صحيفة المثقف

مراجعنا ورجال الكنيسة، صوت مسموع وأبواب مفتوحة

سليم الحسنيقبل الحرب العالمية الأولى كانت الدول الغربية الاستعمارية تعمل على تهيئة الأجواء في البلدان الإسلامية لتُسقطها فكرياً قبل أن تدخل جيوشها أراضي المسلمين. وكانت الإرساليات التبشيرية تقوم بدور واسع في هذا الخصوص ضمن تخطيط مخابراتي وبرامج سياسية عميقة.

وقد تنبه علماء ومراجع الشيعة الى خطورة هذا النشاط، فتصدوا له في وقت مبكر، ساعدهم على ذلك استعانتهم بالنخب الشيعية، والاستماع اليهم والتداول معهم في شؤون الساحة، فقد كانت أبواب المراجع ـ وحتى عهد قريب ـ مفتوحة بلا حاجب ولا حارس.

في عام ١٩١٤ أصدر الشيخ محمد جواد البلاغي كتاباً بعنوان: (رسالة التوحيد والتثليث) والكتاب كان جواباً على رسالة وصلته من سوريا من شخص لم يذكر اسمه، يناقش فيها التوحيد وعقيدة الإسلام في مقابل العقيدة المسيحية بطريقة وثائقية متقنة. تضمنت الرسالة العديد من النصوص من الكتب القديمة بما فيها العبرانية. ولم تكن الرسالة من شخص عادي، ولا حتى من رجل دين مسيحي واحد، فقد كان الجهد المبذول فيها احترافياً دقيقاً يشير الى انها من كتابة لجنة مختصة. ولعل هذا ما جعل أصحاب الرسالة لا يضعون عليها اسم المرسل ولا عنوانه.

كتب الشيخ البلاغي جوابه في مناقشة علمية مذهلة للرسالة. فقد بيّن الزيف والتحريف في نقل النصوص من مصادرها الأصلية، وأورد النصوص الصحيحة من العهدين القديم والجديد، فقد كان الشيخ ضليعاً في الأديان محيطاً بها، حتى أنه تعلّم العبرية والإنكليزية والفارسية لكي يقرأ النصوص القديمة من مصادرها الأولى. وهذا ما جعله يكشف الخدعة التي تضمنتها الرسالة، ويبين في مقدمة رده هذه الأسلوب المخادع.

استثمر الشيخ البلاغي مناقشته، لبيان الحقائق السياسية بطريقة واضحة مباشرة، يذكر فيها قسوة الدول الاستعمارية مع الشعوب المظلومة، فقد كتب مخاطباً صاحب الرسالة المجهول:

( وأما تمجيدك لشريعتك بأنها " عكفت عليها الأمم وتشرّفت بها الملوك" فقد سبقت الشريعةُ البوذيةُ في راحة اطلاقها بهذا الذي تزعمه مجداً، أيام كانت الهند الشرقية تباهي بتمدنها الغرب الوحشي) الصفحة ٤٤ من كتاب رسالة التوحيد والتثليث.

وفي مكان آخر يتطرق الشيخ البلاغي الى الجانب الاقتصادي والاهتمام الغربي بالمال، فينصح صاحب الرسالة بأن هذه النعمة يجب أن تكون مدعاة لطاعة الله وتطبيق أحكامه وليس للاعتداء والظلم. فقد كتب يقول:

 (أفلا ينبغي لك أن تتواضع لمن أنعم عليك بالثروة وتعظّم شعائره وتتبع شريعته؟ فانه لقادر على سلبها منك في طرفة عين) الصفحة ٨٥.

كان من وعي الشيخ البلاغي وحكمته وتقديره الدقيق للظروف السياسية وللحرب الفكرية، أنه لم يبق الرسالة في إطار ضيق، بل أنه قام بطباعتها ونشرها علناً. وهذا هو منهج مراجع وعلماء الشيعة، ففي مناسبات مثل هذه من المراسلات واللقاءات، لا يجعلون اللقاء مغلقاً، ولا المراسلة سرية، إنما يُطلعون عليها الرأي العام، فليس لديهم ما يخفونه. كما أن كلامهم وأجوبتهم وحواراتهم تجلي الحقيقة وتكشفها، وتعلّم الشيعة وتقوّيهم، فلا يكتم حديثه ويتستر عليه في هذه الموارد إلا الخائف الضعيف. وقد قال الإمام علي عليه السلام: (ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب).

نحتاج الى استعادة مواقف مراجعنا وعلمائنا الكبار مع رجال الدين المسيحيين لنعرف كيف كانوا يتصرفون، وكيف كانوا يطرحون أفكارهم بقوة وصلابة مستمدة من قوة الإسلام وحقوق المسلمين، فهذه هي رسالة الحوار بين ممثلي الأديان، وليس المجاملات والأحاديث السرية المغلقة.

بعد أيام سيحل بابا الفاتيكان ضيفاً على النجف الأشرف ويلتقي مرجع الشيعة الأعلى السيد علي السيستاني. ومع الاهتمام العالمي بهذا اللقاء فان المتوقع أن تبادر الجهات المسؤولة في مكتب المرجعية ومكاتب المراجع الآخرين وأساتذة الحوزة والمهتمين الى تغطية مباشرة لوقائع اللقاء بالصوت والصورة ليكون صوت الشيعة عالياً مسموعاً في كل العالم. فمن حق كل شيعي أن يفتخر بما سيقوله مرجعه الأعلى عملاً بسيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام في جلساتهم الحوارية مع أهل الكتاب ومع غيرهم من أصحاب الاتجاهات الفكرية والعقائدية، وهو ما سار عليه مراجع الشيعة عبر الزمن، كانوا أصحاب كلمة مسموعة في العلن، ولم يغلقوا باباً أو يكتموا حواراً مع القادمين اليهم من رجال دين وسياسة.

 

سليم الحسني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم