صحيفة المثقف

إلى أين تذهبين يا عايدة؟

2228 ياسميلابوسنيون مسلمون يستجيرون من الرمضاء بالنار!

ما تزال المخرجة البوسنية ياسميلا زبانيتش منغمسة بثيمات حرب البوسنة والهرسك التي انطلقت في مارس 1992 واستمرت حتى نوفمبر 1995. ففي عام 2006 أنجزت فيلم "غربافيكا: أرض أحلامي" Grbavica الذي تتمحور فكرته الرئيسة على قيام جندي صربي باغتصاب  "إسما" البوسنية التي أنجبت "سارة" وأثقلتها بسؤال البحث عن هُوية الأب، ودوره في مقارعة الجيش الصربي الذي ارتكب أبشع المجازر بحق الشعب البوسني لأسباب عِرقية ودينية، فنسبة المسلمين تشكّل أكثر من 50% من عدد السكّان في البوسنة والهرسك.

وعلى الرغم من خطورة تناول هذه الموضوعات الحسّاسة في السينما البوسنية إلاّ أنّ زبانيتش قد ذهبت في هذه المغامرة إلى أقصاها حيث أنجزت فيلم "على الطريق" عام 2010 وهو يدور حول الحرب البوسنية أيضًا وتداعياتها الإسلاموية، ثم وضعت اللمسات الأخيرة على فيلم "الرجال لا يبكون" عام 2017 وهو يتحدث عن مجموعة من المحاربين اليوغسلافيين القدامى الذين يخضعون لجلسة علاجية طويلة. أمّا فيلمها الأخير "إلى أين تذهبين يا عايدة؟" فقد قالت فيه كل ما تريده تقريبًا، خصوصًا وأنها هي التي كتبت سيناريو هذا الفيلم الدرامي الحربي المطعّم بنكهة تاريخية ليست بعيدة عن الزمن الذي نعيشه الآن.

لا بد من الإشارة إلى أنّ زبانيتش قد اعتمدت على كتاب "الملاذ الأخير: قصة حقيقية للحرب والبقاء والحياة تحت الحصار في سربرنيتسا" للمترجِم والناشط حسن نوهانوفيتش لكنها تصرّفت في مادته التوثيقية وأخذت منها ما يناسب رؤيتها الإخراجية، ويعزّز نزعتها الفنية والجمالية في تقديم خطاباتها البَصَرية المحاذية للواقع دون التفريط بتموجات الخيال الذي يكتشف طريقه إلى ترصيع الحقائق الدامغة بالألوان القزحية الآسرة.

لا تقوم حبكة الفيلم على قصة معقّدة لأن مسارها السردي المستقيم يكاد يكون مباشرًا إلاّ من بعض الاستعادات الذهنية مثل مسابقة أحلى تصفيفة شعر، وصوت أحد الابنين وهو ينادي على أمه، وما عدا ذلك فأحداث الفيلم تسير بوتيرة متصاعدة، وإيقاع متسارع يكشف عن الانفلات، والهيجان النفسي الذي تعيشه الأم عايدة سلماناجيتش التي جسّدت دورها بإتقان شديد الفنانة الصربية المعروفة "ياسنا دوريسيتش" وحازت عنه جائزة أفضل ممثلة في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي.

2228 ياسميلا 2

مذبح فسيح الأطراف

تنطلق قصة الفيلم زمنيًا في 11 يوليو 1995 وتضعنا المُخرجة في أجواء الحرب الدامية إذ تحولت سربرنيتسا إلى "مذبح فسيح الأطراف" حيث تسقط على البلدة ثلاث قذائف في كل ثانية سببت في قتل وإصابة العديد من السكّان المدنيين بينما العالم غارق في صمته. تستهل زبانيتش فيلمها الدرامي بلقاء عقيم يجمع بين الكولونيل الهولندي توم كاريمانز، آمر القاعدة العسكرية وعُمدة البلدة الذي يسأله عن الإجراءات التي يتخذها بوصفه آمرًا للقاعدة العسكرية التي أعلنت عن سربرنيتسا "منطقة أممية آمنة تحت رعاية الأمم المتحدة". فيرد عليه:"نحن نفعل كل ما نستطيع فعله. لقد تمّ إخطارهم بإنذار رسمي، ولديهم متسع من الوقت حتى السادسة صباحًا، وإذا فشلوا في تطبيق ذلك ستقوم طائرات الناتو التي يتراوح عددها بين 40 و 70 طائرة بالهجوم على جميع مواقعهم، ومَحْوهم من الوجود". وبما أنّ العُمدة قد إعتاد على مثل هذه التطمينات المخدِّرة فإنه يحمّله المسؤولية كاملة إذا لم تتم مهاجمة مواقع القوّات الصربية عندها يعترف بالفم الملآن بأنه "مُجرّد عازف بيانو" وليس أكثر من رسول بين الطرفَين المتنازعَين، فلاغرابة أن يسقط العُمدة في دائرة الانفعال ويصفعه بعبارة "تبًا لكَ وللبيانو القذر الخاص بكَ" الأمر الذي يدفع الكولونيل لإنهاء الاجتماع وترك العُمدة لكي يواجه مصيره على أيدي الجنود الصرب الذي اجتاحوا المدينة وبدأ الناس المذعورين يتدفقون على القاعدة العسكرية بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ فيها.

قبل أن تجتاح القوّاتُ الصربية البلدةَ يُصاب الناس بالفزع فيهربون إلى القاعدة العسكرية التي لا تتسع لأكثر من خمسة آلاف مواطن بينما يُخيّم 25 ألف مواطن خارج أسيجتها مرعوبين من تقدّم الدبابات الصربية، وقصف مدفعيتهم الثقيلة وبينهم أفراد أسرة المعلِّمة والمترجمة عايدة وهم زوجها نهاد، وابنيها حمديا وسييو ولابد من إدخالهم إلى القاعدة لحمايتهم من تهوّر الجنود الصربيين، ومعاملتهم الوحشية للسكّان المدنيين.

على الرغم من أنّ الجميع كانوا خائفين ومذعورين إلاّ أن عايدة هي الأكثر خشية وتوترًا وانفعالاً وقد نجحت السينارست زبانيتش في نحت هذه الشخصية القلقة والمأزومة والمتشنِّجة على مدار الفيلم تقريبًا، وقد انتقل إلينا هذا التوتر منذ بدء الاجتياح الصربي للبلدة ورافقنا حتى الانعطافة الأخيرة من القصة السينمائية الواقعية الموشّاة بلمسات قليلة من الخيال.

الذهاب إلى المجهول

2228 ياسميلا 4إذا كان الاجتماع الأول للكولونيل كاريمانز مع العُمدة قد أفضى إلى اليأس والإحباط فإن اجتماعه الثاني بالجنرال راتكو ملاديتش قد أشعرَ المفاوضين في الأقل بالعبث والذهاب إلى المجهول، إذ سلّمهُ القِياد، وخضع لمشيئته الكاملة حينما سمح للقوات الصربية بدخول القاعدة بحجة التفتيش عن الجنود البوسنيين المسلمين الذين كانوا يقاومونهم قبل دخول البلدة. وكان القائد يوكا يستجوب المدنيين، ويسألهم بطريقة استفزازية عن بدلاتهم العسكرية، وعدد الجنود الصربيين الذين قتلوهم خلال سنوات المعركة. كان الجنرال ملاديتش يهين المفاوضين البوسنيين، ويسألهم عن ميولهم وانتماءاتهم السياسية التي كانوا يتفادون ذكرها، ويركزّون على وظائفهم المدنية التي تجمع بين الإدارة والاقتصاد والمحاسبة وتدريس التاريخ. كما اتفقوا على وضع خطة لإخلاء المدنيين من سربرنيتسا Srebrenica بواسطة الحافلات إلى مدينة كلادني Cladnij حيث ينعمون بالأمن والسلام على أن يزوّدهم الجنرال ملاديتش بالوقود اللازم، بينما تؤمِّن الأمم المتحدة حافلات كبيرة يرافقها عدد من جنود القاعدة كي يتأكدوا من سلامة وصولهم إلى الملاذ الآمن.

وعلى العكس من يوكا الذي كان يروّع الناس في القاعدة العسكرية فقد أبدى الجنرال ملاديتش وجهه الماكر للنساء البوسنيات، وظهر أمامهن كحمامة سلام في منتهى الوداعة مُصححًا "الصورة النمطية الخاطئة التي استقرت في أذهانهن"، بل أنه دعا إلى نسيان سنوات الحرب، والكف عن الاقتتال، والعيش بسلام. كما تمنّى للأطفال حياة سعيدة لا تؤرقها النزاعات والحروب العرقية والدينية، ودعا إلى نقل النساء والأطفال أولاً كي "لا يضيع أي طفل من أطفال البلدة"، ثم يعقبهم الرجال الذين سيصلون إلى المدينة ذاتها بعد مدة قصيرة. 

تُدين ثيمة الفيلم الرئيسة الحرب في كل مكان لكنها تلوم الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة التي تواطأت مع القوات الصربية ولم تحرّك ساكنًا، ففي الوقت الذي كان فيه الجنرال ملاديتش يطمئن بالنسوة والأطفال كانت مجوعات من الـ "تشيتينك" Chetniks تقتاد الرجال البوسنيين وتعدمهم بدم بارد على مبعدة 200 م من القاعدة دون أن تحرّك القوات الأممية ساكنًا، وحينما كان الكولونيل كاريمانز يطالب بشنّ الغارات الجوية من قِبل طائرات الناتو كان يأتيه الرد اللامعقول بأن المسؤولين في الأمم المتحدة يتمتعون بإجازاتهم السنوية بينما كان الرجال والنساء والأطفال يموتون بالمئات يوميًا حتى تجاوز العدد ثمانية آلاف بوسني مسلم أزهقت أرواحهم لا لشيء إلاّ لأنهم مسلمون ويؤمنون بعقيدة دينية مغايرة لهم.

2228 ياسميلا 3

إبادة جماعة مروّعة

تتلاشى الحافلات المحمّلة بالنساء والأطفال، بينما تتجه العجلات المعبأة بالرجال والشباب القادرين على حمل السلاح حيث يتكدسون في صالة بناية كبيرة تتوسطها شاشة سينمائية كأنها ستعرض عليهم فيلمًا لكنهم ما إن يؤمروا بوضع أيديهم على رؤوسهم المطأطأة حتى تُصوّب فوّهات البنادق من النوافذ العلوية وتُفتح النيران الكثيفة التي لا تُبقي ولا تذر فنعرف عندها أن جميع الرجال والشباب اليافعين قد لاقوا مصرعهم في إبادة جماعية مروّعة هي الأكثر وحشية في النصف الثاني من القرن العشرين.

في فصل الشتاء القارس تأتي عايدة إلى سربرنيتسا لتزور بيتها الذي صادرته القوات الصربية وتسأل عن حقيبة الصور العائلية، وتجد بعضًا منها. وفي أثناء نزولها على السلّم ترى الجلاد ياكو فتتذكر أفعاله المشينة في القاعدة العسكرية التي يفتش فيها عن جنود بوسنيين مسلمين كي يكتم أنفاسهم قبل بدء عمليات الإبادة المُخطط لها سلفًا.

لم تعثر عايدة على رفات زوجها وابنيها في المقابر الجماعية التي ضمّت الآلاف من الضحايا لكنها تدخل في قاعة كبيرة فيها بقايا عظام متآكلة، وملابس ممزقة، وأحذية تالفة صمدت طوال سنوات، تقف أمام بقايا رفات، وتمسك بحذاء رياضي لعله يذكّرها بحذاء زوجها أو ابنها قبل أن تنهار، وتنخرط في النشيج.

2228 ياسميلا 5

تعود للتدريس، وتقف أمام تلاميذها الصغار وهم يؤدّون بعض الحركات التمثيلية التي تتحوّل فيها أياديهم الصغيرة البضّة إلى أجنحة طيور تغطي العيون، وتنزاح عنها وهم جميعًا يحدقون إلى آبائهم وأمهاتهم بينما كانت عينا عايدة تتجمّد على وجه الجلاد الذي قتل أسرتها، واحتلّ منزلها بما فيه من أصداء وذكريات سوف تظل حيّة نابضة طالما بقيت هي على قيد الحياة.

بقي أن نقول بأنّ ياسميلا زبانيتش قد أنجزت حتى الآن 14 فيلمًا نذكر منها "سيرة ذاتية"، "من أجل أولئك الذين لا يستطيعون أن يروو حكاياتهم"، "الأحذية المطاطية الحمراء"، "هل تتذكر سراييفو؟"، "عيد ميلاد"، "على الطريق"، "جزيرة الحُب" وما سواها من أفلام روائية ووثائقية وقصيرة. حازت زبانيتش خلال مشوارها الفني على العديد من الجوائز المهمة أبرزها جائزة الدُب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 2006 عن فيلم "غابرافيكا"، وجائزة أفضل فيلم عالمي في مهرجان غوتنبيرغ السينمائي عن شريطها المعنون "إلى أين تذهبين يا عايدة؟" عام 2021.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم