صحيفة المثقف

راحلونَ

ذكرى لعيبينصوص خارج السرب


تناولتُ كسرةَ خبزٍ

وحفنةَ زبيبٍ أسودَ

ولبناً رائباً كأيامِنا القديمةِ

ثمّ كتبتُ مطلعَ قصيدةٍ جديدةٍ:

أنا بصحبتكَ حتى عندما أكونُ وحيدةً..

أغلقتُ الحاسوبَ الأخرسَ.. نظرتُ لطفلتي وأوصيتها:

لا تتأخّري ، السهرُ يجعلُ التجاعيدَ تفترسُ وجهَكِ الجميلَ

ابتسمتْ وقالتْ:

أُحبّكِ ماما

اتصلتُ بالأولادِ وأخبرتُهم:

أنّ الحياةَ فكرةٌ، لتكنْ فكرتكم عنها كما تحبّونَ.

أشمُّ رائحةَ الموتى هذا المساءَ

رائحةُ المسكِ بغترةِ أبي

العنبرُ بثوبِ أمّي وشيلتها

الجوريّ بطيلسانِ صديقتي "سهى"

الرصاصُ بـ"يطقاتِ" الجنودِ

الريحانُ بقمصانِ الشّهداءِ

رائحةُ الموتى هذا المساءَ تَزكَم رئتي.. تبتزّها.. تنبشُ نمارقَ وجعي

قلتُ: سأتصّدقُ غدًا بما تيسّرَ من تمرِ روحي، ثمّ غفوتُ

لا أدري كم من الوقتِ.. لكنْ أعتقدُ لوقتٍ طويلٍ

صحوتُ على نحيبِ طفلتي ، دمعُها يسقطُ جمرًا على وجهي

قُبلاتُها تستنشقُ مسامَ جبيني

ماما.. يمّة.. ماماتي

لماذا تتركيني بهذا الوقتِ؟

ماما

لا أدري لماذا تصرخُ؟

لا أدري لماذا لا تسمعُني، ولا تشعرُ بحضني وأنا ألفُّ ذراعي حولَ جسدِها النحيلِ

جسدُها النحيلُ يرتجفُ.. هل تشعرُ بالبردِ؟

سأنتزعُ جلدي لتلتحفَ بهِ

هل تشعرُ بالخوفِ؟

سأضحكُ كثيراً لتهدأَ

لكنّها مازالت ترتجفُ وتبكي:

"غريبة وجاراتي غرايب

ومالي بهالديرة حبايب"

على طاولةٍ باردةٍ جدّاً

استلقتْ جثّتي الملتهبةُ حنيناً

وجوهٌ غريبةٌ تحدّقُ بي

ووجوهٌ قريبةٌ معلّقةٌ في سماءِ الغرفةِ  تبتسمُ لي

أغلقتُ عيني، واستسلمتُ لبدايةٍ قد تكونُ أجملَ

وصلتُ أرضَ الوطنِ دونَ المرورِ بضابطِ الجوازاتِ

أو ختمِ الدخولِ

أو انتظارِ الحقائبِ

قلّـبتُ طرفي حولَ نعشي

فلم أرَ مؤنساً أومؤنسةً

" تذكرّتُ من يبكي عليّ فلم أجدْ"*

سوى بناتِ كتبي وأوراقي

وقلمي الذي طالما

كانَ باكياً

قال أحدُهم: هذه كاتبةٌ جنوبيةٌ مغتربةٌ

وقالَ آخرُ: امرأةٌ قتلها الحنينُ

ونادى " الزاحم"** غاضباً: مَنْ كسرَ قارورةَ الحزنِ العراقي؟

أنا أسمعُكم، هل تسمعونني؟

افتحوا هذا الغطاءَ لأتنسّمَ هواءَ بغدادَ

لأرى معالمَ وجهِ امرأةٍ سرقتْ بيتي وسعادتي.. سأقاضيها أمامَ اللهِ

أرفعوا هذا الكفنَ لأسمعَ صوتَ ابني:

" وراها..

أجرّ الآه والونّة وراها

أمّي وحگـّي لو أركض وراها"

نعتني بعضُ الصحفِ والمواقعُ الإلكترونيةُ.. قدّ يرثيني بعضُ الأصدقاءِ

قدْ يندمُ مَنْ هجرَ جنّتي، من طعنني بظهري، وسلبَ راحتي، قدْ يبكي.. ويتألّم مَنْ مددتُ له يدي، وبعدَ أن شبعَ قطعها..

لكنْ.. لأولِ مرّةٍ سأرقدُ دونَ أن أفكّرَ بفواتيرَ مؤجّلةٍ، أو أقلق " بشيك إيجار نهاية الشهر" أو خوفٍ من فاقة، أو مستقبلِ أبناء، أو توجّسٍ من مؤامراتٍ مباغتةٍ..

لأولِ مرّةٍ سأنامُ دون قلقٍ وتعبٍ..

سينسى الأهلُ والصحبُ حفرتي، ولن يكترثَ المارّةُ بوحشتي

رضيتُ بسكونِ الموتِ مجبرةً

بس ابهواكم ما عشت

لا شوگ من عدكم شفت

بس ذكرى نامت بالضلع

ومبلله ابصب الدمع !!

وروح ابوكت هجران ما ضاگت فرح !!

***

ذكرى لعيبي

............................

* الشطر الأول لبيت مالك بن الريب

** زاحم جهاد مطر-رحمه الله-، أديب ومقاماتي  كان يلقّبني بـ : قارورة الحزن العراقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم