صحيفة المثقف

ضربتان روسيتان في رأس الاتحاد الأوربي توجع

كريم المظفر"موسكو مستعدة لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي في حال فرضه عقوبات تشكل خطرا على قطاعات حساسة من اقتصاد البلاد"... كلمات اطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على الهواء عبر قناة "سولوفيوف لايف" على اليوتيوب، ضربة ثانية " هزت" الاتحاد الأوربي في معقله، اعتبرها الكثيرون "ضربة " في "الرأس"، أفاقت وعي الاتحاد الأوربي "المريض سريريا"، بعد خروج بريطانيا وتفكير دول أخرى بالحذو حذو لندن ، " والمهووس " بالعقوبات ضد روسيا منذ سبع سنوات لإرضاء واشنطن سواء بسبب او بغيره، وابتكار نماذج عديدة لهذه العقوبات ضد موسكو .

تصريحات رئيس الدبلوماسية الروسية " المخضرم " والعارف بدهاليز السياسية الأوربية، وحكمته ودهاءه في اختيار عبارات التخاطب، فقد استشهد بمثل روسي  "إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب"، زاد من " لهجة " بلاده ضد الاتحاد الأوربي ، ليؤكد للغرب بأن لدى روسيا القوة الكافية لإسكات الأصوات " النشاز " الداعية الى فرض عقوبات جديدة على موسكو عل خلفية اعتقال " مريض برلين " ألكسندر نافالني والحكم عليه بالسجن بتهمة الفساد .

وكعادة الاعلام الغربي المسيس، فقد عرفناه بأنه دائما يختار العبارات المثيرة، واقتطاع ما يناسبه خدمة لأغراض سياسية، لتأجيج الرأي الأوربي والغربي ضد روسيا، وحاول تشويه تصريح الوزير لافروف، وكما قال الكريملين فقد تم تقديم هذا العنوان المثير بطريقة تصور روسيا وكأنها هي التي ستبادر إلى قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي،، وأخذ منه ما يناسبه " روسيا مستعدة لقطع علاقاتها مع أوربا" وعلى مبدأ لا تقربوا الصلاة ... "، تعمد الاعلام الغربي الى حذف ما بعد هذه العبارة  وهي " استعداد موسكو لقطع العلاقات مع بروكسل .. إذا فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات تهدد مجالات حساسة في الاقتصاد الروسي ".

موسكو حاولت توضيح سوء الفهم الغربي للتصريح الروسي، وأكدت على لسان الكريملين أنها لا ترفض التفاعل مع الاتحاد الأوروبي، لكنها تستعد للأسوأ، وأن روسيا تفضل عدم قطع هذه العلاقات بل على العكس تقويتها، لكنها قد تضطر للذهاب إلى إجراءات متطرفة، في الوقت نفسه، فإن مجلس الدوما على ثقة من أن بروكسل سيكون لديها سبب كافٍ لعدم دفع الوضع إلى طريق مسدود، لأن الاتحاد الأوروبي نفسه سيعاني من انهيار العلاقات.

كلا البيانين يعبران عن شيء واحد - هو الرفض الروسي القاطع لإجراء حوار مع الاتحاد الأوروبي حول السياسة الداخلية الروسية، وأن كانت العلاقات مع روسيا ليست في أحسن أحوالها، وأن الموافقة على عقوبات جديدة ستتطلب قرارا بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، فإنها تشدد (أي موسكو) على أنها مستعدة لهذه الخطوة، على الرغم من عدم رغبتها في الاعتزال عن حياة العالم ، إذا رأت مرة أخرى، كما كان قد حصل مرارا، وأن العقوبات التي تفرض في مجالات محددة تشكل خطرا على اقتصادها وخاصة "قطاعاتها الأكثر حساسية".

وكما اسلفنا، فقد اصابت كلمات الوزير لافروف، الاتحاد الأوربي في "معقله "، والذي لا يتعلق ضغطه وسبب العقوبات الجديدة المحتملة بأي جانب من جوانب السياسة الخارجية لروسيا أو القانون الدولي، ولكن بشؤونها الداخلية البحتة -، وقصة مع زعيم المعارضة أليكسي نافالني، وصعبت تصريحات لافروف من فهم المتحدثة باسم الخارجية الألمانية أندريا ساسي، التي اعتبرت تصريح الوزير لافروف حول عدم استبعاده قطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بانها " غريبة وغير مفهومة" ، وتسارع المفوضية الأوروبية في الإعلان وعلى لسان بيتر ستانو، المتحدث باسم الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بان "الاتحاد الأوروبي أخذ تصريح وزير الخارجية الروسي حول العلاقات مع التكتل بعين الاعتبار، كما أخذنا في الاعتبار التوضيحات التي صدرت عن الكرملين، وسنبحث كل ذلك في مجلس الاتحاد الأوروبي"، للتخفيف من" غضب " موسكو .

التصريحات الروسية " الحازمة " ارادات منها موسكو، التوضيح من خلالها أن إدراج قضايا السياسة الداخلية على جدول الأعمال، ناهيك عن الدعم المفتوح للمقاتلين ضد القيادة السياسية في البلاد، والذي كان الاتحاد الأوروبي يتظاهر به منذ أغسطس من العام الماضي، هو " خط أحمر" الذي لا يجب تجاوزه، وأن موسكو تسعى إلى حوار مع الاتحاد الأوروبي حول قضايا السياسة الخارجية، حول التحديات المشتركة (المناخ، انتشار أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، البرنامج النووي الإيراني، القطب الشمالي)، مهتمة بالتعاون في مجالات مثل الطاقة والعلوم والتعليم والسياحة، ولكن بشكل قاطع غير مستعدة للاستماع إلى ما يجب أن تفعله محليًا.

المراقب للأحداث بين روسيا والاتحاد الأوربي، يرى ان ما يجري هو مثال على الانهيار النهائي للنموذج السابق للعلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي، الذي تم تشكيله في أوائل التسعينيات ودخل في أزمة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه لم يتغير منذ ذلك الحين، واعتمد هذا النموذج على دفع روسيا إلى الالتزام بقيم ومعايير وقواعد الاتحاد الأوروبي، ووفقًا لهذا النموذج، لا يزال الاتحاد الأوروبي يسمح لنفسه بمطالبة روسيا باتخاذ إجراءات معينة في السياسة الداخلية، ويأسف رئيس الدبلوماسية الأوروبية، جوزيب بوريل، على القول بأن "روسيا لا تريد أن تكون ديمقراطية على النمط الغربي "، ونطلق على هذا سببًا لفرض عقوبات جديدة ومراجعة لسياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا ككل.

تصريحات الوزير لافروف ، جاءت هذه المرة لمهمة التكتيكية للضغط على دول أوروبا الغربية الكبيرة (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا)، التي تؤكد باستمرار على الحاجة إلى الحفاظ على الحوار مع روسيا، وتخويفها بقطع هذا الحوار وبالتالي تقليل العقوبات الجديدة، وأحدث مثال على ذلك هو تصريح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس حول عدم جواز قطع العلاقات مع روسيا، ومن المفترض أنه بعد كلمات سيرغي لافروف، سيكافح ماس لتقليل العقوبات الجديدة بشكل أكثر حسم، وكذلك يدخل انتقاد عضو البرلمان الأوروبي الايرلندية كلير دالي تعامل الاتحاد مع روسيا، معتبرة أنه يستخدم قضية نافالني لتأجيج المواجهة الجيوسياسية مع موسكو، خدمة للمجمع الصناعي العسكري، وأضافت: "أنا لست أقل من غيري اندفاعا واستعدادا للدفاع عن حقوق أي إنسان، بمن في ذلك نافالني.. لكن دعونا نتحدث بصراحة عنه.. إنه عنصري.. معارض شرس للهجرة.. لو افترضنا جدلا أن 4% من الروس يؤيدونه وتشهد المدن الروسية الكبرى مظاهرات بالمئات بل وبالآلاف لأنصاره، كل ذلك لا يعني أن تلك الحشود جماهيرية عارمة، ولو كان (نافالني) اعتقل ليس في روسيا، بل في أي دولة أخرى، لما كنتم ناقشتم أمره هنا بين هذه الجدران".

إذا، فان القضية هنا بحسب العديد من البرلمانيين الاوربيين ليست قضية حقوق إنسان، بل مواجهة جيوسياسية مع روسيا يؤججها المجمع الصناعي العسكري الذي يبحث دائما عن عدو كي يبرر" نفقاته الضخمة"، وان موسكو ترى في التهديدات الاوربية هو إن المسؤولين في بروكسل يلجؤون إلى العقوبات كل ما يواجهون حرص روسيا ودول ذات سيادة أخرى التام على حماية مصالحها المشروعة ومنع التدخل السافر في شؤونها وعدم الانجرار " وراء مهندسي النظام العالمي الغربيين"، وتشدد على أنه "من غير المقبول إطلاقا " استغلال حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية وجعلها أداة جيوسياسية.

الضربة الروسية الأولى، والتي لا تقل شأنا عن الضربة الثانية، كانت في زيارة جوزيب بوريل إلى موسكو الأسبوع الماضي، والتي كانت تعتزم مناقشة التقدم المحتمل في العلاقات مع روسيا، والطلب بإطلاق سراح (نافالني) ، اعتبرها الاوربيون بانها كانت بمثابة إذلال لهم وللدبلوماسية الأوروبية بأكملها، بعد أن أزاحت موسكو يد بروكسل الممدودة جانبًا وأظهرت مرة أخرى ازدراءها لأوروبا، وكانت المباراة بين رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف غير متكافئة، واهان الوزير لافروف وفق المنظور الأوربي، الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي، الذي كان ينوي مناقشة التقدم المحتمل في العلاقات مع روسيا، ليجعله مضطرا إلى انتقاد الحظر الأمريكي على كوبا، في حين أن موسكو، ودون إبلاغ المسئول الأوربي الزائر لموسكو، قامت بطرد الدبلوماسيين الأوروبيين من البلاد، وتجاهل المطالب الاوربية والحكم على " مريض برلين " بالسجن، لتؤكد من ان هذه الخطوة، لا تسلط الضوء فقط على سذاجة قيادة بروكسل تجاه الرئيس فلاديمير بوتين، لكنها تذكر أيضًا بالازدراء الذي يعامل به الكرملين أوروبا وممثلي مؤسساتها.

ووفقا للمراقبين الاوربيين فان نتيجة الزيارة، وضعت بوريل في موسكو في مكانه، وفي مكان الاتحاد الأوروبي ككل، وبشكل واضح وبشكل خاص - من خلال "تزامن عرضي" مع زيارته، فإن طرد ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين "لأنشطة غير متوافقة"، أو بالأحرى، للمشاركة في احتجاجات غير قانونية "سوف تتراكم"، مع تجاهل واضح لكل السخط والتهديدات الأوروبية في هذا الصدد، والسؤال ما إذا كانت روسيا والاتحاد الأوروبي سيتمكنان من تحسين علاقاتهما على المدى القصير هو سؤال مثير للجدل إلى حد ما، فقد قيل في بروكسل أكثر من مرة إن تحسين العلاقات يعتمد على تسوية النزاع في جنوب شرق أوكرانيا من خلال تنفيذ اتفاقيات مينسك (التي ترفضها كييف)، وإلى أن يتم تنفيذ اتفاقيات مينسك، لن يتم تطبيع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، اذن تصريحات الرئيس الروسي التي شدد فيها أن روسيا لن تتخلى عن دعم أهالي منطقة دونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، والتشديد على أنه "قبل اتخاذ أي قرار من الضروري التفكير في عواقب هذه الخطوة أو تلك"، قد تكون " الصفعة الثالثة " للاتحاد في غضون أسبوعين .

ومع ذلك، بالطبع، ستكون هناك عقوبات جديدة، والمزيد من تدهور التفاعل مع الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لا مفر منه، والمبنى، الذي تم تشييده في 1993-1994، عندما كانت روسيا والاتحاد الأوروبي يتفاوضان بشأن اتفاقية شراكة وتعاون (المادة 55 منها تفترض تقارب التشريعات الروسية مع تشريعات الاتحاد الأوروبي)، انهار ولا يمكن إنقاذه، وانه ليس من المنطقي وضع الدعامات ومحاولة الاحتفاظ بجدار واحد أو آخر، ويجب أن ينهار تماما، وفي نفس الوقت، فإن "الانقطاع التام"، أي الرفض الكامل لأي تفاعل مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، أمر مستحيل.

 

بقلم: الدكتور كريم المظفر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم