صحيفة المثقف

المثلية الجنسية عند النساء في الرواية العربية المعاصرة

صالح الرزوقبقلم: جولاندا غواردي

ترجمة: صالح الرزوق

 امنح غير المسى اسما ليمكنك التفكير به (أودري لوردي)


نشرت، في السنوات الراهنة، نشرت عدة روايات باللغة العربية، وكان موضوعها الرئيسي المثلية الجنسية عند الأنثى. ومن الواضح أن هذا طارئ جديد لأنه حتى هذه اللحظة كانت الشخصية المثلية جنسيا حاضرة، ولكن في مجال الذكور. والحقيقة، بينما كنت أكتب هذه الدراسة المخصصة لإضافتها إلى كتاب موجز حول هذا الموضوع في الأدب العربي ظهر عام 2012 (جولاندا غواردي وآنا فانزان، 2012)، لاحظت صمتا تحريميا امتد لعدة قرون فرض السكوت على موضوع المثلية النسوية (1)، وهو كما أرى، يستحق أن نسميه “الخطيئة الصامتة”، بمعنى أنه فاحش جدا ولا يمكن حتى الإشارة له أو ذكره.

بالمقارنة لاحظت أن هذا الصمت، من جهة أخرى، قد كسب بعض المتابعات الكلاسيكية، المدونة بشكل أساسي بيد ذكور تعاملوا عموما مع المشكلة بسخرية (على سبيل المثال أذكر: اليماني 2006، التيفازي 1992). وكما قالت سهر عامر:” الكتابات التي لم تلحق بها يد التغييب و الفناء ركزت على الرجال أكثر من النساء، واستمرت بأجزاء كبيرة منها ذات اتجاه مركزي قضيبي وفي النهاية عكست وجهة نظر ذكورية” (سحر عامر، 2009: 221).

وما افتقدته أكثر من سواه هو الخطاب الذي يفترض قراءة تضع بحسبانها مفهومات الجندر والطبقة وتحاول أن “تكسر” و“تلفظ” لا أن تنتقد أو تمثل (كاتي كينغ 1994: 97).

وأعتقد أن كلا من الطبقة والجندر هما متقاطعان بالتساوي وباستمرار، وبناء الجندر له وظيفة خطاب للسلطة ويفترض طبقية جندرية تعمل وتستجيب للتقسيم الثنائي الجنساني التغايري في المجتمع. وإن الكلام عن شبكة من العلاقات ضمن سياق محدد أمر بالغ الأهمية حاليا، لنخفف من احتكار الثقافة العربية التي تنشط في الغرب وتعيد تعريف دور المرأة في بلادنا. فما يسمى “الانحراف الجنسي” (الشذوذ) لم يرد ذكره في الصحافة العربية إلا بعد الثورات العربية ووفق اتجاه نسائي تقليدي يخضع للاستراتيجية السياسية القمعية (جولاندا غورادي 2012).

 ولذلك إن ما أنوي القيام به هو دراسة ما إذا كانت العلاقة بين المرأة والمرأة تُسن من خلال جسدها، وفي إطار نظام يتصور الجنس بصور واضحة ودقيقة، مع مراعاة أن الجسم الذي لا يتفق مع المعيار البطريركي لنظام المغايرة هو جسم دوني من الناحية السياسية، بتعبير جوديث بطلر (1993). وللقيام بذلك، كان هدفي هو تحليل بعض الروايات الحديثة المكتوبة باللغة العربية والتي تتبنى وجهات نظر إيجابية، وذلك للبحث عن ما “تقوله حقيقة”، وإذا كانت تقدم فعلا ذاتا فعالة. وسأحقق ذلك من خلال قراءة ما هو مكتوب في هذه الروايات وما هو غير مكتوب. وفي الواقع ليس هناك تقسيم ثنائي لعزل ما نقوله عما لا نقوله، ويجب علينا أن نحاول تحديد طرق مختلفة لعدم قول مثل هذه الأشياء [...]. وليس هناك صمت واحد بل عدة أشكال من الصمت، وهي جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات التي تكمن أو تتغلغل وراء أو في الخطاب (ميشيل فوكو 1978:1 - 27).

دعونا نبدأ بافتراض فرانتز فانون المقتبس من بو نوار “أقنعة بيض” ومفاده: "في النهاية الكلام موجود من أجل التواصل مع الآخر" (فرانز فانون 1971: 36). السؤال الآن: إذا “الكلام “موجود، وبسياق إيجابي، كيف يكون حال “أنا” المثلي جنسيا في الرواية العربية المعاصرة. بهذه الطريقة سأنظر لما تسميه تشيلا ساندوفال "شبكات السلطة" (شيلا ساندوفال 2000) والتي في حال ظهورها تبدل قانون “تيار الذكورة” مع بعض الانكسارات في شكل الحيود (K. King 1994: 91). كما ذكرت أعلاه، معظم الذين تناولوا المثلية النسائية هم من الرجال، وغالبا للسخرية و/ أو بغاية التسلية والترفيه (دون أي جدية بالطرح والمتابعة). وإذا كان هذا صحيحاً بشكل خاص في العصر الكلاسيكي - الذي اتصف بوفرة في النتاج الأدبي - أصبح الموضوع بمرور الوقت خاضعاً للرقابة على نحو متزايد. بعض الإشارات كانت حافلة بالأوهام، ولم يُذكر السحاق إلا عند الاقتراب من موضوعات الشريعة الإسلامية. لكن في الرواية المعاصرة نحن نشهد تغييرا جذريا. فالموضوع دخل إلى الأدب بشكل شخصيات حقيقية سواء في روايات كتبتها أناث أو كتبها ذكور. وهذا تغيير راديكالي لأنه لا يرسم لنا فقط شخصيات لديها حضور واسع في محيطها الاجتماعي وهي - على الأقل من ناحية سلوكها - مثلية علناً، ولكن أيضاً لأنها في بعض الحالات، تشكك في هويتها الجنسية. هذه الروايات تقدم لنا أبطالا وبطلات مثليين / مثليات وتخاطب قارئا مثليا أيضا. وتسبب ذلك بصدع ولو أنه صغير في النظام المرعي الأساسي. وعلى الرغم من أن هذا الإنتاج الأدبي موجود على الحدود فهو يكسر بطريقة من الطرق تماسك النظام الظاهري الذي يدفع المهتمين بالبحث والتنقيب في الأدب العربي لإعادة النظر بالظاهرة الأدبية وتعريفها وتبديل طريقة مقاربة الموضوعات المدروسة، حتى لو أن تبدل وتطور النوع الأدبي الجديد لم يكتمل. وإذا كانت التصورات المثلية قبل عدة سنوات منكرة في الأدب أو أنها مقروءة كرمز من رموز الإفراط بالعنف الذي ترتكبه السلطات (جمال الغيطاني 1989، نجيب محفوظ 1995) فهذا دليل على نفي ذات الموضوع. ولكن في النماذج الأخيرة أصبح المثليون أبطالا أو موضوعا أدبيا، واحتلوا أرض الحدث، وتحولوا إلى واقع ملموس (جوديت بطلر 1997). وعليه، أن يكون الإنسان مطلعا على هذا النشاط الأدبي، وما ترتب عليه من مقاربات نقدية - ويمكن أن أقول إن الدراسة البسيطة يمكن اعتبارها، ولهذا السبب تحديدا، عملا لاحقا - يساهم بصناعة وإنتاج الواقع. علاوة على ذلك كان الأدب العربي، حتى الوقت الحاضر، ولهذا اليوم، معرضا للرقابة السياسية بواسطة أدباء ونقاد من بين الذكور والإناث.

مثل هذه الإدانة، التي تحدد المسكوت عنه، تعرفه أيضا، وبهذه الطريقة تنتج “كلمات”، أي خطابا. وبهذا المعنى تسبق الرقابة النص، كما تقول جوديت بطلر، وتصبح بطريقة ما مسؤولة عن إنتاجه (جوديت بطلر 1997: 191). إن ميكانيزم الرقابة ينطلق من الذات ولكنها أيضا تهتم بتعريف معيار يؤسس لما هو مقبول وما هو غير مقبول في خطاب محدد. والهدف هو تشكيل نطاق، تصبح فيه الرقابة أداة لدعم خطاب السلطة. ولذلك هدفي هو أن أشاهد الواقع الذي نستنتجه بعد قراءة الروايات، واضعة بعين الاعتبار دور الرقابة والرقابة الذاتية. وهذه العملية تتضمن على الأقل ثلاثة أنواع من الخطاب: الأول له علاقة بالكاتبات الإناث، الثاني يتعامل معنا كباحثات، والثالث يتضمن عمل الترجمة. ومن الواضح مما قلت إن الخطاب الذي أعنيه له علاقة بالسلطة وهو خطاب سياسي، سواء أعجبنا ذلك أو لم يعجبنا. والبحث، الذي نقوم به، هو عمل سياسي، مثل عمل الكتابة نفسها. وهذا يعني أنني أفكر بنمط الكتابة وبالجوانب الملحة التي يعرفها خطاب الأدب العربي الأكاديمي في ظاهرة التغاير وينظر لها على أنها “نقدية”، وهي عمليا تعارض ما أكتب عنه. ما يسمى اللغة “النقدية”، في الحقيقة، يضعني جزئيا في الأشكال البطريركية السائدة لمعنى السيادة. أما البحث عن مسائل واقعية غيرها فيتطلب البحث عن نمط كتابة بمشاركة الشعب وليس عن الشعب (سفيتلا جميركوفا 2007). وكما يقول غسان حاج:”يصعب تخيل نمط معرفة علمية لا تشارك بمنطق الاستئناس. وهذه المعرفة يمكن على الأقل التحكم بها من خلال الرغبة بالكشف ونزع الحجاب” (غسان حاج 2013).

وعليه أعتقد جازمة أنه لا يوجد خطاب عن الجندر يمكن تحليله في الأدب مع الإحالة فقط للجانب الفيلولوجي أو التاريخي أو الوصفي لعمل محدد. وكما تقول إيف كوسوفسكي سيجدويك:”على نحو أوضح أصبحت لغة الجنسانية لا تتقاطع فقط، ولكن تحول، اللغات الأخرى والعلاقات التي نعرفها بها (1990 : 2 - 3). وبما أنني أتكلم عن الأدب، هناك موضوع هام آخر مرتبط به وهو اللغة: أن تضع نفسك (ككاتب وباحث) خارج الظاهرة الألسنية يعني أن تكون غير - ذات، ولهذا السبب من المهم للروائيين العرب أن يكتبوا باللغة العربية (2). في هذه النقطة، يمكن أن تختار الصمت كفضاء محتمل للمقاومة - وهذا موضوع لا زال بحاجة للدراسة - وهو الامتناع عن الاختيار بين ما يمكن قوله وما “لا يقال”. والبديل الآخر يكون بخلق سيادة شخصية في فضاء الكتابة، أن تبقى ضمن قانون التيار الأساسي والرقابة المستمرة، ولكن أن تخلق بنفس الوقت فضاء للنقد يعبر به الإنسان عن أفكاره. وهذا ما أحاول أن أبينه، من خلال قراءة الروايات التالية المكتوبة بالعربية: (رائحة القرفة) للكاتبة السورية سمر يزبك 2008، (ملامح) للكاتبة السعودية زينب حنفي 2006، (الآخرون) لصبا الحرز 2006، وهي أيضا من أصول سعودية، و(أنا هي أنت) للبنانية أحلام منصور 2000 (3).

السلطة تستعمل اللغة، وهي ذات طبيعة متغايرة، والأسئلة التي أود أن أجيب عنها هي: هل هذه الروايات تشكل تحديا لبطريركية اللغة المتغايرة؟. هل يوجد فضاء للسيادة داخل القانون؟ وسأثبت رغم وجود عدة ظلال أن هذه الروايات تستمر داخل سيناريو ثنائي، وهذا لا يمثل تحديا لجذور التغاير.

نشرت(رائحة القرفة) للكاتبة السورية سمر يزبك عام 2008. وحققت الرواية نجاحت كبيرا وتلقت ثناء في مقالات متعددة. وهي متابعة لعلاقة دونية بين امرأة وخادمتها السوداء، وتركز على الفروقات الطبقية. والعلاقة المثلية كانت تأخذ شكل ملجأ، أو بديل، من جهة للزواج غير المقنع، ومن جهة مقابلة لطروف طبقة متبدلة. وهذا يمنع الخادمة من رفض مقاربة سيدتها. وهذه السيدة، منذ أول الأمر، كانت تبحث عن ملجأ من حياتها البورجوازية المضجرة. وقد كانت عليا، الخادمة، مستغلة جنسيا من قبل مخدوميها، الزوج والزوجة. وعموما في حين أن العلاقة بالرجل تختصر ببساطة إلى عمل جنسي، كانت علاقة المرأتين تتطور لشيء آخر، ومن خلال ما تبقى من بدائل لظرف الإرغام.

تفتح حنان عينيها وتتلمس بطنها الذي لم ينجب وريثا للعائلة. البطن الذي كانت تلعب فوقه عليا بأصابعها وشفتيها قبل ساعات. تتذكرها الآن وهي ممدة على سريرها، تحاول معرفة من كانت عليا، ومن كانت هي؟. تتسرب رائحة القرفة ثانية، فتغرق في نوبة جديدة من الحزن، وتغمض عينيها وتكور يديها حول صدرها. تحدق في النافذة، فترى عليا نقطة صغيرة تتضاءل. (سمر يزبك 2008: 71 - 72، 2012 : 621).

ويبدو أن حنان تحب عليا والتي تختزل بمعنى من المعاني لتكون خليلتها. ومع ذلك في أحد الأيام تسقط بالنوم في سرير حنان، وفي الصباح تثبت الخليلة العلاقة الهرمية:

“كيف تسمحين لنفسك بالبقاء في فراشي حتى الصباح؟” (سمر يزبك 2008: 147. 2012: 1362).

عند هذه النقطة ينعكس ميزان القوة، وتنتهي الرواية بجو من الضياع: مع هذه الافتراضات لا يمكن لهذه العلاقة أن تستمر. في (القرفة) النكاح يمثل علاقة سلطوية بين سيدة وخادمة سوداء، وهو ينسف نمطا بطريركيا جنسيا:

حيونتها كانت مصدر انجذاب حنان إليها. تتلذذ بأصابعها إذ تلعب وترسم على ظهرها، وتشعر بالغرابة من لون أصابع خادمتها السمراء القاتمة على لحمها الأبيض الناعم. (سمر يزبك 2008: 81- 82، 2012 : 744).

كانت الشخصيات، برضاها أو رغما عنها، تدخل في علاقات نكاح مع الرجال، لغاية المتعة أو الواجب أو المنفعة أو الانتقام. “كانت عليا قد باعها والدها وهي طفلة إلى عائلة حنان الغنية، والعلاقة المثلية تبدو شيئا تعرضت له منذ طفولتها، فهو ليس اختيارا ولا تصنيفا. بل هو شيء استعملته لتطبق سلطتها على خليلتها، مع أنها سلطة محدودة، لأنه بوسعها ممارسته داخل البيت فقط. ومن الواضح أن البطلتين لا تعرفان نفسيهما بهوية سحاقية - مهما كان السبب وراء ذلك - وهو مختلف لكل منهما. حنان أيضا، مع أنها مغرمة جدا بعليا، لم يكن يبدو أنها محبة. بل هو نوع من الامتلاك والانتقام من زوجها، الذي أجبرت على الاقتران به دون حب.

ونهاية الرواية مع حنان، التي تقود سيارتها بثوب النوم مثل حمقاء بحثا عن عليا، مجرد تذكير إضافي بيأسها حين كان طفلة وفقدت دميتها وليس بالجانب الإنساني من مشاعرها. وموقفها هذا موجود طوال الرواية:

ما تزالين صغيرة، لا تعرفين أين مكمن قوتك. ولو كنت تعرفين لكبرت أسرع من ذلك. هل ستبقين طفلة إلى وقت طويل؟. متى ستكبرين؟ خرساء. أنت خرساء؟ أنت لم تتعلمي الكلام؟ هذا أسوأ ما فيك، وهو أجمل ما فيك أيضا. ستكونين جزءا مني. فأنت من دم وعيون خبيثة. لا بأس سأجعلك جزءا من... أو حتى من... وربما ستجلسين أمامي على الكومودينو مثل دمية. لا تشبهين الدمية. ماذا تشبهين؟ لا أعرف. أنت لطيفة وناعمة ومطيعة مثل قطة. لست ناعمة. ستصيرين ناعمة.(سمر يزبك 2008: 75، 2012: 666).

في هذه الرواية، المكتوبة بأسلوب الغائب، لا تتماهى الكاتبة مع الشخصيات الأساسية. بكلمة أخرى، يزبك لا تتكلم عن المثلية الجنسية، ولكن بلغة مصنفة في فئة النظام المتغاير، وتضع في مجال نظرنا علاقة بين امرأة سوداء باهرة الجمال وخليلتها، وعليه تتابع كليشيه المستعمل / المنتهك (فالخادمة لا تتصرف كذلك بإرادتها ولا بسبب ميولها الجنسية، وإنما هي مدفوعة قسرا إلى علاقة سحاقية مع خليلتها). “عليا تنتقم بإقامة علاقة جنسية مع زوجها، ويمكن للرواية أن تنتهي بانفصال وتوهم “عودة عليا للبيت. في الخلفية، العلاقة بين حنان وعليا مجرد عذر لسرد حكايات جديدة عن حياة امرأتين. ولم تكن هناك حكايات مأساوية، طبعا، وحتى لو أمكننا التعاطف مع الشخصيات، كانت مكتوبة ضمن كليشيه التغاير. ولو ثبت أن تلك الرؤية تطورت في السنوات الأخيرة - هناك روايات، سبق ذكرها، ولكن أيضا هناك عروض مسرحية، ومناقشات حية، ومقالات صحافية تتناول هذا الموضوع - وهذا لا يمنع أن هذه الكلمة ليست دائما نشيطة ومسموعة. و“القرفة” رواية من تيار المشهد الروائي الأساسي، بمعنى أنها وضعت نفسها في خطاب قريب من السلطة لأنه يصور لنا حنان - البورجوازية المتغربنة (مصورة بشكل) امرأة منحرفة، الـ “مرأة الضجرة” وعليا، التي تعود في نهاية الرواية للبيت ولحياتها المتهدمة. ليس هناك علاقة فعليا بين الشخصيتين ولا يوجد أمل باحتمال الهيمنة.

ومثل “القرفة” تأتي “ملامح” (بخطوطها العامة، وأيضا بوجهات نظرها) وهي رواية زينب حفني وتقدم لنا شخصية ثريا، امرأة سعودية، متزوجة من رجل يجبرها على علاقة جنسية مع رجال آخرين لزيادة ريعهما المالي وموقعها في المجتمع. والرواية مؤلفة من خمسة أجزاء، وكلها مكتوبة بصيغة المتكلم.

الأول عن سيرة ثريا نفسها ويبدأ باقتباس من جان جاك روسو يقول فيه: سأقدم نفسي، متى أطلق آخر بوق نفيره، للقاضي، وبيدي هذا الكتاب وأطلب بصوت مرتفع: هكذا تصرفت، وهذه هي أفكاري. وهكذا أنا. وبحرية ووعي اقترفت ما هو مستهجن وشرير، ولم أتستر على جريمة، ولم أفعل خيرا، وإذا أحيانا قدمت بعض الأعمال الجميلة، ذلك فقط لأسد ثغرة نجمت عن خلل بالذاكرة. وافترضت أشياء، هي أخطاء متعمدة ولدي علم مسبق أنها شيء احتمالي، ولكن لم أصمم أنها حقيقية. هكذا أنا، وقد صرحت بنفسي، أحيانا شرير ومقزز، وفي أحيان غيرها، فاضل وكريم، ونبيل” (جان جاك روسو 2012: 3. زينب حفني 2006 : 5).

الجزء الثاني يسرد الحبكة من وجهة نظر حسين، الرجل، ويبدأ بقول لفولتير مقتبس من القاموس الفلسفي عن التسامح وفيه:”ما هو التسامح؟. هو نهاية الإنسانية. كلنا نأتي من الضعف والخطأ. فلنسامح أخطاء وحماقات بعضنا بعضا - وهو أول قانون طبييعي” (فولتير 1924 ، من مرجع آخر. حنفي 2006: 57). يصف هذان الجزءان حياة الزوجين حتى طلاقهما، و- من خلال الاقتباسات - يبدو أنها تشير لطبيعة ثريا وثقافة حسين، وتتابع بالتالي كليشيه بطريركية. إنهما يصفان الحياة في العربية السعودية، موطن الكاتبة، والتي يتم منع الجنس بقسوة، وحيث العلاقات بين المرأة والرجل ليس لها مصير غير الفشل. ويبدأ الجزء الثالث باقتباس من (بعد الطوفان) لرامبو: ”- تفجري، يا نبعة الماء - ارغي وأزبدي، واعصفي بالجسر واغمري الغابة - أيتها الثياب والأعضاء السود - البريق والرعود - اعصفي وتلاطمي -أيتها المياه والأحزان، اغمري كل شيء بفيضان يفور حتى الحافة ( زينب حفني 2012 : 8 . 2006: 101). وكما هو دائما تخبرنا، بصيغة المتكلم، بقصة ثريا كما يراها حسين، وهي تعيش حياتها وحيدة وتحاول أن تجد لنفسها مكانا في المجتمع. ومنذ أول قراءة يبدو أن الجزء الثالث هو الجزء الذي تجد فيه الشخصية الأساسية نفسها، كما ورد في اقتباس رامبو. في الحقيقة، بغض النظر عن العنوان وموضوع القصيدة - لدينا دعوة مستمرة للعصيان مع أننا غير متيقنين من نجاح المحاولة - وتوظيف الشعر يذكر بركيستيفا وثورة اللغة الشعرية (جوليا كريستيفا 1974)، حيث أن اللغة الشعرية هي ” استعادة للجسم الأمومي بشروط اللغة، بمعنى أن لدى المرء إمكانية أن يقطع، ويحول، ويزيح القانون الأبوي” (جوديت بطلر 1990 : 108). وبعد طلاقها، تصبح ثريا امرأة أخرى وشكرا لـ “عملها” الجديد: إنها تبيعهم الثياب الأوروبية. ثم تقول لنا:”دخلت إلى عالم الأنثى المثلية جنسيا بالصدفة” (زينب حنفي 2006: 110. كل الترجمات لي). وهذه الصدفة هي ليلى، إحدى زبوناتها. تتناولان في إحدى المرات بعد العمل في المخزن، الشاي معا وتخبر ليلى صديقتها ثريا عن أسباب عدم زواجها: ربما في البداية لأنها تنتظر الحب ثم، بعد موت أبيها، لأنها ورثت الكثير من النقود وأصبح الشك ينتابها من إخلاص المنافقات. ثم تشجعت وسألتها: هل جربت الحب في كل حياتك؟. فاجأها السؤال، وشاهدت شفتيها ترتعشان، ويديها ترتجفان، وإيقاع أنفاسها يتبدل، وصدرها يعلو ويهبط مع تدفق عاطفتها، ألقت رأسها على صدري وانخرطت بالبكاء. وربتت على خدها لأطمئنها، فعقدت ذراعيها حولي، ووضعت يديها بقوة على كتفي. وأصبحت راحتاها ساخنتين وبدأت تقبل وجهي ببطء، دفعتها عني ومسحت دموعها عن وجهها. في تلك الليلة، وأنا مستلقية في سريري، تذكرت تفاصيل ما جرى، ووجدت نفسي أرتعش (زينب حنفي 2006: 112).

“الدخول” إلى عالم الأنثى المثلية جنسيا يعني بالنسبة لثريا ببساطة أنه بمقدورها الآن أن تخبر القارئ بقصص كثيرة عن السبب الذي يددعو النساء لإقامة علاقة حب جنسية مع نساء أخريات. وكما تقول إحدى النساء:”هذا ما دفعها لتلتفت إلى عالم المثليات جنسيا - قالت ضاحكة: النساء تفهمن بعضهن بعضا بشكل أفضل” (زينب حفني 2006: 114).

الجزء الرابع يبدأ بهذه الكلمات: اعتدت على أن أسمع عبارة “هند تحب النساء” أو كما يقولون في الغرب “السحاقيات”، وبنبرة سلبية، وبعدة مناسبات، في حفلة أو خلال زيارة. في البداية غضبت، وامتلأت عيناي بالدموع، وفكرت بمغادرة المكان، ثم، مع مرور الوقت، افترت شفتاي عن ابتسامة، وأنا أتذكر عشيقتي الحقيقية أو تفاصيل العلاقة مع سابقتها. (زينب حفني 2006: 127).

هذه هي وجهة نظر هند، المرأة التي ستعشق ثريا والتي تعرف ميولها الجنسية. في الواقع يفتتح هذا القسم ببيت شعر مستعار من “ الشاي في قصر المختل” لوالاس ستيفنز ورد فيه:”أنا هو العالم الذي مشيت كل ما رأيت / أو سمعت أو أحسست أنه جاء مني فقط”(ولاس ستيفنز 200: 34).

هذه هي الفقرة الوحيدة من الرواية - وهي قصيرة فعلا، سبع صفحات فقط من مجموع مائة وستين صفحة - وفيها شخصية سحاقية حقيقية حاضرة، ومع أن ثريا لا تحبها، سوف تواجه الخديعة المحزنة (4).

استقبلت “ملامح” بشكل سيء في العربية السعودية، وتعرضت للرقابة، وكذلك لم تحصد مراجعات جيدة في الغرب، واستمرت بلا ترجمة حتى الآن. إن الرواية تخبرنا عن حكاية امرأة، حزينة، وتبدو صورتها المثلية جنسيا مثل بديل عن العنف في عالم الذكور وبالأخص بديل عن النفاق الاجتماعي في السعودية، وهي حالة شاملة إذا استثنينا هند. والأخيرة عمليا شخصية نشيطة في بنية الرواية، وعليها أن تواجه خيبات الأمل، باعتبار أن علاقات السحاق لا يمكنها “أن تتحقق” في المجتمع، والذي وجد نفسه يعيش على أساس ثنائي القطبين. في الواقع يبدو أن ثريا بقيت على الحافة من مجتمعها، لأنها لم تختر علاقة سحاقية ولا يمكنها أن تتخيل الحياة إلا امرأة بجانب رجل، كما أكدت طوال النص. هذه الرواية، مثل بقية روايات الكاتبة، تخاطب المثلية الجنسية عند النساء على أنها الطريقة الوحيدة التي بها تستجيب المرأة للخطاب البطريركي المتغاير. وهذا كما أرى، من جهة، هو السبب الذي يدعو “ملامح” لعدم تصوير شخصيات مثلية نشيطة، مع أنها تمضي لما هو أبعد من خطاب رواية “القرفة”. ومن جهة أخرى بالضد مما أكد عليه نقاد آخرون (مثلا ثريا التركي 2010) إنها رواية حسنة البناء، ومعناها أعرض من تجربة اجتماعية بسيطة ولها قيمة أدبية ظاهرة .

وهناك مقاربة مختلفة جدا في (الآخرون) لصبا الحرز، وهي من العربية السعودية أيضا (5). وقد حركت هذه الرواية جدلا واسعا بين الأكاديميين والمتابعين في العالم العربي. وقد استعملت الكاتبة اسما مستعارا في بلدها كي تتهرب من الإدانة التي لحقت بزينب حفني (6).

بنية الرواية من ثلاث عتبات: الجزء الأول يبدأ باقتباس من جان بول سارتر (الآخرون هم الجحيم)، والقارئ حرفيا يجد نفسه مع الشخصية الرئيسية، التي لن نعرف اسمها، وهي في تيار شعور عميق يخبرنا عن علاقة جنسية مع ضي، وهي أنثى وطالبة:

تشبثت بالمرآة، عريي الفاضح يدفع بي لنشوة غير مسبوقة، نشوة أن أراني مشتهاة ومنفلتة من قوانين جسدي نفسه (صبا الحرز 2006: 8. صبا الحرز 2009: 81).

وهذا المقطع مونولوج داخلي طويل، ولا يصف فقط حالة البطلة الأنثى أمام ما جرى لها، ولكن أيضا يعكس وصفا مفصلا للمجتمع السعودي، وبالأخص الجماعات الشيعية والتي جاءت منها البطلة. في مجتمع مغلق من هذا النوع لقرية عاشت فيها، لا يمكن أن يكون رد فعلها الأولي إلا النفور:

قذارتي ليست مما يمكنني شطفه بالماء والصابون. تعبت من تكرار غسل يدي وفمي، من عدد مرات استحمامي، من خوفي كلما نمت على ظهري، أو باعدت بين رجلي. لا أستطيع الآن أن أمرر ممحاة ضخمة على جسدي وذاكرتي وإعادة الصفحة إلى بياضها. ما حدث أن ضي شطرتني اثنين: جسدي المتباهي بحلواه، وذاتي النزاعة إلى التطهر من آثامها (صبا الحرز 2006: 12، صبا الحرز 2009: 120).

في الرواية، يبدو من الواضح كيف أن المجتمع السعودي مذكر، والذكر يمتلك السلطة التي لا ترحم من يحاول أن يسلك الطريق الآخر. والبطلة المؤنثة تدخل تحت تأثير إدراك جديد لجسمها ” وبحالة من القطيعة مع نفسي في الوقت الذي أخذ جسدي يتعنت في طلباته.” (صبا الحرز 2006: 18، صبا الحرز 2009: 233).

وفي كل الحالات إن العلاقة مع ضي هي استحواذية أيضا، وتعيد إنتاج ظاهرة الذكورة، والبطلة مجرد موضوع بيدي عشيقتها. وفي آخر العام أعطتني شهادة تخرجي موقعة بأستاذيتها. كانت شهادة تخرجي جملة كتبتها بالأسود السائل فوق جسدي. “أنت ملك لي وحدي” (صبا الحرز 2006: 46، صبا الحرز 2009: 694).

وتستمر العلاقة بين ضي والبطلة، وتهددها دائما السلطة التي تحاول أن تفرضها الأولى على الثانية، وبنوع من العنف الذي يسر ضي التعرض له. في الخلفية، نشاهد أن البطلة تعاني من الصرع، وهو تعبير واضح عن ضعفها في المجتمع الذي تعيش به وعن أنه لديها شقيق تحبه فعلا، ولكنه ميت. وفي نقطة ما تقدم ضي البطلة لصديقاتها ومن بينهم دارين: ”وبدقة كانت راحتها قد دخلت لعمقي وبعثرت تراتبية أشياء الداخل في” (صبا الحرز 2009: 1761).

هذا اللقاء يحدد بداية الجزء الثاني، ويتصدره اقتباس من فيلم “الآخرون” هو: “لا يجب فتح باب قبل إغلاق سابقه “ (صبا الحرز 2006: 161، صبا الحرز 2009: 2293). تطورت العلاقة مع دارين بطريقة مختلفة تماما وفشلت البطلة أن تولد من جديد بطريقة ما معها:

مع دارين شعرت أني أملك طمأنينة وافرة لأضع قلبي بجوارنا على الطاولة، من دون خوف أن تسرقه حين أغفل عنه وعنها، ليس لأنها لا تستطيع، ولا لأنها لا تريد، وإنما لأنها فطنت منذ البدء كم أنا مهرة خاسرة في هذا المضمار، فكفتني مشقة الرهان علي. ومعها بدأت أكتشف جسدي من جديد، كانت تغويني ببطء، وتشعل شمعتين، وتهمس لي بفضائح يرتعش لها جلدي. وكانت تقف على الحياد دائما إذا ما أردت توريطها كطرف ثالث بيني وبين جسدي. معها، كان لأعضاء جسدي أسماؤها واحدا واحدا، حتى أكثرها سرية، وللحظاتنا تعابيرها الخاصة، وما اعتقدته بذاءة رخيصة لا تليق بدارين وشاسع لطفلها، كنت أكتشف فيه نوعا من الإثارة الفاحشة القذرة، من قال إن القذارة لا تثير؟ وكانت علاقتنا الجسدية:”جنسا”، وليست كما اعتدت تسميته تلميحا: ”ذلك”!.(صبا الحرز 2006: 178، صبا الحرز 2009: 2581).

إن الشعور بالإثم يذوب أيضا على ما يبدو ويفسح المجال أمام النقاش: لو أن الله خلقنا هكذا لماذا يجب أن نشعر بالقذارة؟. وهو سؤال أساسي، ولكن للأسف لا تقدم لنا الرواية جوابا شافيا على السؤال.

بعد التقدم بالعمر - تبدأ الرواية مع البطلة وهي بعمر يقل عن ثماني عشرة سنة وتنتهي وهي بالثانية والعشرين - تتعلم البطلة كيف تدير علاقاتها، ولذلك يمكن قراءة “الآخرون” وكأنها حكاية ممر ثقافة تقودك من الكبت إلى، إن لم يكن التحرر (لأنه من المستحيلات في المجتمع السعودي) على الأقل إلى وعي الذات. ويعكس هذا الجزء من الكتاب لاحقا العلاقة بين البطلة مع النساء عموما ومع اثنتين منهما بشكل خاص. والعلاقة الأخيرة ليست غرامية ولكنها علاقة جنسية تصور التطور من اليأس إلى الوعي. ووعي جنسيتها يدفع البطلة لتلاحظ أنها لم تعرف الرجل أبدا، أو على الأدق، لم تشعر بالرغبة للرجل ولم تتخيلها أساسا:

حين قلت لدارين: أشتهي فيك رجلا لن يأتي.

همست في أذني: أتمنى لو بيدي أن أكون ذاك الرجل.

رددت بكبرياء شاهقة جدا: ولكني لا أنتظر واحدا!.

من دون أن تدري لفتتني إلى الكائن الناقص في حياتي، لم يكن أبدا ثمة رجل، في آخر أمنياتي واشدها ضآلة وخفاء لم يكن ثمة رجل (صبا الحرز 2006: 216، صبا الحرز 2009: 3204).

ثم تحاول إقامة علاقة مع ريان، وتقدمها بشكال بداية تتطور إلى نهاية، لكنها تبقى علاقة افتراضية، فهما لا يعرفان بعضهما بعضا إلا عبر الانترنت ومن خلال مكالمات هاتفية مطولة. وفي كل الحالات، تبدأ البطلة المؤنثة بالالتفات نحو عالم الرجال، وفي هذا الجزء تؤكد أكثر من مرة على حقيقة أنها لم “تعد” مثلية جنسيا. وفي الفصل الأخير من القسم الثاني، تتكلم الفتاة مع عمر، وهو صديق لفترة طويلة، وتخبره كل شيء عن خبراتها الجنسية حتى هذا اليوم. وعند هذه النقطة، نصل لاستراحة في الرواية تعبر فيها البطلة بواسطة اقتباس من صموئيل بيكيت ومسرحيته “بانتظار غودو” عن واقعها فتقول: لا أحد يأتي، ولا شيء يحصل”. ومن هذه النقطة يبدأ الجزء الثالث وتنتقل الرواية إلى عالم الرجال وعلاقته بالبطلة. وفي الحقيقة نعلم أنها تزور مجددا ضي لتراها لآخر مرة ولـ “تغلق الباب” أمام حياة المثلية الجنسية ولتفح بابا جديدا، على عالم الرجال، ولكن يبقى القارئ غير متيقن حول سبب هذا التصرف. ويصور لنا آخر فصل المرأة الصغيرة وهي برفقة عمر، كأنها في شبكة أصدقاء (7)، وتقرر أخيرا أن تخلص له. وحينما تلتتقي به، فإن الكلمة التي تتكرر غالبا هي “هذا حقيقي”، بمعنى أن ما مرت به قبله لم يكن “حقيقيا”:

خذني عمر.. خذني إليك!.

وأخذني. أخذني ليس كما أخذتني ضي في كل عراكاتنا في الفراش، ولا بحالة الخفة التي مررتها علي دارين، ولا في الخوف والخزي لوطء كعب عال لأعوام على جسدي. بين حين وآخر، لفرط الشهوة أو لفرط الحب، كنت على وشك أن أقول:”افعل شيئا كي لا تظل خارجي! لا تسرق أطفالك مني!”. لو لم تفزعه الكلمات الكبيرة التي أنطق بها. (صبا الحرز 2006: 284، صبا الحرز 2009: 4307).

ولا توجد هنا نهاية سعيدة ولكن فقط وعد أن لا يخذلها (صبا الحرز 2006: 287). وليكون العالم حقيقيا، بالمقارنة مع “الآخرون”، وبإشارة للفيلم أيضا، تذكر القارئ (أن الآخرين هم أشباح). ويبدو أن الكاتبة تحذر القارئ: كل إنسان قدمته بالكتاب مجرد شبح، الرجل وحده هو الحقيقة. وبالرغم من هذه القراءة أؤكد أن “الآخرون” مكتوبة بشكل ممتاز ولها بنية روائية متينة، وتستحق الاهتمام.

وبالنظر للروايات الثلاثة معا، توجد قواسم مشتركة بينها يمكن التعرف عليها، من خلال متابعة فكرة سيدويك عن النظام الثنائي التغايري. يقول سيدويك إن الثقافة الغربية (8) مرتبة حول فكرة ثنائية هي مثلي / مختلف جنسيا. وقد أثرت الفكرة وحددت كل الثنائيات المتقابلة في قاعدة الإبستمولوجيا وعلاقات السلطة التي من خلالها نحقق الاتصال مع المعرفة. ومنها الأنوثة / الذكورة، الحقيقة / الرهاب، الصحة / المرض (سيدويك، 1990). وخطاب السلطة، من خلال خطابات غيره مثل القانون، الطب، الأدب، يجعل إدراكنا للعالم ممكنا فقط عبر هذا النظام الثنائي، وعليه يمكننا إدراك الجنس فقط على أساس التخالف (امرأة / رجل)، ويمكن قراءة الواقع من خلال عدسة جنسية فقط. وأي تفكيك لهذه الروايات يعني كسر هذه الأزواج الثنائية، وتغريب قانون “التيار الذكوري”، لأن “النظام الثنائي متخالف، وعليه إن نظرية الغرابة تبتعد عن الثنائية والتعليل الطبقي بشكل عام وأي علاقة لها مع الجنس والجندر بشكل خاص (ميمي مارينوشي 2010: 50).

لقد اعتمدت كل الروايات التي ناقشتها على بنية ثنائية، تعتقد بوجود تعارض قليل أو كبير بين التغاير الجنسي والمثلية الجنسية. ومع أن لكل الشخصيات علاقات متغايرة - ومن الصعب أن تحدد إن كانت غراما أو فقط ميولا جنسية - فهي في النهاية كلها تعود إلى “الرجل”. وهذا يتضح لذهن عليا التي تعود إلى بيت عائلتها حيث ستجد شبح والدها، الذي باعها، ولثريا، والتي في الواقع لم تغادر البنية البطريركية، وللبطلة في “الآخرون” والتي تنتهي حكايتها بعلاقة جنسية مع رجل شاب وبعبارة مقتبسة تفتتح الجزء الثالث من الرواية:”لا أحد يأتي، ولا شيء يحصل”، وهكذا يؤكد أن كل تجاربها السابقة لم تبدل الجانب الفعلي في العلاقات الجنسية. وهناك زوج ثنائي آخر ويمثله التعارض بين حياة المدينة والريف. وفي هذه الحالة أيضا، يمكننا أن نلاحظ أن هذا التعارض في كل الروايات أعلاه: “القرفة” تعيد إنتاج تعارض بين بنت الريف وخليلتها البورجوازية، والتي لحياتها جذور في البيئة المدنية. و“ملامح” توفر وصفا للتقابل بين المدينتين، جدة والرياض، بالمقارنة مع الغرب (لندن). وفي خلفية “الآخرون” قرية القطيف، والتي منها أتت البطلة، وتقابلها الرياض. ومن الممكن أيضا أن تجد في كل الروايات تعارضا آخر، بين بنت أو امرأة شابة، وامرأة أكبر بالعمر، وعلى سبيل المثال أذكر حنان وعليا، ثم ثريا مع المرأة الأخرى في الرياض، وبطلة “الآخرون” مع أمها. وهذا يعني أن بنية الروايات لا تتحدى الظاهرة البطريركية للاختلاف الجنسي، وعليه إن حضور الشخصية المثلية النسائية هو وظيفي ويمثل بنية مجتمع ذكوري.

وربما الرواية التي تمثل وظيفة الإعلان عن المثلية الجنسية لأول مرة باللغة العربية هي “أنا هي أنت” للكاتبة اللبنانية إلهام منصور. والبطلة سهام كانت منجذبة للنساء من صباها وعاشت أول تجربة جنسية لها مع زميلة لها أيام الدراسة، حينما كانت تدرس في باريس. ثم تسقط بالحب في باريس مع ليال، المشرفة عليها، وتمر بحالة هيام مع معلمتها، وهذا ما لا يمكن التستر عليه ويلمع كالنور من بين سطور شعر تكتبه على نمط سافو الإغريقي وكانت ليال تدققه لها. وكانت ليال هي محبوبة ميمي أيضا، امرأة متزوجة تعيش بنفس المبنى ولم تعد تجد المتعة مع زوجها. وهذا ما يلغي التشابه مع الروايات السابقة، لأن هذا النموذج يتضمن تبدلا في الفرضية الحكائية. فالسرد ركز على العلاقات المتبادلة بين البطلات. فهن لسن غير متفهمات لميولهن الجنسية - مع أن سهام على سبيل المثال تقبل ذلك بصعوبة، ويمكننا قراءة الرواية وكأنها رحلة ذاتية للتعرف على الذات - ولا هن مضطرات لتقبل الحياة المثلية لسبب ما. وكذلك لا تشعرن بالذنب. وكان التركيز على الجنسانية النوعية التي تتشكل سلميا وبشكل علني في المجتمع، والإشارة إلى المجتمع العربي، والذي اعتاد على إدانة هذا السلوك. وتنجح سهام بالتغلب على الصدام بين رغبتها أن تكون ما هي عليه والروابط التي تقيد الجندر بالطبقة في المجتمع اللبناني. وتنجح أيضا بالتعبير عن نفسها من خلال الخطاب السحاقي كما تسميه سمر حبيب التي تعمقت بدراسة الرواية (سمر حبيب، 2007). وباعتبار أنه خطاب بمرحلة جنينية، فقد كان يتطور بطريقة مختلفة جذريا عما هو في “القرفة” أو “الآخرون” على سبيل الذكر وليس الحصر.

لا يثيرني إلا الشكل الأنثوي، فلجمال جسد المرأة تأثير كبير علي، وهو الذي يوقظ الرغبة عندي. ما ذنبي إن كنت لا أشعر بلذة الحب إلا مع امرأة، وهل الحب يتغير إن تغير موضوعه؟. إنه الحب، وهدف ممارسة الحب هو الوصول إلى اللذة والنشوة (أحلام منصور 2000: 170. كل الترجمات لسمر حبيب).

والوعي الذاتي بمفهوم الوجود عينه متوفر بكل أبعاده في الرواية. فسهام تبحث عن أسباب لمثليتها الجنسية ولكن بالنهاية تكتشف نفسها وتتحد معها لأنه لا يوجد شيء بحاجة للتبرير وعليه:

أما عندنا فهو (المثلية الجنسية) مكتوم لأننا ما زلنا في مرحلة النمط السحري من التفكير. نعنقد أن السكوت عن واقع ما، يلغيه. نعم نلغيه من فكرنا ليعشش في أجسادنا ولاوعينا ولينعكس على كل سلوكاتنا من دون أن ندري (إلهام منصور 2000: 59-60)*.

خلفيات الرواية، في هذه الحالة، هي العلاقة بين الطبقات. تنتمي سهام لعائلة بورجوازية، وتجد وصفا مفصلا لها وهي تدخل القطار برفقة والدتها ومن خلال علاقة / التضاد مع الغرب الذي تمثله كلير، الصديقة الفرنسية. والتضاد بين طريقة كلير وسهام في الحياة يمثلها سهام التي تدعو المجتمع العربي باسم مدينة النعناع، والمجتمع الفرنسي باسم مدينة الزعفران (9). ونساء مدينة النعناع تخرجن ليلا بحثا عن جسر للمرور منه نحو الضفة المقابلة. ولكن بعد معاناة شديدة. وتخطي هذا الجسر الرمزي يمثله في الرواية علاقة بين كلير وسهام. فقد كان عند كلير إمكانية بتجاوز اختناقات المجتمع العربي وهي تقود سهام على خط الحدود الفاصل بين العنصر الإيجابي والسلبي حيث دور الأنوثة / الذكورة في حياة السحاقيات معدومة.

كلير تكشف عن كنوز جسدها وتختلط الشمس بالموج ويبرز العناب شهيا ويحين وقت الطعام، كلير تلتهم العشق وتتلذذ، تعرف أسرار الحب وطرقاته وتتدلل، كلير والحرية في فستانها، تتعرى، لا تريد أن تبقى أسيرة، وتنفخ سجائرها في قدح أشقر، فمن تشرب كلير ومن يشربها؟. (إلهام منصور 2000: 73).

وبناء العلاقات، وتركيبها، ومد الجسور هو ما يتحدى النظام. فهي طريقة عملية جديدة، وهي طريقة المكبوت، والذي يتقاطع مع أسئلة الجندر والطبقة، ويفتح الباب لوعي مختلف. وهذا لا يتطلب فقط تركيب وتحليل النصوص، ولكن أيضا تركيب الحراك الاجتماعي. وبهذه الطريقة، يمكن الكلام عن المسكوت عنه - وهو ما يصنع الواقع - من خلال وضد السلطة. وفي هذه الرواية، مع أن بعض تقاطبات السلطة المزدوجة البنية موجودة (على سبيل المثال في العلاقة بين سهام وأمها، وبالدور الذي تلعبه الحرب، ومن خلال وصف المجتمع الريفي بالمقارنة مع باريس الحضرية)، يمكننا ملاحظة مقاربة جديدة في الطريقة التي تتحرك بها مشاعرالشخصيات الأساسية وفي معظم الأفعال التي لها علاقة بالمثلية الجنسية.

بالختام في الأزمنة الحديثة والمعاصرة كانت الإشارة للشخصية المثلية جزءا من وظيفة استراتيجية العمل الأدبي وتصور السلوك الجنسي بشكل رمزي يدل على شيء آخر (سلبي غالبا)، ثم انتقلت لتكون تعبيرا عن الميول الجنسية لكل من البطل أو البطلة. وإذا كانت أول طريقة في معالجة الجنسية المثلية في الأدب لم تحرض النقاد أو الرقابة، فإن الطريقة الثانية نجم عنها موقف سلبي بين المهتمين، الذين رفضوا أن يمنحوا تلك الروايات أي قيمة أدبية (9).

والحقيقة أنه يجب بذل المزيد من الجهود لفهم طرائق استقبال هذه الروايات في العالم العربي والغرب، وللبحث عن أفضل طريقة يمكننا بها إعادة تحديد النظام الأدبي في كل من البلدان العربية، وفي الدراسات التي تركز على الأدب العربي. وهذا بشكل عام يرسم الخطوط العريضة لطريق يبدو أنه على درجة عالية من الأهمية. وإن حضور المثلية الجنسية النسوية في الأدب كما تفترضها هذه الدراسة تشجعنا كمهتمين للابتعاد عن ارتكاب الأخطاء في تحديد معنى “المرأة العربية” أو “السحاقية العربية” كشيء بحد ذاته، وأن نحاول الكشف عن العلاقات التي تقيمها مع أمور أو جماعات أخرى. وبهذا الأسلوب يمكننا أن نتفهم البنية التي تتطور بها لغة الطرف الأقوى والسائد، وأن نفككها، وأن نفتح الباب للغة بديلة، وأن نضيف لغة خطاب أدبي مختلف ليس للأدب العربي وحده، ولكن للحساسية الأدبية بشكل عام.

 

...................

الهوامش:

 1- نشرت عدة بحوث ومقالات وتم إعداد مصادر مختلفة عن المثلية الجنسية.

2- هناك في الحقيقة الكثير من الروايات المكتوبة عن الموضوع بلغات غير عربية (مثلا الفرنسية والإنكليزية)، ولكن تأثيرها على جماهير قراء يتكلمون العربية هو طبعا مختلف لحد كبير وغالبا هي موجهة خلال كتابتها لجمهور من القراء الغربيين.

3- سيتم عرض الروايات بترتيب فرضته طريقة البحث وليس حسب تاريخ صدورها.

4- ستحاول الشخصية أن تنتحر وينتهي الفصل بهند وهي تسأل نفسها في بعض الأوقات ماذا تصنع ثريا. ويسروي الجزء الرابع حكاية ابن ثريا، الذي ينضم لخلية أصوليين ويختفي في أفغانستان، أما الجزء الخامس فيصف حياة البطلة بعد مقتل ابنها حتى وفاتها.

5- عنوان الرواية مقتبس من الآخرون (2001)، وهو فيلم لأليخاندرو أمينابار، بطولة نيكول كدمان. ومأخوذ عن رواية لهنري جيمس بعنوان “لفة البرغي” (1898).

6- ولم يرغب المترجم الإنكليزي كذلك أن يذكر في الترجمة الإنكليزية للرواية. فقد ورد ما يلي: “لم يسجل اسم المترجم هنا بطلب من المترجم” (صبا الحرز 2009، كولوفون). ونشرت الرواية بالإيطالية أيضا، وترجمها لورينزو ديكليش (صبا الحرز 2009). وفي كل الأحوال إن مشكلة الرقابة الذاتية تحتاج للدراسة، لأنه ليس من المؤكد إذا كان السبب هو حضور الشخصية المثلية. وربما هو المقاربة النقدية للمجتمع السعودي بشكل عام.

7- اسم الصبي هو عمر ويذكر القارئ أنه سني، وهو ليس شيعيا مثل البطلة.

8- أعتبر الثقافة العربية أنها غربية.

9- الزعفران هنا هو الوهم الذي يفسر سبب تسمية المثليات جنسيا في اللغة العربية بـ “سحاقية”. ويعني “أن تطحن” ويشير لفعل “طحن” الزعفران بين راحتي اليد حتى تفصل الثمرة عن القشرة.

 

* بالتدقيق مع النص العربي الأصلي تبين أن رقم الصفحة هو 107، وليس كما ورد في المقال. كل الاقتباسات مدققة مع النصوص الأصلية باستثناء رواية زينب حفني “ملامح” لتعذر الرجوع إليها.

المراجع:

Alharez, Saba. 2012. The Others. London: Telegram Books.

Altorki, Soraya. 2010. “Struggling from the Centre to the Periphery: The Fiction of Zaynab Hifni”. Contemporary Arab Affairs 3(3): 352-361.

Amer, Sahar. 2009. “Medieval Arab Lesbians and Lesbian-Like Women”. Journal of the History of Sexuality 18(2), May: 215-236.

Butler, Judith. 1990. Gender Trouble. Feminism and the Subversion of Identity. London and New York: Routledge.

Butler, Judith. 1993. Bodies that matter. On the Discursive Limits of “Sex”. New York and London: Routledge.

Butler, Judith. 1997. Excitable Speech. A Politics of the Performative. New York and London: Routledge.

Čmejrková, Svĕtla. 2007. “Intercultural Dialogue and Academic discourse,” in Marion Grein and Edda Weigand, eds. Dialogue and Culture, pp. 73-94. Amster-dam: John Benjamins Publishing Company.

Fanon, Frantz. 1971. Peau noire, masques blancs, Paris: Seuil.

Foucault, Michel. 1978. The History of Sexuality. New York: Pantheon.

Ġitānī(al-), Ğamāl. 1989. Risāla al-baṣā’ir fī-l-maṣā’ir. al-Qāhira: al-Hilāl.

Guardi, Jolanda. 2012. “Politiche del corpo e diritti delle donne nel mondo ara-bo.” Deportate Esuli Profughe 18-19: 257-267.

Guardi, Jolanda and Anna Vanzan. 2012. Che genere di islam. Roma: Ediesse.

Habib, Samar. 2007. Female Homosexuality in the Middle East. New York and London: Routledge.

Hage, Ghassan. 2013. The Arab Social Sciences and the Two Critical Tradi-tions, keynote presented to the inaugural conference of the Arab council of Social Science, Beirut. Accessed July 2013. http://www.academia.edu/3192521/Towards_a_Critical_Arab_Social_Science.

Ḥarz(al-), Ṣabā. 2006. Al-āḫarūn. Bayrūt: Dār as-Sāqī. Harez(al-), Saba. Gli altri. Verona: Neri Pozza. (Italian translation by Lorenzo Declich and Daniele Mascitelli).

Ḥifnī, Zaynab. 2006. Malāmiḥ. Bayrūt: Dār as-Sāqī.

King, Katie. 1994. “Feminism and Writing Technologies: Teaching Queerish Travels through Maps, Territories, and Patterns.” Configurations 2 (1): 89-106.

Kristeva, Julia. 1974. La révolution du langage poétique. Paris: Seuil.

Maḥfūẓ, Nağīb. 1995. Midaq Alley, Anchor : Flushing.

Mansour, Elham. 2008. I am you (Ana hiya anti). Amherst NY: Cambria Press. (English translation by Samar Habib).

Manṣūr, Ilhām. 2000. Ana hiya anti. Bayrūt: Riyyāḍ ar-ra’īs.

Marinucci, Mimi. 2010. Feminism is Queer. The intimate connection between queer and feminist theory. London: Zed Books.

Rimbaud, Arthur. 2012. Illuminations. New York: W. W. Norton & Company. Translated by John Ashbery.

Rousseau, Jean-Jacques. 2012. The Confessions. Adelaide: The University of Adelaide. English translation by W. Conyngham Mallory.

Sandoval, Chela. 2000. Methodology of the Oppressed. Minneapolis London: University of Minnesota Press.

Sedgwick, Eve Kosofsky. 1990. Epistemology of the closet. Los Angeles: Uni-versity of California Press.

Stevens, Wallace. 2001. Harmonium. London: Faber & Faber.

Tīfāšī(al-). 1992. Nuzhat l-albāb fīmā lā yūğad fī kitāb. Lundun Qubruṣ: Riyāḍ ar-ra’īs. Edited by Ğ. Ğum‘a.

Voltaire. The Philosophical Dictionary. New York: Knopf. Translated by H. I. Woolf.

Yamānī(al-). 2006. Kitāb al-labīb fī mu‘āširat l-ḥabīb. Al-Māya al-Ğamāhiriyya al-‘Uẓmà: Tāla. Yazbek, Samer. 2008. Raḥi’at al-qirfa. Bayrūt: Dār al-adāb.

Yazbek, Samer. 2012. Cinnamon. London: Arabia Books. (English translation by Emily Danby). Kindle edition.

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم