صحيفة المثقف

قراءة في قصة (القط الأسود) للكاتب الأمريكي إدغار ألن بو

حيدر عبدالرضااللاوعي الشخوصي بين استقرائية الفعل الحكائي وغرائبية الموضوعة

توطئة:

يتميز الذهن الحكائي الاستدلالي في مخيلة وتصورات الإجراء الأدائي في تجربة عوالم أقاصيص الكاتب الأمريكي الكبير إدغار ألن بو، على أنها الظاهرة اللاشعورية واللإرادية في التعامل مع الأشياء ضمن خطوط ومؤثرات نفسانية ـ باطنية، وعند التركيز في إيحاءات مسار أحداث قصة (القط الأسود / ترجمة خالدة سعيدة) نعاين مدى تحول الوعي إلى اللاوعي والشعور إلى اللاشعور والعقل الباطن المسكون بقابليات ساحقة من الوهم والعصابية النفسانية المستودعة داخل الصورة الانتاجية في إدراك تشكيل الصور والمواقف وحالات الأشياء .

ـ الشخصية المحورية وعصابية اللاوعي

يظهر لنا أولا وعبر وحدات تمهيدية من صوت السارد العليم بمقدمات تتابعية خطية جاءتنا تمثيلا على لسان حال الشخصية المحورية، تبرر للقارىء حرية الإفضاء بما يخالج ثيمات حكايتها الغرائبية مع نمو مجرى حياته الشخصية إلى جانب وجود زوجته . وقد أظهر السارد على لسان حال الشخصية حكاية قصته، ومدى حميمية علاقته بمجموع الحيوانات الأليفة في منزله، والتي تتكون من الأسماك الذهبية والقرد والأرانب و ذلك القط الأسود الذي يدعى ب(بلوتو) وقد أسهب السارد في رصد مراحل حياة طفولة الشخصية، وكيفية كونها من أبرز الناس إقتدارا على عشق الحيوانات، ما راح يعكس مدى أنسانيته إزاء علاقته بذلك القط الأسود: (كان بلوتو ـ وهذا أسم القط ـ حيواني المدلل وأنيسي المفضل . أطعمه بنفسي، ويلازمني حيثما تحركت في البيت .. بل كنت أجد صعوبة لمنعه من اللحاق بي في الشوارع . دامت صداقتنا على هذا الحال سنوات عديدة، تبدل خلالها مزاجي وساء سلوكي بفعل الإدمان على المسكرات ـ أني أحمر خجلا إذ أعترف بذلك ـ ويوما بعد  يوم تزايدت حدة مزاجي وشراستي واستعدادي للهيجان، وتزايد استهتاري بمشاعر الآخرين . / ص12  القط الأسود) في هذه النقطة الأولى من عتبات النص يختفي خلف صوت السارد العليم، ذلك الصوت الشخوصي الذي يتوزع ما بين (صوت السارد = الشخصية ذاتها) وصولا منهما إلى ذلك النموذج المتحول أو المرهون تحت ضغط وسائل المسكرات، لذا وجدنا عملية التحول وإخفاء الوجه الفعلي من هاجس الشر والشراسة، هو وليد مرحلة سلوكية مزاجية قديمة في حقيقة حياة الشخصية، وليس أبدا الحالة مستجدة في عنفوان الأداة السلوكية الحديثة لدى الشخصية، خاصة وأن المادة الفعلية من سمات أفعال الشخصية، عادة ما تحكمها مساحة متغايرة من العقل الباطن الاستعادي، مما راح يجعل حالة التنافر السلوكي لدى الشخصية كنزعة ضدية مع طبيعة هواجس اختلاف الواقع الجديد للشخصية ذاتها . لذا نقول أن نزعة التحول في مركب الشخصية، هو سيرورة قبلية مترسبة في قاع الذات القديمة، وليس محض تمظهرات محدثة ودخيلة على طبيعة الشخصية في واقعها النصي: (ولكم عانيت وتألمت بسبب التعابير القاسية التي رحت أوجهها إلى زوجتي، حتى أنني في النهاية لجأت إلى العنف الجسدي في التعامل معها .. وبالطبع فقد أستشعرت حيواناتي هذا التغير في مزاجي .. ولم أكتف بإهمالها، بل أسأت معاملتها .. وإذا قد بقي لبلوتو بعض الاعتبار مما حال دون إساءتي إليه . / ص12) . 

1 ـ المسرود القصصي بين الاستباق الخارجي وزمن الداخل النصي:

و قد تعددت مبررات الشخصية في الحكاية، وعبر حركة خاصة من التحول في موجهات السلوك بفعل أزمة نفسية حادة، يمكننا أعزاءها إلى مواقف خارج زمن الحكاية وليس داخل زمن خطاب القصة، نظرا لأن سمات الاستباق الخارج عن زمن الحكاية، كان تمهيدا يتوازى مع تعقيد الداخل من مركب الشخصية، وبهذا الأمر فإن حدود الوظيفة في النص هي حالة من وجهة النظر في اللحظة الخارجة عن حكاية الشخصية في خطاب النص، وإلا ما مستوى إمكانية الخمرة في قلب سمات شخصية كلية أخذت تعترف بذنوبها في الآن نفسه هي مصرة على دوام فعل العنف في ذاتها ؟ قد تكون هناك مواقف متوقعة وغير متوقعة داخل زمن النص، المتوقع منها إن هذا الرجل يعاني من مأزومية انفصامية خاصة، أما غير المتوقع منها، هو ما يتعلق بالحذر والقلق من مألوفية وحميمية أفعال القط المداعبة لإطراف جسد الشخصية، وبالمحافظة الخاصة من الشخصية على مقام كونه هو السيد في المنزل، يسعى ضمنا إلى خلق عادات عدوانية رادعة نحو تصرف حميمية تلك الحيوانات، ومن ضمنها القط، ولكن ما هو أشد غرابة في النص، هو شروع الشخصية إلى اقتلاع عين القط بواسطة آلة حادة: (ذات ليل كنت عائدا إلى البيت من البلدة التي كثر ترددي إليها وقد تعتعني السكر، وخيل إلي أن القط يتجنب حضوري، فقبضت عليه، وإذا أفزعته حركاتي العنيفة جرحني بأسنانه جرحا طفيفا، فتملكني غضب الأبالسة . وبدا أن روحي القديمة قد اندفعت على الفور طائرة من جسدي، وأرتعد كل عرق في هيكلي بفعل حقد شيطاني غذاه المخدر ..  فتناولت من جيب سترتي مطواة، فتحتها، وقبضت على عنق الحيوان المسكين واقتلعت عامدا أحدى عينيه عن محجرها ! . / ص12) ففي حكاية الشخصية يكمن الاستعمال للاستباق الخارجي، عوضا عن الاستباق الداخلي، وذلك لضيق زمن مساحة الحدث في القصة القصيرة، وخصوصا أن الاستباق الخارجي متشابه إلى حد كبير مع مؤهلات الشخصية في القصة، وقد تعددت إمكانية الشخصية فيها بوصفها آلية انفصامية تكن للأشياء عاطفة طارئة في زمن اللحظة المعاشة قسرا، ولكنها سرعان ما تعاودها روحها العدوانية السوداوية في الاستباق الخارجي .

2 ـ إبطاء مساحة السرد وتناسب وقائع القصد في اللاوعي:

و في هذا المبحث الفرعي سوف نستعرض ونتناول تحليلا عبر كيفية انتقالات الشخصية نحو مراحل خاصة من أبطاء عملية السرد والسارد، توغلا في الوظيفة الوصفية بين المشهد والتصوير العرضي، وعلى هذا النحو نعاين حجم مبالغة ألن بو في تفعيل دور الشخصية في الإيحاء بمبرراتها الواهنة والمريضة حيال مشهد قتلها للقط: (في هذه الأثناء أخذ القط يتماثل للشفاء تدريجيا .. صحيح أن تجويف العين الفارغ كان يشكل منظرا مخيفا، لكن لم يبد عليه أنه يتألم وعاد ينتقل في البيت كسابق عهده، غير أنه، كما هو متوقع، كان ينطلق وقد استبد به الذعر كلما اقتربت منه . كانت ما تزال لدي بقايا ممن القلب القديم بحيث ينتابني الحزن إزاء هذه الكراهية الصارخة يبديها لي كائن أحبني ذات يوم . لكن سرعان ما حل الانزعاج محل الحزن . وأخيرا جاءت روح الانحراف لتدفعني إلى السقوط الذي لا نهوض منه . وهذه الروح لا توليها الفلسفة أي اعتبار .. مع ذلك لست واثقا من وجود روحي في الحياة أكثر من ثقتي أن الانحراف واحد من النوازع البدائية في القلب البشري . / ص13) لنفترض بدءا أن الشخصية كانت تهدف إلى نقل واقع الأحداث إلى نقطة نسبية من نوازع الشر في السريرة الآدمية، بيد أن هذا الأمر هو تكملة من خلال مجرى سرد بؤرة النص، إذا ما دخل وجه المسكرات في موقف الشخصية الانفصامي ؟ في بداية النص ملوحا لنا بالتركيز على هذه الجمل: (تبدل خلالها مزاجي وساء سلوكي بفعل الإدمان على المسكرات . / ص12) على ما أظن أن هناك حالة من الازدواجية في سمات أوصاف ـ ألن بو ـ لحالة شخصيته فهو الآخر لا يعلم ما أسباب تحول شخصيته على حد تقديري، فمرة يعزوها إلى المسكرات، ومرة أخرى إلى فلسفة غير مبرهنة حول طابعية وجذرية الشر في القلب البشري مؤخرا على أية حال نعود إلى أسباب إبطاء مساحة الزمن السردي في النص، وذلك نظرا إلى تعليق أهمية وتكثيف الفعل الحاصل في الشكل التبئيري المركز في عملية السرد، وهو الأمر الذي جعلنا ننظر إلى مشاهد وفقرات النص بوصفها الموصوف الواقع في مسافة الغاية والقصد من الفعل الشخوصي .

ـ الوجود العضوي للمكان ومجريات علاقة السارد بالشخصية

في قصة (القط الأسود) يلعب العنصر المكاني دورا مرتبطا بملامح وسمات ومكونات الشخصية القصصية، حيث يرتبط الواقع داخل عوالم الشخصية النفسية، لذا نجد طبيعة الوصف المكاني للسارد، أضحى يظهر القابلية العاملية للمكان، وكأنه تلك الفسحة المنزوية داخل جدران دهليز مبطن، حيث يجرى التبئير من الخارج على لسان السارد العليم، أما من يقوم بأفعال المساحة التمثيلية من النص، فهو الشخصية الساردة بواسطة ظلية ضمير الأنا المخصوصة في النص تمثيلا: (هذا الجدار الذي نجا بمفرده لم يكن سميكا لأنه جدار داخلي يفصل بين الحجرات ويقع وسط البيت، وإليه كان يستند سريري من جهة الرأس . وقد صمد طلاء هذا الجدار كان يتجمهر حشد من الناس، وبدا أن عددا كبيرا منهم يتفحص جانبا مخصوصا منه باهتمام شديد .. دنوت لأرى رسما على الجدار الأبيض كأنه حفر نافر يمثل قطا عملاقا .. كان الحفر مدهشا بدقته ووضوحه، وبدا حبل يلتف حول عنق الحيوان . / ص13) أن الوجود المحوري للمكان كما قلنا سلفا، يتضح من خلاله ذلك الاختلاف ومسبباته وعلاماته، ها هنا تظهر آثار عملية قتل القط مشنوقا من قبل الشخصية في حادث وزمن سابق من النص، ولكن الغريب في الأمر هو كيفية إتمام هذا الرسم على الجدار، أو بالأحرى كيف يكون شبح هذا القط ملازما لمسرى متخيل من قبل الشخصية والناس المتجمهرة أمام صورة وهيكل الجدار؟ ما يجعلنا ننظر إلى أحداث القصة، بوصفها آلية تشخيصة إلى حالة من حالات الانفصام العصابي لدى الشخصية، هو ما يجعلنا ننظر إلى مساحة مقدمات النص على أنها الحركة الباطنة لدواخل وحالات الشخصية المعاقة، وصولا إلى الوجود المضمر إلى روح ذلك القط الشبحية في إيهامات وتداعيات مخيلة الشخصية ذاتها: (عندما وقع نظري لأول مرة على هذا الشبح ـ إذ لم أكن أستطيع أن أعتبر أقل من ذلك، أستبد بي العجب وأفظع الذعر .. غير أن التفكير المحلل جاء ينقذني من ذلك . لقد كان القط على ما أذكر، معلقا في حديقة متاخمة للبيت، فلما أرتفعت صيحات التحذير من النار غصت الحديقة فورا بالناس ـ ولا بد أن شخصا ما قد انتزعه من الشجرة وقذف به عبر النافذة إلى غرفتي . / ص14) كان من الممكن أن يتسع تحليل الشخصية الانفصامية نحو بدائل أخرى من نوازع الضمير، والخروج بنتيجة مريحة نفسيا لقلب وميول الفاعل القاتل، وذلك ما غدت تكشفه لنا تحولات الشخصية بعد ما فاض بها شعورها بتأنيب الضمير وتصاعد وتيرة الندم بها، وذلك ما بدا لنا واضحا عندما ذهبت الشخصية في أحدى لياليها الماجنة بالخمر والمثول إلى أقصى درجات تواصل جلد الضمير لها . يتضح لنا من خلال الفقرات اللاحقة من النص، أن الشخصية قد صادفها مرأى نقطة سوداء واقفة فوق أحدى هامات براميل الحانة، وعند تدقيقها في سحب الظلام في مكمن ذلك الشيء، تبين للشخصية أنه قطا بذات السمات السابقة للقط الذي قتله شنقا: (وعلى مدى أشهر لم أستطع أن أتخلص من هاجس القط، خلال هذه الفترة عاودني شعور بدا لي أنه الندم، ولم يكن في الحقيقة كذلك لم يكن أكثر من أسف على فقد حيوان، وتفكير بالحصول على بديل من النوع نفسه وشكل نفسه / وما سبب دهشتي هو أنني لم أتبين للحال طبيعة الشيء الواقف فوقه .. دنوت ولمسته بيدي . كان قطا أسود ـ قطا كبيرا جدا ـ في حجم بلوتو ويشبهه تماما باستثناء شيء واحد، إذ لم تكن في أي مكان من جسم بلوتو شعرة بيضاء واحدة، وكانت لهذا القط بقعة بيضاء غير واضحة الحدود تتوزع على منطقة الصدر بكاملها . / ص14) .

ـ الخلق القصصي بين عدوانية الذات وعقدة السوداوية

في الجزء الثاني من ترابط علاقة الشخصية بذلك القط الأسود الجديد، توافينا ذات السوداوية المقيتة من قبل مزاجية الشخصية القصصية، إذ يلعب في المحبوك السردي ـ التبئيري، معطى غرائبيا من ناشطية المحور المركزي (الفاعل المنفذ) الذي يتسم بأقصى محمولات العدوانية على ذلك المخلوق الأسود الجديد، وهكذا فعالية مركبة تكرارية، تشكل بعدا جديدا أكثر إقرارا بمأزومية هذه الشخصية الدالة على عدوانيتها ومرضيتها المستوعبة: (ما أكد كرهي لهذا الحيوان هو اكتشافي، صبيحة اليوم التالي لوصوله أنه مثل بلوتو، قد فقد أحدى عينيه، غير أن هذا زاد عطف زوجتي عليه، لأنها كما ذكرت، تملك قدرا عظيما من المشاعر الانسانية / كان هيام القط بي يزداد بازدياد بغضي له .. فكان يتبع خطواتي بثبات يصعب إيضاحه للقارىء .. فحيثما جلست، كان يجثم تحت مقعدي، أو يقفز إلى كربتي ويغمرني بمداعباته المقززة / ومع أنني كنت أتحرق في مناسبات كهذه لقتله بضربة واحدة، فقد كنت أمتنع عن ذلك بسبب من ذكرى جريمتي السابقة إلى حد ما . / ص15) قد يطول احساس العنف والرهاب داخل سرائر واقع الشخصية فترة من الوقت، أي بمقدار ما تتراجع وتمحى ذكرى القط القديم، ولكننا حسبنا أن للزمن داخل الشخصية محددات ثابتة وضمن فترة نفسية مأزومة معينة، ولكن الأمر بات يتصاعد بالشخصية نحو فترات زمنية لا يمكن احصاء حساباتها الظرفية والمزاجية . وإذا ما تفحصنا البنيات اللاحقة من منظور العنف لدى الشخصية حيال ذلك القط، لوجدنا أن الأمر قد طال كل الأبعاد التقديرية من الجانب النفسي، بل أن الشخصية وصل بها الحال إلى قتل الزوجة بطريقة غاضبة ومنتقمة بعد أن كان الفأس مسددا إلى ذلك القط قصدا بقتله، غير أنما حدث أن الزوجة قد تحاشت ومنعت تصويب الضربة إلى ذلك القط، فما كان بالرجل إلا أن أستشاط وراح يوجه بنصل الفأس إلى رأس الزوجة مخلفها ميتة، دون المساس بذلك القط الذي فر إلى مكان خفي من القبو: (تبعني القط على الدرج وكاد يرميني، فستشاط غضبي الجنوني، رفعت فأسا، متناسيا ما كان من خوفي الصبياني الذي أوقفني حتى الآن، وسددت ضربة إلى الحيوان كانت ستقضي عليه لو أنها نزلت حيث تمنيت، غير أن يد زوجتي أوقفت هذه الضربة . كان هذا التدخل بمثابة منخاس دفع بقبضتي إلى الهياج الشيطاني، أنتزعت يدي من قبضة زوجتي ودفنت الفأس في رأسها، فسقطت ميتة دون أن تصدر عنها نأمة . / ص16).

1 ـ رهبانية تحنيط الزوجة داخل مدفن الجدار:

و إذا ما تفحصنا منطق الاشتغال الحكائي في منجز قصة (القط الأسود) لاحظنا بأن ألن بو يستثمر طريقة دفن الزوجة في النص بذات كيفية الطريقة التي كان يدفن بها الرهبان ضحاياهم في مدافن الجدران في القرون الوسطى على حد تعبير فقرات إحالات القصة: (كان القبو مناسبا لمثل هذه الغاية . فقد كان بناء جدرانه مخلخلا وقد تم توريق الجدران حديثا بملاط خشن حالة الرطوبة دون تصلبه . وفوق ذلك كان في أحدى الجدران تجويف بشكل المدخنة تم ردمه بحيث تستوي أجزاء الجدار . وتأكد لي أن باستطاعتي انتزاع قط الطوب من هذا التجويف وإدخال الجثة، وبناء التجويف ليعود الجدار كما كان بحيث لا ترتاب العين في أي تغيير . / ص16)  وتتمثل بلاغة وإجرائية إتمام الجريمة على أتم وجه، ولكن الغريب في الأمر، هو غياب ذلك القط عن مسرح ظهوره المعتاد ومطمئن في أرجاء البيت بعد عدة أيام من الحادث، وعلى هذا النحو أخذت تخضع جميع محفزات الشخصية إلى البحث الناقم عن ذلك الحيوان المتسبب بتلك الجريمة، ولكن دون جدوى من محاولة العثور عليه في البيت . في الحقيقة لدينا بعض المآخذ على حبكة قصة ألن بو، ولابد لنا من توضيحها كمساءلة جادة في قراءة مقالنا هذا: كيف لرجال الشرطة ذلك العلم بمقتل الزوجة ؟ لقد جرت الأحداث في النص بموجب تلاحم محفزات داخلية للشخصية وزوجته والقط الأسود، ودون أدنى علاقة ما بالثلاثة حيال العالم الخارجي للمنزل ؟ أقول كيف تم إبلاغ مخفر ورجال الشرطة عن زمن وقوع الجريمة، خصوصا وأن علاقة الزوج مع زوجته لم يسبق لها أي سابقة إشكالية أو خلافية ما حيث يتطلب أمرهم حينذاك متابعة ومراقبة من قبل رجال الشرطة؟ أقول شخصيا أن مسألة قدوم رجال الشرطة تحت هذا السقف القصير من الزمن قد يكون من قبيل سوء التخطيط والحنكة من قبل ألن بو في نسيج التكوين الحبكوي لنصه؟ على أية حال تحقق رجال الشرطة في مكان وقوع شبهة جريمة قتل الزوجة، دون سابق توكيد منهم على أن الزوجة مقتولة على ما أظن؟ . والغريب أيضا في الأمر أن ألن بو راح يسلم ميثاق جريمته إزاء مكان مدفن الجثة بهذا الفعل الاستعراضي الفج من قبل الشخصية: (هل أنتم ذاهبون أيها السادة ؟ـ هذه الجدران متماسكة تماما، وهنا وبنوع من الزهو المتشنج، طرقت طرقا قويا على الجدار بعصا كانت بيدي، تماما في الموضع الذي أخفيت فيه زوجة قلبي / لم تكد أهتزازات ضربتي تغرق في الصمت حتى جاوبني صوت من داخل القبر ! صرخة مكتومة متقطعة بدأت كبكاء طفل، لكن سرعان ما أخذت تتعاظم وتتضخم لتغدوا صرخة واحدة هائلة مديدة شاذة غريبة وغير آدمية بالمرة / للحظة واحدة ظل فريق الشرطة مسمرا، على الدرج بفعل الرعب / تهدم الجدار، انهار قطعة واحدة . كانت الجثة قد تحللت إلى درجة كبيرة وغطاها الدم المتجمد، وهي تنتصب واقفة أمام عين المشاهدين وعلى رأسها يقف القط الأسود . / ص17) .

ـ تعليق القراءة:

في الواقع أن عوالم أقاصيص الكاتب الأمريكي الكبير إدغار ألن بو كلها تعتمد هذه المعادلات والدلالات الغرائبية من البدائل المغايرة لمخالفات سنن الملامح الواقعية المصورة، وما وجدناه في حال دلالات قصة (القط الأسود) ما هي إلا ذلك الانفراد والتفرد والتأثير الكبير في حكي أحوال النص القصصي، الذي غدا لنا في غاية العمق والتكثيف وسمو الأداة البنائية النادرة لنموذج النص القصصي العالمي . وقد يكون مفيدا من جهة هامة، دراسة مجمل عوالم أقاصيص هذا الكاتب المهيب، لأننا وجدنا في أدبه القصصي الكلاسيكي الثمين، حقيقة وأصالة وهوية المشروع القصصي الحكائي النادر من نوعه، والذي راح يقدم لنا خاصية علائقية جادة وجديدة في مدلول النص القصصي ضمن مؤهلات حقيقة وخلفية جمالية في مقولة التحليل النفسي  والرمزي والغرائبي توظيفا مكينا يستحق كل الدراسة والاهتمام النقدي .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم