافظ على شفتيها الليلكيتين. كان شعر أماندا قصيرا مثل رجل. وهي ترتدي ثيابا قطنية مريحة تمنحها حرية الحركة دون أن تكون فضفاضة. وتبدو بها مثل لوحة بورسلان ولكنها تترك لديك الانطباع أنه أنت من سيكسرها.

أما الرجل المقابل لها كان بشعر طويل، مثل النساء. وهو أشقر ولماع، ومغبر وأجعد. ويبدو مثل متشرد لو لا الثياب التي ارتداها، وهي قميص خفيف من القطن وجينز، ومكوية دون تجاعيد. ولم يكن قادرا على الحركة بحرية مثل أماندا. اسم الرجل هو بول، ولكن في آخر خمسة عشر عاما، كان يدعى 397 “ثلاثة - تسعة - سبعة”. هذا بعد أن قتل فتاة وأمها في صبيحة حارة من أيام تكساس قبل ستة عشر عاما، هكذا أصبح الشخص رقم ثلاثمائة وسبعة وتسعين المحكوم بالإعدام في الولاية.

ولكن بول ليس من النمط العنيف حقا. وفي ذلك اليوم، قبل سنوات عديدة، كان الطقس كما يتذكر ملتهبا، ثم وجد أمامه البنت القتيلة، بعد ذلك أمها. ميتة بجوارها. كان يعمل بخدمتهما. منحته الأم عملا وهو تشذيب المرج، وتنظيف البركة، أشياء من هذا النوع. وكان متشردا، وبعد أن حصل على العمل، توقف عن تسول الطعام بعرض الطريق. والحق يقال كان بول عاملا نشيطا، ومهذبا. ينظر لجهة مختلفة كلما تعرت المرأة أمامه لتسبح في البركة. كانت تحضر له كأسا طويلة من الليمون وترغمه على شربها حتى آخر قطرة دفعة واحدة أمامها، ويدها ممدودة لتستعيد كأسها الفارغة. وهذه الحركات السخيفة التي تنم عن الغطرسة تختفي كلما حضر زوجها أو ابنتها. ونادرا ما يتواجد زوجها في البيت، وكان لا يعني بول بشيء، وكان بول سعيدا بتجنبه. ولكن البنت تأتي يوميا بعد دوام المدرسة، ودائما أثناء وقت انشغال بول. وأحيانا تنضم لأمها وله وهما في الباحة.

كانت فرصة مرحة طيبة. ثم جاءت البنت في أحد الأيام للبيت باكرا، وكان الطقس حارا، والشمس ملتهبة للغاية...

بعد ست عشرة سنة، حينما حان وقت إعدام بول، ظهرت هذه المرأة، هذه الصورة الغامضة ذات الشعر الأحمر الجالسة أمامه على الطاولة، وحملته في سيارتها، وقادته لمكان مجهول لا يعلم به غير الله.

لا يزال بول يلوم الحر. ألقى قطعة من همبرغر الجبنة في فمه. ووجد صعوبة بابتلاعها. فهو لم يتناول طعامه منذ عدة أيام. وراقبته أماندا، كانت تعتقد أن الرجال يبدون أحيانا مثل حيوانات كاسرة. غير أن ترويض الحيوانات أسهل من ترويض رجل.

انتهى بول من طعامه ومال نحو تاج الدخان الذي يأتي من سيجارة محترقة. ونظر للمرأة بابتسامة رضا.

قال:” شكرا لك”. وارتعش صوته قليلا. فهو لم يتكلم منذ أمد طويل.

ردت بصدق:” ليس عليك أن تشكرني”.

تلاشت ابتسامته قليلا. وزحف شيء في عينيه، شيء داكن، ربما الخوف. وكان يبدو كأن سوزان تأتي من وراء ستارة غير مرئية. سلمت الفاتورة إلى بول. وابتسمت أماندا للنادلة العجوز كأنها شمس مشرقة وقالت: "آه. شكرا لك. سأتكفل أنا بها”. وأخرجت بطاقة بلاتينيوم من محفظتها.

 قالت سوزان:”لا نقبل البطاقات هنا”. وردت على ابتسامتها بمثلها فمن عادتها أن تعكس مشاعر الآخرين كالمرآة.

قالت أماندا:”ما من مشكلة”. ومدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت محفظة من الجلد الأسود. وبحثت بين عدة فواتير قبل أن تسحب ورقة من مائة، وقدمتها لسوزان بيد ماهرة. وبصوت أنعم من السابق قالت للنادلة أن تحتفظ بباقي الحساب لنفسها. ولكن لم ترتسم الابتسامة على مرآة سوزان. وقالت: “شكرا لكرمك يا سيدتي. هل من شيء آخر يمكنني أن أخدمكما به؟. شيء يفيدكما في طريق العودة؟”.

قالت:” شكرا لك.  سنغادر حالا”.

وافقت سوزان بحركة من رأسها. وعادت لموضعها وراء المنصة، ودست المائة في مريولها.

نظرت أماندا إلى بول. وغاضت الابتسامة من وجهها. وأشارت برأسها للنافذة، تدعوه للتحرك. وتبعته وهو يغادر المطعم. وحينما اقتربا من هوندا رمادية، دخلت موستانغ حمراء براقة إلى باحة سيارات من ثلاثة مواقف.  وطار الغبار أمام وجه بول. وقفز رجل متوسط العمر من السيارة، وقال بصوت مرتفع:” آسف!”. وهرع نحو المطعم.

قال بول متهكما:”لا بد أنه جائع”.

ونفضت أماندا التراب الأحمر عن بلوزتها البيضاء. وجلست وراء المقود بينما احتل بول المقعد الخلفي. فكيس ممتلئ بالدراق شغل المقعد الأمامي.

ضغط قلب سام على رئتيه وهو يسرع من جانب الاثنين. وذهب للنادلة العجوز وقال:”أريد طعاما فورا، أي شيء، أي شيء تحضيره سريع”.

لم تكن سوزان متسرعة. وأخذت وقتها بفرم شرائح فطيرة البقان. وبعد دقيقة، سكبت له كوبا من القهوة. حمل سام كلاهما إلى المقصورة البعيدة عن المدخل. ولم يأكل. حطت ذبابة على الفطيرة الحلوة بهوادة. ونظر سام باهتمام من النوافذ المغبرة. كان قلب سام يدق، ورئتاه تنقبضان. كان يهبط من مكان شاهق، من بهجة عارمة امتدت لشهر وجعلته يتخيل أشياء لا يمكنه التعبير عنها، ويشعر بأمور لا يفهمها، ويقول كلاما لا يتكلم به في الأحوال العادية. كان سام بحاجة للمزيد من هذه المشاعر، لكن انتهى وقته. ما كان عليه أن يتناول الأقراص، وهو يدرك ذلك. ولكن الشاب سبقه إليها على مرأى منه، ابتلعها قبله وأمامه. وأحب الشاب الحبوب السود وتأثيرها وابتسم ابتسامة كسولة وأخبره كم أسعدت أيامه، رسمت له نجوما في السماء في سقف بيت والده. وفي إحدى اللحظات انتصب انتصابا مخيفا. وأمسك عن الضحك وهو يقول إنه لم يشعر بالانفعال هكذا منذ شهور. واستطرد كثيرا. وهو يضحك من انتصابه الهائل، ويمأمئ عن النجوم، كأنه يكلم سام وأشخاصا خياليين. وزعم أنه يستطيع أن يفعل أي شيء، ولكن كل ما يريده الآن أن يجلس هكذا ويستمتع بهذه المشاعر.

لم يكن سام سعيدا هكذا لفترة طويلة.

والآن، بعد شهر وعدد كبير من الأقراص، نفد مخزونه. وبدأت يداه ترتعشان. وساقاه ترتبكان. وجفناه يطرفان. أصبح دمه نظيفا وعاديا بمرور الوقت.

ظهرت سيارة في نهاية شريط الطريق البراق وأسرعت نحو المطعم. نبح كلب. وجلس سام منتصبا، وطرف بعينيه عدة مرات، ووضب ياقته بزرها المغبر، وأخيرا جرع رشفة من قهوته الخفيفة الدافئة. وخرجت من السيارة امرأة ترتدي رداء حفلات أخضر  براقا التمع في شمس أريزونا الساطعة. كان شعرها أسود ويغطي كتفيها العاريين. وحملت معها كلبا صغيرا بنيا بلون الكاراميلا. لم يحرض سوزان هذه الأناقة. وتقدمت المرأة اللؤلؤية نحو المطعم وجلست أمام سام.

قال لها:”مرحبا يا لو”.

ردت:” مرحبا يا سام. كيف حالك اليوم؟”.

“أنا بخييير”.

ران الصمت، ثم همس سام:”حسنا. واجهتنا في تولسا بعض المشاكل”.

“تولسا؟. أخبرني ماذا حصل في تولسا يا سام؟”.

قال وهو يتحاشى نظرتها“حـ...حسنا. لم يمكنني نقل المدخرات”.

تنهدت وقالت:”كم بقي معك؟”.

“خمسة”.

سألته وكان صوتها ناعما:”أنت تعلم معنى ذلك؟”.

نظر سام نحوها بعينين واسعتين وقال:”كلا”.

هزت لو رأسها وقالت:”بل نعم، أنا أخشى أن هذا هو الحال. أنت وقعت عقدا، ولا يمكنني أن أفعل شيئا حيال ذلك”. وتزايدت ارتعاشات سام. وتشكلت الدموع في عينيه.

وضحكت لو قائلة:” آه، لا تفعل ذلك من فضلك!. أنت تعلم أنني عاجزة عن أي شيء. لا تبدأ بالبكاء يا سام. لقد خرج الأمر من بين يدي الآن. وأنت متأكد”.

واصل سام بكاءه. فقالت:”لا بأس. حسنا. شكرا لخدماتك. سأنصرف الآن. لدي حفل غداء في ألبوكويركيو، ولا يمكنني أن أتأخر”.

نهضت وأذنا الجرو منتصبتان. وقبل أن تبتعد، طلبت منه بقية ما لديه من حبوب. قدم لها سام زجاجة بلاستيكية في داخلها خمسة أقراص سود. وغطت لو فمها بيد ذات أظافر حسنة التشذيب والطلاء وقالت ساخرة بدهشة:”هل هذا كل شيء؟. أنت لم تبتلعها يا سام. أليس كذلك”.

ونظر سام للذبابة فوق فطيرته وقال:”أنت متأكدة أنني فعلت”.

وتصلب صوت لو وهي تقول:”فعلت كل شيء بمشيئتك”.

قال:”من فضلك اسمحي لي بواحد. من أجلي”.

تأملته لو، وتأملت الزجاجة، ونظرت لكل قرص. وغادرت المطعم، ودخلت في سيارتها، وقادتها بعيدا. نظر سام لقهوته الباردة، كانت بلا سكر، وفكر ربما الأمر ليس سيئا جدا. ولم يلمس فطيرة البقان، وأسقط ورقة من خمسة دولارات على المنضدة أمام سوزان، وزمجر وهو يغادر نحو سيارته. وقادها لمسافة ميلين بعد المطعم، بما يكفي ليختلي بنفسه. وكان جهاز التسجيل يعزف أغنية لو ريد “تقدم على الضفة المتوحشة”. وكان التراب الأحمر يحاصره. لن يمر أحد من جواره قبل ساعة. ثم صوت معدني. واختفى صوت البنات الملونات...

انفجار سيارة في الصحراء حادث سريالي.

وهذا ما حصل: بعد دقيقة بقي لدينا معدن محمر، دواليب مطاطية، مقاعد من الجلد، وسائق، ورعب، وعرق، وموسيقا. في اللحظة التالية، كل ما تبقى كومة من الخردة المعدنية الملتهبة، وصيوان أذن ممزق، وصدى متجمد. ما تبقى انصهر، تمزق، تشتت، وتطاير بعيدا ولمسافة واسعة، إفطار من الجحيم.

نظرت سوزان من وراء حصالة النقود وهي تسمع الصوت. وانتظرت دقيقة قبل أن تعيد الفطيرة غير المأكولة إلى مكانها في الواقية الزجاجية التي تحمي الوجبات الكاملة من الصحراء.

سكاوت ساترفيلد  Scout Satterfield شاعرة وقاصة أمريكية من سان أنطونيو و تعيش حاليا في ناشفيل. تعمل محررة في “بوستسكريبت أون لاين”.  القصة مترجمة من مجلة بوستسكريبت، عدد 30، ضمن محور خاص بعنوان :”العمل”.

 ***

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم