صحيفة المثقف

خطيئة هارون الرشيد!!

صادق السامرائيلعدم وجود آلية دستورية للحكم إتخذ الخلفاء قرارات ذات تداعيات خطيرة ومتوالدة، تسببت بأضرار موجعة على مسيرة الحكم في دولهم.

ومن الخطايا التي فعلت فعلها هي مسألة توريث الحكم، التي إنطلقت مع بداية الدولة الأموية كحل لمشكلة الحكم، التي ما أفلح الخلفاء الراشدون بإستنباط صيغة راسخة لها تتوارثها الأجيال  بعدهم.

وخطيئة هارون الرشيد عاش (148 - 193)، وحكم (170 - 193) أنه كتب وثيقة العهدة التي جعل الخلافة من بعده للأمين ومن ثم المأمون وبعده القاسم وعلقها في الكعبة، وأشهد عليها القضاة والفقهاء وأذاعها بين الناس على لسان الخطباء.

وفي تأريخ الخلفاء للسيوطي: "وكان الرشيد قد بايع بولاية العهد لإبنه محمد في سنة (175)، ولقبه الأمين وله يومئذ خمس سنين، لحرص أمه زبيدة على ذلك، قال الذهبي: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة، ثم بايع لأخيه عبد الله سنة (182) ولقبه المأمون، وولاه ممالك خراسان بأسرها،  "وعمره 12 سنة"، ثم بايع لإبنه القاسم من بعد الأخوين في سنة (186) ولقبه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور وهو صبي، فلما قسَّم الدنيا بين هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء، لقد ألقى بأسهم بينهم، وغائلة ذلك تضر الرعية".

لقد إرتكب ذات الخطأ الذي إرتكبه أبوه مضاعفا، وإنتهى بمقتل أخيه الهادي، عندما أراد خلعه من ولاية العهد، لأن الأمين والمأمون كالتوأم، ففارق العمر بينهما بضعة أشهر، وقد تربيا سوية وبذات المربيين.

 فالأمين تولى الحكم في سن(23) وقتل في عمر (27)، وتولى المأمون الحكم في سن (27 ) وتوفى في عمر(48)، وفي بداية حكمه مات أو قتل ولي العهد الثالث القاسم، ولم يعهد لأحد إلا عندما حانت وفاته.

أما المعتصم الذي ما كان يخطر على بال الرشيد أن يتولى الخلافة، صار هو الخليفة ومن بعده جميع الخلفاء من ذريته!!

ويقول هارون الرشيد: "...وقد قدمت محمدا (الأمين) عليه (المأمون)، وإني لأعلم إنه منقاد لهواه مبذر لما حوته يده، يشاركه في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدمت عبدالله (المأمون) عليه".

فهل يصح هذا التبرير بكامله وقد عهد إليه بولاية العهد وهو في سن الخامسة من العمر،  والأصح الشطر الثاني من التبرير، فالمأمون من جارية فارسية توفت في نفاسها وهو أول أولاد الرشيد، وبعد أن جاء الأمين أجبرته أمه العربية (زبيدة) وبنو هاشم على كتابة ولاية العهد له، وبعد سبعة سنوات عهد بالخلافة من بعده للمأمون الذي هو أكبر من الأمين بستة أشهر.

فإن صح تبرير هارون الرشيد فمعناه أنه كان غير مقتنع بالأمين، ولا يجرؤ على خلعه من البيعة بولاية العهد، ويبدو أنه كان أكثر إعجابا وثقة بالمأمون، فترك الأمور تأخذ مجراها، وفي قرارة نفسه أن المأمون هو الأحق بالخلافة، وما وعى أن للمعتصم شأن كبير.

وقد كرر ذات الخطيئة المتوكل وإنتهت بقتله، وما آلت إليه الخلافة من بعده، فهذه العُهدات بولايات العهد  خربت نظام الحكم، ويبدو أن النبي والخلفاء أبو بكر وعمر كانوا على وعي وإدراك لتداعيات هذا السلوك، فلم يعهدوا لأبنائهم وأبناء من عوائلهم بالولاية من بعدهم.

لكن معاوية بن أبي سفيان أوجد سلوك توريث الحكم مما أصاب الأمة بمقتل، لأن الذي يأتي للحكم بهذا الأسلوب قد لا يكون مؤهلا، وبلا قدرات وخبرات ونضج نفسي وفكري وسلوكي، ليكون قائدا أو حاكما ومدبرا لشؤون أمة، مما يتسبب بتفاعلات تهورية وإستهتار فاضح بالقيم والمعايير والتقاليد والأعراف، ويعتمد على نوازعه ورغباته المسعورة.

ومعظم الذين يرثون السلطة صبية  فيتحولون إلى رهائن عند الحاشية، الذين يستنزفون طاقاتهم بالموبقات، ويسلطون عليهم الجواري والغواني، فيمضون في قصورهم منومين وعن الدولة غافلين، وما هم إلا رموز خاوية.

والتوريث يصنع رموزا لا قادة، ولهذا فأن الدولة الأموية لم يظهر فيها إلا بضعة قادة، وأكثرهم صاروا رموزا وحسب، وكذلك الدولة العباسية، التي إنتهى قادتها الحقيقيون بمقتل المتوكل، وبعده إستمرت الخلافة رمزية.

 

د-صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم