صحيفة المثقف

تشرين.. نص سردي يُمجِّد الانتفاضة ويتعالق مع التاريخ

عدنان حسين احمدتوظِّف الكاتبة وفاء عبدالرزّاق في روايتها الجديدة "تشرين" الصادرة عن دار "أفتار للطباعة والنشر" بالقاهرة اشتراطات المبنى الميتاسردي بواسطة تعالقها مع شخصيات دينية مثل عنان بن داوود، مؤسس حركة القرّائين اليهودية التي عارض فيها اليهود التلموديين في زمن الخليفة أبي جعفر المنصور. كما تستدعي الروائية شخصية دانيال، المثقف المؤمن بهذه الحركة الذي يصف نفسه بشكل واضح لا لَبِس فيه: "أنا قارئ وكاتب ومُولع بكتب الفلسفة والأديان، وصاحب فكر". ويستمر هذا التلاقح الميتاسردي ليشمل الآية 34 من "سورة النساء" وإن لم تُسمِّها صراحة نقتبس منها الآتي"... وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا". كما تورد حديثًا نبويًا يقول:"لقد كرّم اللهُ المرأةَ في القرآن الكريم بضربها". كما ينطوي النص الروائي على تلاقحات فكرية وثقافية متعددة مع أقوال بعض الكُتّاب والفلاسفة الذين أثْروا الأنساق السردية للرواية ومنحوها نكهة خاصة ومميزة.

على الرغم من كثرة الشخصيات في هذه الرواية وصعوبة الإحاطة بها كلها إلاّ أنّ هناك شخصيات رئيسة هيمنت على النص السردي مثل سلوان، وحبيبته سعدة، ودانيال، وفرقد، وملاك وما سواهم من شخصيات توزعت على مدار الرواية التي تمحورت هي الأخرى على ثيمات متعددة أبرزها انتفاضة تشرين، ومقارعة الأنظمة الدكتاتورية، ولصوصية الحُكام الجُدد الفاشلين الذين نهبوا ثروات الشعب العراقي، وحمّلوه بأعباء كبيرة قد لا يتخلّص منها بعد عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان في أقل تقدير.

تتناول وفاء عبدالرزاق في ثيماتها الفرعية موضوعات كثيرة تبدأ بالحُب، وتمرّ بالخيانة الزوجية، وتنتهي بالانهيار الأخلاقي الذي أصاب شرائح محددة من المجتمع العراقي وهي تُلقي باللوم على السياسيين من مختلف القوميات والأديان والمذاهب، ولا تستثني أحدًا سواء أكانوا عربًا أم كوردًا، مسلمين أم مسيحيين، سُنّة أم شيعة، مثقفين أم جهلة، فالكل ينهش بجسد العراق، ونريده نحن، في خاتمة المطاف، أن ينهض مثل العنقاء من رماده ويعود قويًا ومعافى مثل سالف الأزمان التي كانت فيها بغداد عاصمة للخلافة الإسلامية، ومنارة للعلوم والفنون والآداب.

2219 رواية تشرين

شخصيات حيّة من لحمٍ ودم

تنجح وفاء في خلق شخصياتها الروائية الحيّة وتجعل القارئ يشعر بأنهم من لحم ودم؛ فشخصية سلوان يتعاطف معها القارئ لأنها ليست متعجرفة أو متعالية ولا تسكن برجًا عاجيًا وإنما تنبثق من البيئة الشعبية؛ فهو مثقف، وقارئ نهم، لا يفوته كتاب جديد، ولا تفلت من يده صحيفة يومية، والأهم من ذلك كله هو نَفَسَه الثوري المقارع للظلم والدكتاتورية. وحينما تنطفئ جذوة الوالد يشرع سلوان بالعمل ليلاً في محل خياطة، ويواصل دراسته صباحًا، ولا ينفكّ عن القراءة كلما وجد متسعًا من الوقت، فهو يحب الحياة، ولا يملُّ من الطموح الذي يحققهُ في الواقع وليس في الأحلام المجنّحة. يقع سلوان في الحُب في سنّ السادسة عشرة، ويتذوّق طعمه، ويتعرّف على الخدر اللذيذ الذي يسري في بدنه أول مرة حين "يلامس عباءة سعدة"! هذه الفتاة المنحدرة من أصول إيرانية التي أحبّها من أعماقه وتماهى بها، وسوف يكسبها إلى الحزب الشيوعي الذي انتمى إليه وهو في سن السابعة عشرة، وأصبح مسؤولاً عن مجلة تُعنى بالثقافة. وسوف يهرب من الجامعة لأنّ عيون العناصر الأمنية بدأت تلاحق الطلاب المنتمين إلى أحزاب أخرى غير الحزب القائد.

تُعدّ رواية "تشرين" نصًا عن أدب السجون في الحقبتين الدكتاتورية والمعاصرة، وسوف يتعرض العديد من الشخصيات للسجن، والتعذيب، والتصفيات الجسدية حيث كان الجلادون يضربونه على فمه، ويهشمون أسنانه، ويجبرونه على بلعها حتى يعترف بأسماء خليته ويخبرهم بخطتهم لإسقاط النظام. أمّا الآن فـ "نحن في بلد تتحكّم فيه عصابات برابرة". يُعتقل سلوان في الجامعة، ويتعرّض لمختلف أصناف التعذيب، ثم يُدرك أنّ أخاه سمير عبد الواحد مُلقىً في حاوية المشيمات حيث اقتاده أربعة من عناصر الأمن وزجّوه في السجن، وثمة طالب أشقر جميل اغتصبوه أمامهم لكي يهينوا رجولته أولاً، ويرهبوا السجناء الآخرين. ثم أجلسوه على خازوق اخترق أحشاءه وكان سببًا في وفاته. يخرج سلوان من السجن بعد أن يوقع تعهدًا بعدم القيام بأي عمل يضرُّ بالحزب القائد فيُصدم بخبر عن تسفير المواطنين من ذوي الأصول الإيرانية وبينهم سعدة فَحَزُن على فراقين؛ الأول فراق الحزب الشيوعي، والثاني على فراق سعدة ولا حلّ أمامه سوى أن يتزوجها كي ترعى مصالح أهلها. تفرّق الروائية بين الحُب الطاهر النقيّ، وبين الحاجات الجنسية التي كانت يشعر بها سلوان فتختلق له الأعذار إن مال لهذه الفتاة أو تلك المرأة لكي يأخذ وطرها منه. وإذا كان ذنب سلوان الوحيد في السابق هو مناوأة الدكتاتورية فإن جنايته الحالية هي التحريض من خلال كتاباته الصحفية على الثورة ضد النظام الفاشل ومليشياته العميلة التي تتلقى أوامرها من خارج الحدود.

تبدو حبكة هذه الرواية أضعف من سابقاتها بكثير ولولا تشريح الأطباء لجثة سلوان لما حافظت الرواية على نسق سردي مستقيم يصل بها إلى الجملة الختامية، فتارة يفتحون الصدر ويشرّحون القلب، وتارة أخرى يشرّحون القصبات الهوائية، وثالثة يعبثون بالرأس بمنشار كهربائي، ورابعة يمزّقون الكبد والطحال، وخامسة يشرّحون العمود الفقري، ثم يتتبعون الساقين والقدمين حتى يأتوا على أعضاء الجسد برمتها. وغالبًا ما يرتبط تشريح هذه الأعضاء الجسدية بالحبيبة سعدة التي عشقت فيه كل شيء فهي التي سكنت في قلبه، وأقامت في حدقتي عينيه، وطبعت القبلات على شفتيه وجبينه، ونامت على صدره، وتشابكت أصابعها بأصابعه حتى تماهى الجسدان بجسد واحد.

تقنية الأحداث المتجزِّئة

وبما أنّ الرواية تفتقر إلى البنية المتضّامة المتماسكة فلقد لجأت الكاتبة إلى الأحداث المتجزّئة التي تُوصل بعضها بعضًا، فما إن يفتر دور سلوان ويتلاشى دور سعدة الفعلي بعد أن تتحوّل إلى ذكرى عاطفية جميلة حتى تبرز إلى السطح شخصيات جديدة، بعضها رئيسي مثل دانيال، وبعضها الآخر ثانوي يساعد في إثراء النسق السردي مثل ملاك، وقيس، وسامي، وفرقد، وثورة، ورحاب، وزينب، ونبهان، وثنوة، وشخص مثلي وآخر من الجنس الثالث وغيرهم الكثير.

ورغم أنّ دانيال قد تمّ استدعاءه من الماضي التليد الذي يعود إلى زمن أبي جعفر المنصور إلاّ أنه كان يتحرك في المسار السردي وكأنه حاضر معهم، يشارك المنتفضين انتفاضتهم الجبارة ولكنه كان يبدو وكأنه قادم من كوكب آخر في بعض الأحايين فهو لم يسمع بابن ثنوة، ولماذا أُطلقت عليه هذه التسمية، الأمر الذي يتيح لنا، نحن المُتلقّين، أن نعرف حكاية الشهيد الأول في هذه الانتفاضة، ونلمّ بقصة حياته، ونُحاط علمًا بطموحاته وأحلامه الشخصية، فقد كان شاعرًا ورسّامًا مُحبًا لوطنه، يسكن في حيّ جميلة، ويعمل حمّالاً في علوتها، ويواصل دراسته الجامعية في الوقت ذاته، واسمه الحقيقي "صفاء السراي"، ورغم أنه غادرنا بجسده لكنّ روحه ماتزال تحوم فوق ساحة التحرير، وقلعة المطعم التركي، وجسور بغداد التي شهدت العديد من المواجهات بين المنتفضين والقوات الحكومية التي كانت تتفرج على الطرف الثالث وهو يفتك بالشباب الثائرين الذي يبحثون عن وطن لا تُنتهك سيادته من قبل إيران أو أمريكا أو أي دولة مجاورة.

يشترك بطلا هذه الرواية بأنهما قد ذاقا مرارة السجن، وتعرّضا لمختلف أنوع التعذيب، فسلوان تمّ تحويلة إلى مادة تعليمية حينما بالغوا في تشريحه جثته ولم يتركوا عضوًا من دون أن يفتحوه بما في ذلك عضوه الذكريّ. أمّا دنيال الذي لُفقت له تهمة الزندقة، واتهموه بالزنى فقبضت عليه الشرطة، وشدّوا وثاقه، وطافوا به في شوارع المدينة لكنه لم ينكسر لأنه كان مؤمنًا بأفكار عنان بن داود، وأنه يمثّل اليهود الحقيقيين الذين يؤمنون بالسيد المسيح. يتواصل حصول دانيال مع الصبي الصغير فرقد، ويترددا على ساحات التظاهر، ويلتقي بأناس متعددين من بينهم رجل طاعن في السن يتهم اليهود بأنهم وراء إحراق المكتبة العامة، وسرقة كل ما يتعلق باليهود الأسرى في بابل. كما يلتقي بشخصيات أخرى يحبها ويتفاعل معها، بل أن بعضها مثل "ثورة" كانت تتمنى الزواج به لكنه كان يعتذر لأسباب خاصة لم يبح بها حتى لسلوان الذي يعدّه أقرب الناس إليه وشريكه في تلك الغرفة المظلمة. ظل دانيال متخفيًا لا يفصح عن ديانته حتى عندما عمل مزارعًا وخادمًا عند التاجر الكبير نبهان الذي أرسله ذات مرة إلى البصرة ليستقبل ضيفًا ثريًا من الهند، وحينما وصل المهراجا وعائلته اكتشف ثراءهم الفاحش من الهدايا الثيمنة التي جلبوها معهم، ومن الحُلي والاساور الذهبية التي تتزين بها زوجته وابنتيه. كانت البنت الكبرى تميل لدانيال كلما نظرت إليه فهي في ميعة الصبا وقد بلغت العشرين من عمرها بينما شارف هو على التاسعة والثلاثين لكن صدمته كانت كبيرة حين سمع من سيده أنها خطيبة ابنه. كما يلتقي بالطفل فرقد ويتعلق فيه لكنه يسلّمه في النهاية إلى "ثورة" ويوصيها به خيرًا.

خطورة التوثيق الشامل

تسعى وفاء عبدالرزّاق في هذه الرواية إلى احتواء كل القصص، والظواهر، والمواقف الشاذة التي طرأت على المجتمع العراقي. وعلى الرغم من أهمية هذا المسعى إلاّ أنّ النص الروائي ليس توثيقًا لكل ما يجري على أرض الواقع مثل قصة ملاك، طالب الطب الوحيد لأبيه الطبيب، وأمه مُدرّسة التاريخ حيث عمل حاث سير، واخترق زجاج السيارة عينيه، ودخل في غيبوبة، علمًا بأن والده، طبيب التجميل المعروف الخاص بأسرة وزير كان يخصي معارضيه من الأحزاب الأخرى ويرميهم في الخلاء لكي تلتهمهم الذئاب. أو قصة رحاب التي نصبت على شابين قطّعا أحشاء بعضهما بعضًا بالسكاكين، أو قصة المرأة التي رأيناها على شاشات التلفزة وهي توزّع المناديل الورقية على المتظاهرين، أو خبر حرق وتدمير مقرات الأحزاب السياسية في ذي قار وغيرها من المحافظات الجنوبية التي ترفض التبعية لأي دولة مجاورة للعراق، أو الحديث عن زواج المتعة العابرة أو انتهاك شرف الأطفال من قبل أناس محسوبين على رجال الدين، أو قصة العصابة المسلّحة التي دخلت منزل الدكتور أشرف هو وزوجته وابنتيه وما إلى ذلك. وعلى الرغم من هذه الهنوات التي أخلّت بالبنية السردية وأثقلت كاهلها بمعطيات قصصية وحكائية وخبرية لم تنفع الثيمة الرئيسة، ولم تغذّي الثيمات الفرعية إلاّ أن الفضاء العام للرواية لم يهتز لأنها تداركت الموقف حين وزّعت دوريّ البطولة على سلوان ودانيال اللذين ظلاّ حاضرَين في متن النص السردي ولم يغيبا عنه كليًا بسبب اعتمادهما على ثنائية التجلّي والخفاء التي نجحت فيها الروائية وفاء عبدالرزّاق ووظّفتها ضمن تقنية ميتاسردية تستحق الإشادة والتقدير. أصدرت وفاء عبدالرزاق 11 رواية حتى الآن من بينها "بيت في مدينة الانتظار"، "السماء تعود إلى أهلها"، "أقصى الجنون الفراغ يهذي"و "عشر صلوات للجسد".

 

عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم