صحيفة المثقف

الفلسفة الحضارية للفكرة القومية عند قسطنطين زريق (6)

ميثم الجنابيالتاريخ جهاد واجتهاد

لقد سعى قسطنطين زريق لجعل المقدمات النظرية المجردة أساسا لنظريته العملية. بمعنى انه سعى من اجل جعل العمل محك ومعيار ومقياس وأسلوب بلوغ الأهداف الكبرى. فهو لم يقف عند حدود الفكرة العامة عن ضرورة العمل، بل ووضع لها متطلباتها الدقيقة. فقد شدد قسطنطين زريق على أن آرائه أقرب ما تكون إلى متطلبات وإدراك مهماتها. الأمر الذي جعل من فكرته بهذا الصدد شيئا أقرب ما يكون إلى نظرية الجهاد العقلانية. وبالتالي يمكن دعوة نظرته التاريخية بتاريخ الجهاد والعمل. ومن الممكن رؤية كل ذلك بالأخص في جميع كتاباته المتأخرة، وبالأخص موقفه من النكبة الأولى والثانية (النكبة مجددا). إذ نراه يعتبر التاريخ هو نتاج جهاد النفس وجهاد الطبيعة[1]. مع ما ترتب عليه من اعتبار العمل مقدمة ضرورية للإبداع الحضاري. وأدرج فيه ما اسماه بمتطلبات ضرورية ست هي "متطلبات العمل التاريخي المبدع". وأدرج فيها كل من:

- صحة الإحساس بالحاضر وحدّة هذا الإحساس،

- والتطلع إلى المستقبل والإقدام عليه،

- والإبقاء على الصلة بالماضي بوصفها صلة إدراك وحكم واستلهام وتسامي،

- والشعور بالقدرة على الاختيار والاستعداد على تنفيذه،

- والشعور بحدوده،

- وأخيرا اعتبار الإنسان نفسه خاضع لحكم التاريخ[2].

وتوصل بأثر ذلك إلى استنتاج عام يقول، بأن "إحساس الإنسان بالمشكلات الحاضرة وضرورة حلها على ضوء رؤى المستقبل وبروح الأمانة للتراث وشعوره باختباره وقدرته وبقيوده وحدوده. إن هذا كله يملأ نفسه روعا وهيبة"[3].

القومية والحرية

ولا يعني هذا في الوقع سوى تناسق فكرة النقد والحرية، أي تأمل الماضي والحاضر والمستقبل بمعايير الرؤية التاريخية والحضارية العصرية. وهذا بدوره ليس إلا الوجه الآخر لفكرة الحرية كما فهمها قسطنطين زريق. إذ ليست حقيقة هذه الروعة والهيبة سوى الحرية بمختلف مستوياتها ومظاهرها، بوصفها إبداعا عقليا صرف. وليس مصادفة أن تتخلل فكرة الحرية كامل الرؤية القومية لقسطنطين زريق كما لو أنها النسق الساري في كل ما كتبه، بوصفها تنظيما متصفا بفكرة الحداثة. بحيث نراه يحولها إلى عنصر جوهري في نظراته التاريخية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "كل عمل منتج مسبوق بالحرية والاختيار. وأن قيمته متوقفة على مدى الحرية التي يتمتع بها المرء"[4]. ليس ذلك فحسب، بل وأن فكرته العامة والأساسية عن "الثقافة التاريخية" بوصفها القوة الفكرية والروحية القادرة على توحيد الذات الفردية والاجتماعية والقومية بمعايير الرؤية العقلانية والإنسانية، كانت تهدف أساسا إلى إرساء أسس الإطلاق والتحرر، أي الحرية والإبداع الأصيل.

لقد وضع قسطنطين زريق فكرة الحرية في أولوية القضايا التي ينبغي فهمها وحلها في المشروع القومي العربي[5]. بحث نراه يجعل من الحرية فكرة جوهرية في "الحكم على التاريخ". وينطلق بذلك من أن جوهر الإنسان هو قابليته للتحرر واكتساب الكرامة الذاتية. أما الإبداع التاريخي فهو فعل الحرية (الفردي والجماعي) للتخلص من النقائص الذاتية العقلية والخلقية والروحية[6]. وفيما لو تجاهلنا ضعف دقة التعبير في مفاهيم ومقولات قسطنطين زريق، فإنَّ مضمون أفكاره القائلة، بأن "الإبداع التاريخي لا يأتي من الخضوع المطلق للتاريخ، بل يتطلب نوعا من التحرر"، وأن "الاتجاه المستقبلي يتميز بالثورية والتحرر، لكنه يجهل أو يتجاهل تاريخية الإنسان"[7] وغيرها، تشير إلى حدسه الحقيقة القائلة، بأن حقيقة التاريخ المبدع هو التاريخ الحر والمستقبلي. ونعثر على ذلك في محاولاته وضع منظومة من المقاييس الضرورية للحكم على إبداع الثقافة بوصفها مقدمات الحرية. لهذا نراه يدرج ضمن مقاييس التقدم الحقيقي في الحضارة خمس وهي كل من:

- إدراك فهم إسرار الطبيعة وتطورها الفعلي (في التكنولوجيا والتطبيق)،

- وتعميمها النظري الفلسفي،

- والإبداع الجمالي (الأدب والفن)،

- والتطور الأخلاقي (مراتب الخير والفضائل)،

- وأخيرا تحصيلها جميعا في إحراز الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وفي العدل والمعرفة والعلم[8].

ذلك يعني أنه جعل من هذه المقاييس معيارا للحرية، تماما بالقدر الذي تكشف فيه عن وحدة أو معاني الحرية والكرامة. وجعل منه ما اسماه بالمعنى القوي للأثر في "إشاعة الحرية والكرامة"[9].

وبهذا يكون قسطنطين زريق قد جعل من معنى الحرية جوهر التاريخ وحكمه. ووضع ذلك في عبارة تقول، بأن "حكم التاريخ في نهاية المطاف هو حكم في مقدار إدراكنا لحريتنا، ومقدار تحقيقنا لها"[10]. أما حصيلة كل ذلك فتقوم في وصوله إلى الحكم القائل، بأن "كرامة أي فرد أو أية أمة هي حصيلة الحرية الحقيقية التي يتمتع بها الفرد أن تنعم بها الأمة. وهذه الحرية هي بدورها نتيجة لتحقيق القابليات التي يتميز بها الإنسان من الإدراك العقلي والسمو الأخلاقي والروحي والفعل المبدع الناتج عنهما"[11]. وبالتالي، فإنَّ بلوغها الممكن والواقعي والضروري يكمن في الكفاح من اجلها، بوصفها تاريخا وتصنيعا له.

فعندما يعتبر التاريخ (بما في ذلك النظر إليه من حيث نتائجه) متوقفا على إدراك الناس لمعنى الحرية وحقيقتها، فإنه يقسّم مواقف الناس وتياراتها إلى من ينظر إلى مشكلاته الآنية فقط، وإلى من يعتقد ويشعر بالصعوبات التي يواجهها، لكنه يعتقد بأنها بقضاء وقدر، ومن يعمل ويهتم به لكنه رجعي. ووجد فيهم "فئات لا تصنع تاريخا". ذلك يعني أن صنع التاريخ مرتبط بفكرة الجهاد العملي والثقافة التاريخية المؤسسة بمعايير ومقاييس الحضارة المعاصرة.

الفكرة القومية فكرة حضارية

لقد تمثل قسطنطين زريق الفكرة القومية بمعايير وعي الذات بالاستناد إلى جوهرية الفكرة التاريخية والحضارية. من هنا بلورته لفكرة الارتقاء إلى مصاف المتطلبات والتحديات التي تفرضها الحضارة المعاصرة. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة العقلانية والواقعية لإدراك معنى وحقيقة ووظيفة الفكرة القومية بالنسبة للعالم العربي المعاصر. الأمر الذي جعل من فكرته القومية بقدر واحد نقدية ومستقبلية. وفي هذا تكمن قيمتها النظرية والعملية. إلا أنها كانت تعاني من ضعف التأسيس الفلسفي. مما طبعها في الأغلب بطابع النصيحة والإرشاد أكثر مما بطابع التفسير العميق والأصيل للتاريخ العربي وإدراك نوعيته. مع ما رافقه ذلك من موازاة بين النزعة العلمية والخطابية، كما هو جلي في هيمنة عبارات "ما لابد منه" و"ما ينبغي" و"من الواجب" وما شابه ذلك في الموقف من تفسير الماضي والواقع. بينما الفكر العميق فلسفي بالضرورة. بمعنى انه مبني على مبادئ وقواعد تأسيس الفكرة وليس على أساس تقديم النصائح، بما في ذلك أكثرها سلامة وحكمة. فحكمة النصائح فعالة ضمن سياقها التاريخي الثقافي. أما العالم المعاصر، فإنه لا يقر بالحكمة كمرجعية في السلوك، بقدر ما يعتبرها نادرة مفرحة للعقل ومثيرة للمزاج ومروحة للهموم فقط. وهذه فضيلة لكنها لا ترتقي إلى صاف متطلبات الحكمة المعاصرة بوصفها منظومة عقلية وأخلاقية متجانسة، ومن نوع يجمع بين طرافة الوجدان المعذّب ودقة العقل الصارمة في نظرته للمسار الواقعي وآفاقه الفعلية التلقائية. بينما كان أغلب ما كتبه قسطنطين زريق أقرب إلى المواقف منه إلى أفكار. وهذا بدوره ليس معزولا عن هيمنة التقاليد شبه السائدة في التفكير العربي المعاصر، وبالأخص في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين، أو بصورة أدق في كل مجرى العقود التي سادت فيها نفسية وذهنية الفكرة الراديكالية والثورية بمختلف أشكالها وأنواعها.(انتهى).

 

ا. د. ميثم الجنابي

...................

[1] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، بيروت، ص178.

[2] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، بيروت، ص186- 192.

[3] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، بيروت، ص192.

[4] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، بيروت، ص179.

[5] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص204.

[6] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص222.

[7] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص184.

[8] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص223- 224.

[9] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص228-  230.

[10] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص239.

[11] قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص240.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم