صحيفة المثقف

شيوخ العشائر.. والتملق للحاكم

قاسم حسين صالحيحدثنا التاريخ ان الانكليز هم الذين أدخلوا شيوخ العشائر ميدان السياسة. ففي التقرير الذي رفعته (المس بيل) إلى لندن عام 1923، اوضحت أن أصلح طبقة لحكم العراق هم شيوخ العشائر، فأشركوهم  في المجالس النيابية المتعاقبة بعدد كبير زاد على ثلث أعضائها، وصاروا أصحاب ثراء وجاه واعتبار اجتماعي وسلطة يستعان بها في إدارة البلاد وضرب المعارضة السياسية.

وكانت (المس بيل) اول من درس شخصية رؤساء العشائر العراقية..علميا وعمليا.كانت تتعشى معهم في مضائفهم واحصت عنهم كل صغيرة وكبيرة بما فيها عدد الزوجات والخيول والمواشي...التي يمتلكها كل واحد، فضلا عن قيمهم وعاداتهم.وكان هذا العقل البريطاني الاستخباراتي الذي امتاز بالذكاء والدهاء يرفع تقاريره الى الحكومة البريطانية فتوافق عليها مع الامتنان.

ومع أن العشائر العراقية قامت بثورات وتمردات ضد سلطات الحكم العثماني، إلا أن أبرز دور لها هو اشتراكها بثورة العشرين، إلى جانب رجال الدين الذين رفعوا شعار (إخراج الكافر الأجنبي من البلاد) بوجه القوات البريطانية التي دخلت العراق عام 1917.ويحسب لها أنها أسهمت من خلالها بتعميق الحس الوطني ومناهضة السيطرة الأجنبية، وإضعاف الروح الطائفية التي جعلت بغداد ساحة احتراب طائفي في فترة الحكم العثماني.

والواقع إن عشائر وسط وجنوب العراق تختلف عن عشائر المنطقة الغربية، في أن الأولى تتحكم بها قيم المرجعية الدينية فيما تتحكم القيم البدوية في الثانية.غير أن كلا الفريقين تجمعهما "العصبية القبلية" بوصفها الوسيلة التي تلزم الجميع بحماية كيان العشيرة لقاء تأمين حاجة أفرادها الى الشعور بالأمان، التي تجسدت عام 2003.فحين سقطت الدولة وتعطّل القانون، برزت لدى الفرد العراقي سيكولوجيا الحاجة إلى "الاحتماء" فكانت العشيرة هي ملاذه الأول.

والتاريخ يحدثنا ايضا أن شيوخ العشائر يقفون مع الأقوى.ففي التقرير الذي أعدته دائرة الاستخبارات البريطانية في العراق عن مشايخ ولاية بغداد سنة 1917، يذكر مترجمه عبد الجليل الطاهر أن بعض شيوخ العشائر كانوا متعاونين مع الإنكليز، وأنهم كانوا يحصلون منهم على الرشوات، وأن الإنكليز استعملوا أساليب الإغراء وتلويث الضمائر واستطاعوا شراء ذمم بعض شيوخ العشائر.

والمفارقة ان الدكتاتور صدام حسين والطائفيين (الديمقراطيين) اعتمدوا نفس الاسلوب الانكليزي.فلقد شجع النظام السابق على استيطان عشيرة الجنابيين في الشريط الواقع جنوب بغداد لتكون حائلا بين بغداد والمدن الشيعية.ويذكر علي عبد الأمير علاّوي بكتابه (احتلال العراق) أن رؤساء الأفخاذ العشائرية الجنابية منحوا أراض زراعية خصبة في اللطيفية واليوسفية والمحمودية..التي صارت تعرف فيما بعد بـ"مثلث الموت".

وعمد صدام إلى تشكيل (شيوخ أم المعارك)..كثيرون منهم رؤساء عشائر شيعية اشترى ذممهم بدفع هدايا مالية ومسدسات وامتيازات، لقاء قيامهم بالسيطرة على أفراد عشائرهم وأن يكونوا عيونا للسلطة.واستجاب عدد منهم طمعا بـ(التكريم)أو دفعا لشرّ طاغية لا يرحم.والشيء نفسه قام به الطائفيون، إذ التقى رئيس الوزراء السابق (نوري المالكي) بعدد من الشيوخ بقصد كسب أصوات أتباعهم في الانتخابات وتأييدهم لشخصه.ويذكر لي احد شيوخ الناصرية انه قبيل انتخابات 2010 زاره ممثلان عن حزبين شيعيين في السلطة طلبا منه أن يمنحاه أصوات أفراد عشيرته، ولأنه لا يريد أن "يزّعل "احدهما فإنه أخبرهما بأنه سيجعل أصوات جماعته مناصفة بينهما!

ولأول مرّة في تاريخ الحكومات العراقية يكون سوء إدارة الحكومة لشؤون الناس والبلاد سببا في بعث الروح الوطنية وخفض العداء الطائفي بين شيوخ عشائر في الطائفتين السنّية والشيعية.فبعد اندلاع التظاهرات في الأنبار بالأسبوع الأخير من عام 2012، وظهور شيوخ عشائر سنّية تشكو ظلم الحكومة وتؤيد مطالب جماهير انتظمت في تظاهرات عفوية سخر منها رئيسها بوصفها (فقاعات)، عُقد في البصرة مجلس ضم شيوخ عشائر بأغلبية شيعية، أعلنوا فيه تضامنهم مع المطالب الشرعية للمتظاهرين في المدن ذات الأغلبية السنية.وفي اليوم نفسه أقام شيوخ عشائر مجلس عزاء بمدينة النجف لشيخ عشائر الجبور (محمد طاهر العبد ربه) الذي اغتيل في الموصل وعدّوه رمزاً من الرموز الوطنية.

بالمقابل، نظمت وزارة الداخلية باليوم نفسه مؤتمرا موسعا لرؤساء عشائرمن الطائفتين.ومع انه دعا إلى تشكيل لجنة من رؤساء العشائر لتوحيد مطالب المتظاهرين، إلا أن الهدف الرئيس له هو خطب ودّ شيوخ عشائر ليكونوا مع الحكومة..التي قامت بتوزيع (استمارات خاصة بحيازة وحمل السلاح لأكثـر من (150) من شيوخ العشائر بينهم زعماء قبليون من الأنبار، ودعتهم إلى التدخل لوقف التظاهرات.وهذا حال كل الحكومات العراقية..إنها تستميل إليها شيوخ العشائر حين تشعر بخطر يتهددها، وتجزل العطاء لمن يتعاون معها، وإن عددا من الشيوخ يستجيبون حتى لو كانوا يعلمون أن الحكومة على باطل.

ان قراءتنا السيكولوجية التاريخية تكشف عن صفة ثابتة في شخصية شيخ العشيرة، هي أن الحمية على وطنه لا تأخذه قدر ما تأخذه الغيرة على الشرف، بمعنى أنه يغلّب قيمه العصبية ومصالح عشيرته على مصلحة الوطن، وانها ميالة إلى التباهي بما تملك من ثروة وخيول وأبقار وأغنام..ونساء!.وقد توفرت الفرصة لعدد من الشيوخ أن يجمعوا بين رئاسة العشيرة والعمل كرجال أعمال،  اذ يذكر علي علاوي بكتابه(احتلال العراق) أن بعض رؤساء العشائر اندفعوا للتعاون مع سلطة الائتلاف الموقتة لأسباب مالية صرف.

الحدث الأكبر الذي حسم موقف شيوخ العشائر هو انتفاضة تشرين 2019 ، اذ فرزتهم الى فريقين، كثرة وقفت الى جانب المتظاهرين، وأقلية مع قيادات أحزاب السلطة.وكان الحدث الذي كشف حقيقة شيوخ العشائر هو انتكاسة انتفاضة تشرين وواقعها في 2021 بعد ان تم استهداف رموزها ونشطاء فيها بالقتل او الأختطاف من قبل ميليشيات وعصابات ومرتزقة تابعة لأحزاب السلطة. فمن غرائب ما حصل أن شيوخ عشائر كانوا في 2019 الى جانب المتظاهرين المطالبين ب(استعادة وطن ) انحازوا في 2021 الى قادة احزاب يعرفون انهم فاسدين وفاشلين سياسيا وأخذوا يتملقون لهم..والتملق يعني التودد والتلطف باظهار في اللسان ما ليس في القلب..مع انه يفترض في شيوخ عشائر الوسط والجنوب ان يلتزموا بموقف المرجعية الموقرة التي بح صوتها من نصح حكّام شيعة فاسدين.

ان ما حصل يجعلنا نستنتج بان ازدواجية مواقف جمع كبير من شيوخ العشائر تبقى يحكمها عامل التملق بالتودد للسلطة للحصول على منافع وسلطة وجاه، وان العصبية القبلية تبقى تتحكم بهم وتكون هي الأقوى في أوقات الأزمات..ومع ذلك فان بينهم جمعا اكبر يبقون اصلاء (ينحطون عالراس) لأنهم ظلوا بعيدين عن سلطة اثبتت احداث (18)سنة انها فاشلة سياسيا،  ويدركون ان شيخ العشيرة يسقط في نظر ابناء عشيرته ان تملق لحاكم فاشل وفاسد.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم