صحيفة المثقف

كيف يصبح الإلحاد طريقاً إلى الإيمان؟

ريكان ابراهيمفي  علم النفس الديني (8)

إن ظاهرة وجود الكثير من المُلحدين الذين تحولوا إلى الإيمان ثم إستقروا عليه يدل على وجود سرٍ أو أسرار وراء هذه الظاهرة.

فالمعروف في حياة الإنسان أن التصديق بحقيقةً ما ينبع من أمرين: الإيمان المُبرر المنطلق من قوة هذه الحقيقة وثباتها وهو ما نسميه بالإيمان الأولي (Primary Belief)، والإيمان الناتج من استحالة رفض تلك الحقيقة حيث لا يبقى إلا الإيمان بوجودها وثباتها وهو ما نسميه بالإيمان الثانوي (Secondary Belief).

وحين يُصبح الإلحاد فكرة فاشلة في رفض الظاهرة يُصبح، ضرورةً، طريقاً إلى الإثبات. إن الإلحاد محطة من محطات التفكير فيما يكون الإيمان المحطة النهائية.

إن الوقوف على الوسط بين الإلحاد والإيمان هو توقف العملية الفكرية وهذا مُناقضٌ لفلسفة وجود الإنسان الذي وُجدَ ليفكر (أنا أُفكر، إذن أنا موجود؛ ديكارت). نحن لا نخاطب الذين توقفوا، لأننات لا نخاطب الذين ماتوا، والذي لا يفكر ميت وإن عاش، لأن العيش بلا فكر سمةٌ حيوانية والعيش بفكر سمةٌ إنسانية.

***

هل الإلحاد نظريةٌ أم فكرة؟: إن مفردات النظرية، لكي تُصبح نظرية، تشتمل على النواحي الآتية:

أ‌- وجود الموضوع

ب‌ - وجود غاية في الموضوع

ج - وجود وسائل للوصول الى تلك الغاية

د - وجود تطبيق لهذه الوسائل

هـ - وجود مردود من هذا التطبيق

وإذا حاولنا فحص وجود أو توافر هذه المفردات في الفكرة وجدنا موضوعاً ووجدنا غاية ووجدنا وسائل لكننا لا نستطيع بالضرورة، أن نجد تطبيقاً أو مردوداً.

وهذا هو السبب في موت الأفكار وإستمرار حياتية النظرية، فكل نظرية فكرةٌ أولاً وليس كل فكرة نظرية لاحقاً. إن نفي وجود الإله فكرة لا يمكن تطبيقها ناهيك بسخافة مردودها. فناتج الإلحاد (نفي وجود الله) هو العبث والمزيد من الحيرة التي تقود إلى القلق المُحطم لميسرة الإنسان.

إن فكرة النفي هي واحدةٌ من أفكار العدم، وكثيراً ما يمرُ الإنسان بالتفكير العدَمي (Nihilistic delusion) كأن يعتقد أحدنا في لحظة من اللحظات أن طرفه العلوي أو السُفلي أو رأسه غير موجود، على الرغم من وجودهِ.

ويعرف الأطباء النفسيون هذه الظاهرة في بعض الناس الذين يفحصونهم في عياداتهم. ولا نعني هنا ظاهرة التصور (أي أن يتصور الفرد كأن جزءاً من جسمه غير موجود)، لاحظ أيها القارىء الفرق بين الإعتقاد (Belief ) والتصور (Imagination).

فالإعتقاد فكر والتصور ممارسة (Experience)، فنقول عن الأول (Nihilistic delusion) ونقول عن الثاني (Depersonalization). ومن الأمور المُتفق عليها أن كل تفكير عدَمي، كما في الحالة الأولى، هو تفكير مريض فيما يكون التفكير الثاني الذي سمينَاه تَصوراً، كما في الحالة الثانية، حالة قد نمرُ بها ونحن في حالةٍ من السَواء النفسي والسلامة العقلية.

هذا ما يحدث للإنسان في إنكار وجود جزءمنجسمه وهو يراه، فكيف نأمل منه التصديق بإلهٍ لا يراه، وهو إنسان مريض؟ من كلِ هذا الذي أوردناه بإختصار مفيد أن نستنتج أن الإلحاد فكرة لا تصل إلى مستوى النظرية. وهذا هو السبب، بين أسباب أُخرى سنوردها الآن، في ظهور الإلحاد طريقاً إلى الإيمان.

***

هل الإلحاد شكٌ؟:  لا يقوم الشك حول فراغ. فالشك يناقش شيئاً يفترض بعضٌ وجوده فيدافعون عنه فيما يفترض بعضٌ آخر إنعدام وجوده ويدافعون عن وجهة نظرهم.معنى هذا أن الشك يدور دائماً حول النقاط الآتية:

أ‌- شيء يُفترضُ وجودهِ.

ب‌- الفشل في إثبات وجودهِ.

ج - النجاح في إثبات وجودهِ.

د - الفائدة من نفيه.

هـ - الفائدة من إثباته.

وحينما يفشل إثبات النفي ينجح إثبات الوجود. إننا نناقش إنحياز الكثيرين من إلحادهم بإتجاه إيمانهم. معنى هذا أن إلحادهم الذي فشل أصبح طريقاً إلى ظهور الإيمان لديهم.

ومن بين الأسباب التي قادت المُلحد إلى تكذيب أفكاره الملحدة وتصديق الإيمان ما يأتي:

1- قصور وسائل الحس عن إدراك اللامحسوس في كثير من الظاهرات. فالهواء لا نراه لكننا ندرك آثاره. والعواطف لا نقررها لكن نقرر آثارها.

2- إتساق الكون والنفس البشرية خارج دائرة الصدفة.

3- تحدي الثوابت للزوال على الرغم من مجاهدات الإنسان. فالهرم وشيخوخة الأنسجة في الجسم يتحديان الفتح العلمي.

وحينما أصبح نفي وجودالله مغرياً لبعضهم في الإستمرار في شكهم طُولبوا في إثبات الشك فقدموا التصورات الآتية:

1- لكل مخلوق خالق، فمن خلق الله.؟

2- دينامية الحياة تتطلب ظهور النقيض فمن هو نقيض الله؟

3- الله أزل وأبد، فماذا يفعل الله بعد موت الإنسان؟

بمثل هذه التصورات التي ظهرت على هيئة أسئلة يظهر لدينا الملحد وهو لا يجيب إنما يسألأ، وسيد المحتارين هو من يبحث عن أجوبة لأسئلة.

إذن الملحد ليس صورةً نهائية للفكر إنما هو مؤمن مؤجل كامنٌ في نفسه (Potential Person). إن السبب الذي حدا بهذا الإنسان أن يسأل هو أنه حاول أن يدرك اللامحسوس بحسهِ، وهذا ليس كافياً إن لم يكن مُضللاً أصلاً.

إنه يبحث عن خالق الخلق ولو عرف خالق الخالق لعاد يبحث عن خالق الخلق وهذا ناتجٌ من جهله بأن الإيمان هو الإدراك بأن الله هو الصيغة المطلقة النهائية لكمالٍ وليس التكامل.ونُذكر القارىء بما أوردناه في مدرسة الجشتالت عن دائرة الغَلق النهائي للفكرة (Closure).

***

نصل الآن إلى مناقشة الفائدة من نفي وجود الخالق (الإلحاد) والفائدة من إثبات وجوده (الإيمان). إقرأ  أيها القارىء هذا الجدول وراقب النتائج:

الإلحاد                                الإيمان

1- إنسانٌ بدون خالق   /  1- إنسانٌ مخلوقٌ بخالق

2- سيدُ ولادته وعيشه ومصيره ومسؤول عن أعمالهِ وخياراته. / 2- مسَودٌ بخالق في ولادته وعيشه ومصيرهِ وله مسؤول عن خيرِه وشره في كل أعماله.

3- لا شعور بالذنب لأنه ليس مؤمناً بمن يحاسبه ومحاسبه نفسه في المقطع الزمني المحدد ولا يُفحص الماضي بعين الحاضر. / 3- يشعر بالذنب ومحاسبهُ هو الخالق والماضي تراكمٌ لا يتركه الله سُدى إلا بمغفرة.

4- لا وجود للعالم الآخر والمجنون والمُتخلف عقلياً لاحصة لهما في شيء لأنهما لا يملكان أدوات إدارة الصراع. / 4- مَن حُرم قدراته الفردية يُعوض في العالم اللآخر بالإعفاء من أخطائه الدنيوية والمكافأة في عالم الحساب.

5- الثنائية ناتجٌ من نتائج الوجود.  / 5- الثنائية سببٌ للوجود لأنها سبب للصراع.

6- مركزُه الشك وفي الشك يكمن قلق السؤال. / 6- مركزُه اليقين الذي لا يحمل سؤال القلق.

7- الشيء الذي لا يُدرك ليس موجوداً. / 7- قد يُوجد الشيء ولا يدرك لسبب فيه أو لقصور في وسائل الإدراك.

8- التطور في الشيء يعني التغير فيه. / 8- قد يتطور الشيء من دون أن يتغير (الله هو الأزل والأبد، لكن كل يوم هو في شان).

9- الشيء يصارع ضِده ومن صراع الأضداد ينشأ شيءٌ آخر. / 9- صراع الأضداد يدار بقوةٍ  من خارجها وعلى وفق مبدأ الثنائية.

10- العدم نقيض الوجود. / 10- قد يخرج الوجود من العدم لأنه ليس نقيضه والمناقض لا ينتج نقيضه (يُخرج الحي من الميت)

***

من هنا يمكن أن نناقش (بالمقارنة) الفائدة من نفي الإله والفائدة من إثباته على الوجة الآتي:

نتائج النفي                       نتائج الإثبات

1- ظهور الكثير من الأمراض النفسية التي أساسها الإغتراب الروحي وقلق الوجود.  / 1- زوال الكثير من الأمراض النفسية نظراً لإختفاء الشعور بالغربة والإغتراب والقلق

2- شعور الإنسان بالفوقية التي لا تتحقق لوجودنقيضها (الشعور بالدونية). / 2 -  إختفاء الشهور بالفوقية التي لا تتحقق لأنها محكومة بمن هو فوقها (الله)

3- البحث عن الخلود الذي لا يتحقق مهما بالغ الإنسان في البحث. / 3 - إنعدام البحث عن الخلود طبقاً لقاعدة الإيمان التي تقول:إن كل من عليها فان.

***

العوامل التي تدفعُ بالإلحاد أن يُصبح إيماناً: يمكننا أن نُقسم العوامل التي تقف وراء تحول الإنسان من إلحاده بالله إلى الإيمان به بعد رحلةٍ من المجاهدة والبحث على ثلاثة محاور: 1. عوامل في الإنسان. 2. عوامل في الكون. 3. عوامل الإيمان.

1- عوامل في الإنسان:

إن الإنسان نفسه يحمل في داخله بذرة الإيمان مهما غالى في إلحاده. وتتوزع هذه البذرة على المرافق الآتية:

أ‌- العمر:  لوحسبنا نسبة الملحدين في شبابهم ممن إنحازَ منهم إلى الإيمان في شيخوختهم ومراحلهم المتقدمة في العمر مقارنةً بنسبة من ظلَ منهم على إلحاده إلى عمر متأخر لوجدناها كبيرةً جداً.

استخدمت  إحدى الدراسات المعتمدة إحصائية لمائةٍ من الشخصيات الفكرية العالمية المشهورة ووجدت تلك الدراسة ان (73%) منهم غيروا معتقداتهم الإلحادية إلى معتقد إيماني، فيما ظل (12%) على قاعدة (اللاأدرية)، وظلَ ما تبقى من المائة ملحدين.

إن العمر عامل من عوامل النُضج (Growth) والنمو (Development). إن مرحلة الشباب هي مرحلة الإستعراض بالاختلاف والمجاهرة بالخصوصية وعرض الذات بالتقمص.

كل هذا تُغطيه العواطف والنزوات في قصور ذهنيٍ واضح عن إدراك الحقيقة. كلما تقدم العمر بالإنسان يوماُ تقدم نضجه بإتجاه الموت خطوة وفي مراحل توقع الموت يدرك الإنسان سراب البحث عن شيء لا يُدرك.

صحيحٌ أن التفكير عمليةٌ لا تتوقف بالعمر لكن محتوى التفكير يتغير من دون أن يتوقف.

ب‌- الثقافة: تُؤدي ثقافة المجتمع دوراً في ثقافة الفرد المنتسب إلى ذلك المجتمع. وفي مرحلة الشباب يكثر عدد المتمردين على ثقافات مجتمعاتهم فيما يقل هذا العدد كلما نضج الفرد الشاب. لاحظ عدد الشباب الذين يُقبلون على قراءة كتب الإلحاد وقارن هذا بعددهم وهم شيوخ.

إنهم يُسمون مراحل ما كانوا عليه بمراحل الطيش والصخب والثورة على حقائق كانوا يجهلونها ومنها حقيقة الله. إن الثقافات التي تُروج للثورة الجنسية والخمور والرقص هي ثقافات تُسهلُ للإلحاد بالله وقيمه التي تحارب الإبتذال في السلوك البشري.

ج. الجنس: يختلف الرجل عن المرأة في علاقته بالإلحاد. لقد أشارت دراسات كثيرة إلى أن نسبة الملحدين بين الرجال تفوق نسبة الملحدات بين النساء.

وتقف وراء هذه الظاهرة مجموعة عوامل منها:

أ‌- تُدرك المرأة دائماً أن عُمرها الأدائي في الحياة أقصر من عمر الرجل وهي بذلك تُضيق على نفسها فرصة التمرد  بالإلحاد.

ب‌- المرأة تتمتع بعواطف تفوق ما يتمتع به الرجل، والإيمان يُلزمُ صاحبه بالخشوع الوجداني مهما كان الجانب العقلي فيه فاعلاً، وبذلك تنحاز المرأة إلى عواطفها سريعاً.

ج - تميل المرأة إلى الطاعة كثيراً. فهي مطيعةٌ حتى لزوجها الصارم، وبذلك يتحقق لها الميل إلى الإيمان إنطلاقاً من ميلها إلى الطاعة (وهذا نوعٌ من أنواع إيمان الحب والخوف في آن).

د - لا تميل المرأة إلى الجدال والنقاش الفلسفي ولا يعنيها كثيراً الدخول في المعارك الفكرية لأن إيمانها بدورها الأرضي الحياتي المعيش أكبر من إيمانها بالمسائل الفكرية ومنها البحث عن الله.

هـ - التمرد السلوكي مكروهٌ لدى المرأة ولا تُحب أن تظهر به بين الناس، والإلحاد تمرد.

من كل هذه العوامل نستطيع أن نعد عامل الجنس في الإنسان أحد العوامل التي تدفع بالإلحاد أن يُصبح إيماناً.

د- قصور الحِس: يحاول الإنسان أن يُدرك الأشياء والموضوعات والظاهرات بوسائل حسه. فهو يريد أن يرى ما لا يُرى ويسمع ما لا يُسمعُ، وهذا أمرٌ لا يمكن الوصول إلى تحقيقه.

فالشيء الذي يقع خارج مدى البصر لا يمكن رؤيته مع أنه موجود. والأصوات التي لها ذبذبات أقل من 16 ذبذبة في الثانية هي مثل الأصوات التي ترددها أكثر من عشرين ألف ذبذبة في الثانية، كلاهما لا يدركه السمع مع أنه موجود.والروائح التي تفشل في إستثارة عصب الشم لا يمكن شمُها مع أنها موجودة.

هذا القصور الحسي للأشياء على الرغم من وجودها، حدا بالإنسان إلى التفكير في عجزه عن الإدراك الكلي لله وجعله يعيد النظر في مسألة الإيمان.

أخير اصطلح العُلماء على إضافة حاسة جديدة إلى الحواس الخمس سموها الحاسة السادسة. وفي هذه الحاسة تقع مصطلحات الإلهام والإبداع والميتافيزيقيا والشعور العُلوي والتطلع الفلسفي والتخمين والتصور.

إن الحاسة السادسة تُحقق ظاهرة الإرتباط بواحدة أو أكثر من الحواس الخمس. فقد نسمع اللون، وقد نرى المسموع على مستوى من مستويات التصور. فعند قول أحدهم أن فلانة إمرأة ناعمة يقودنا القول إلى تصورها بيضاء أكثر من تصورها سمراء. واللون الأسود يثير  إنفعال الخوف لأنه يرتبط بالليل البهيم.

وقد لا يوافقنا القارىء على ذلك ولكي يوافقنا قليلاً أو كثيراً نسوق إليه مثالاً، ظاهرة إنفصال أداة الحس عن وظيفتها عند المتعاطي لمادة (لاسرجك أسيد LSD)، حيث يبدأ المتعاطي بإدراكه للون في الصوت الذي يسمعه وإدراكه لوجود صوتٍ في  اللون الذي يراه، وهذه ظاهرة طبية معروفة لدى الأطباء النفسيين الذين يعالجون مرضى الإدمات بهذه المادة.

هـ - الإلحاد مرضاً والإيمان صحةً: وهذا عامل كامن في الإنسان يُعدُ دافعاً له للرحلة من الإلحاد إلى الإيمان. إن المُلحِدَ مريض نفسي بحكم المعايير الآتية التي تحكمه:

أ‌- المُلحد يعاني من قلق دائم، إما لأنه يبحث عن سندٍ يُعلق عليه مشكلاته فلا يجده أو يعاني من داء  عظمة زائفة لا تُوفر في داخله إستقراراً حقيقياً.

ب‌- المُلحد يعاني من النبذ الإجتماعي حيث لا يُستشار في صغيرةٍ أو كبيرة ولا يؤتمن رأيه في دوائر القضاء في أية قضية كما لا يؤتمن على الحرمات حتى التي تخصه لأنه بلا قيم يُثبتها دين. فالملحد لا يرى ضرورةً لإلتزاماته أمام ذوي قرباه في الأفراح والأحزان حيث ينظر إليها نظرته إلى طقوس إجتماعية خلقها المجتمع الذي نبذه أو الدين الذي لايؤمن به.

2- عوامل في الكون:

تؤسس مجموعةُ عوامل في الكون المحيط بالإنسان لدوافع ضاغطة بإتجاه ترحيله إلى الإيمان ومنها:

أ‌- (هارمونية) النظام الكوني: في القرآن، الكتاب السماوي وردَ: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) فأصبح هذا القول سبباً لثبات الإيمان عند المؤمن ومُحرضاً للملحد على المزيد من التأمل. فوجودالكائنات بهذا النظام العجيبمن الإتساق الطبيعي وإمتلاء الفضاء بالكواكب المحكومة بقوانين الجذب وثبات مواقيت الليل والنهار والفصول الأربعة مدعاةٌ لفحص القدرة الكامنة في من يقوم على هذا النظام الذييخرج عن قوانين الصدفة.

ب‌- مصداقية النتائج: يميل المُلحد إلى تصديق الظاهرة العيانية على نحو مباشر أكثر من تصديقه الوعد والوعيد اللفظي. وحينما أثبتت مسيرة الأديان السماوية أن ما يجري في الكون ينسجم مع ما تشير إليه كتب تلك الأديان أصبح هذا المُلحد مُهدداً بإستمرار إلحاده بحقائق لا يقوى على رفضها.

ج. أثر الكون في الإنسان: لقد أثبتت الدراسات النفسية الطبية أن الذين يصابون بالفصام العقلي هم، في أغلبهم، من مواليد الشتاء وأن الذين يُصابون بداء الهوس الإكتئابي هم، في أغلبهم، من مواليد أواخر الربيع أو أوائل الصيف.

كما أثبتت الدراسات الأُخرى أن الأبراج وهي الكُوى الكونية التي تقع بين المجرات السماوية تُؤثر في المواليد الذين تحدث ولادتهم في وقت من أوقات تعرض الأم لواحد من هذه الأبراج. كما أثبتت دراسات أُخرى تعرض بعض الأفراد لحالات الإكتئاب عند عيشهم الطويل وقتاً في بلاد يقلفيها ضوء الشمس وهو ما نُسميه بالكآبة الموسمية.

إن الطبيعة الأرضية (الجغرافية وهي جزء من المؤثر الكوني) أصبحت مسؤولة عن تحديد شكل الإنسان وجهاً وقواماً على عكس ما يشيع عن أثر التاريخ العرقي.

ومثال ذلك: الشكل المنغولي. وحين تقدم البحث العلمي أثبت أن هذا لا يتم عشوائياً إنما على وفق نظام دقيق من السببية، مما حدا بكثير من المنادين بقانون الصدفة هو قانون الذي ينفي أثر الخالق إلى مراجعة أنفسهم في مسألة إلحادهم.

3- عوامل في الإيمان:

وفي عملية الإيمان نفسهِ تكمن أسباب كثيرة تُحرض المُلحد على المغادرة بإتجاه الإيمان، نختار منهم الأهم الآتي:

أ‌- صِدق الصورة الكُلية: لنأخذ مثلاً على التعريف بالإيمان مما ورد في القرآن: " الإيمان هو إتخاذ الله واحداً لا شريك له والإيمان بأديانه وأنبيائه وما أُنزل عليهم والإيمان بالغيب واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيرُه وشره".

هذا هو البناء الكلي والصورة الشاملة التي لا تقبل التجزئة لمفرداتها من الإيمان. فالإيمان بالله على أنه الذي خلقنا وكفى يُعد إيماناً ناقصاً وإن كان أساساً أولياً في عملية الإيمان.

معنى هذا التعريف يشمل الأساس العقلي للتصديق بوجود الله مضافاً إليه الجانب القيمي الأخلاقي في الضابط لهذا الوجود. ولأجل تقريب هذه الصورة نسوق للقارىء مثالاً من واقع حياتنا اليومية، هل يجوز لنا أن نُصدقَ بطبيب من الأطباء ونأتمنه على تشخيص مرضٍ ما ثم لا نُصدق بالدواء الذي يصفه وبالوصية التي يذكرها، إستكمالاً للعلاج؟ منطقياً يُعتبر هذا غير صحيح ومثل هذا ما ينطبق على صِدق الصورة الكلية للإيمان.

إن المُلحد شخص تجزيئي أي أنه يُجزىء المعرفة على مفاصل فلاتخدمُه في شيء ومثل ذلك ما فعله حكماء الإغريق القُدامى يوم جزأوا الآلهة على واجباتٍ منفصلة حيث وزعوا ظاهرات الكون على آلهةٍ كثيرة. إن البريق المعرفي في ظاهرة الصورة الكلية للإيمان كانت عاملاً مهماً لدعوة الملحدين إلى مراجعة إلحادهم.

ب‌- السبيية العلمية: إن عملية الإيمان عملية علمية تستند إلى الإثبات، ولا تقوم حقيقةٌ في الكون بدون سندٍ علمي. ألا يستطيع الله الخالق أن يستخدم قدراته الممثلة بقوله: "كُن فيكون" في خلق السماوات والأرض من دون أن يلجأ إلى خلقها في ستة أيام؟ ألا يستطيع الله الخالق أن يُقيم القيامة بلحظةٍ واحدة من دون أن يسبقها بمُمهدات كالشمس إذا كُورت والبحار إذا سُجرت والعشار  إذا عُطلت؟

ألا يستطيع الله الخالق أن يخلق الكائنات من أُحادية مفردة من دون الثنائية التي تقوم على القبح والجمال والأسود والأبيض والذكر والأنثى؟ ألا يستطيع الخالق أن يسترد النفخة التي نفخها من روحه في الطين المفخور كالصلصال من دون أن يُوكل قبضالأرواح إلى ملاك الموت؟

ألا يستطيع الخالق أن يجعل العقل البشري قادراً على إدراك وجوده من دون أن يُنزل كتابا  أو يبعث نبياً؟ بلى أنه لقادر ولكن مبدأ السببية التي تقوم بقانون ضابط هو المبدأ الذي أقره الله ناموساً للكينونة.

وبمثل هذا التوصيل نستطيع القول أن الله هو الذي جعل البحث العلمي في المختبرات سبيلاً إلى معرفة خفايا النفس البشرية. لقد آمن الإنسان القديم بآلههِ (على صورةٍ من الصور) وهو لا يرى إلا سلوكه غير المشروح في أسبابه، فكيف يلحد الإنسان المعاصر بعد أن عرف أن هذا السلوك هو ناتج لعمليات فسلجية تتداخل فيها مكونات جسمه من الهومون والموصل العصبي والكهربائية الساكنة والكيمياء؟ هذا هو ما حدا بالكثير من الملحدين إلى التراجع عن الإلحاد.

ج - الحكمة من إختفاء الله: لقد اصطفى الله لنفسه صفتين لم يمنحهما لغيره، وهما الخلود والإختفاء عن الإدراك المباشر. وكثيراً ما شكك المُلحدون بالله ووجوده لأنهم لم يروه عياناً. إن لإختفاء الله عن الإدراك حكمةً لا يعلم سرها غيره لكننا نستطيع أن نتفحص بعضها بما يُدلل على عظمة حكمته.

دعنا أيها القارىء نُوضح هذه النُقطة ببعض الظاهرات في حياتنا اليومية. غن أحد علماء الإجتماع كان نشر دراسةً عن العلاقات بين الأفراد في المؤسسة الإجتماعية فطالب بضرورةقيام ما سماه ب " المسافة الإجتماعية" التي تفصل بين المدير العام وباقي المنتسبين، وعدَ هذا الباحث مثل هذه المسافة ضروريةً لقيام عنصر الهيبة والوقار بين المسؤول وأتباعه.

تصور لو أن الناس تطلع على خالقها وتعرف مكانه وأشياء أخرى، فإن هؤلاء سيتحولون إلى حالة أخرى من الوعي بالخالق، إن دراسة هذا الباحث أثبتت مصداقيتها على مستوى بشرٍ عاديين فكيف الأمر أمام الخالق العظيم؟

إن مجهولية مصدر للخبر تزيد من سرعة إنتشاره وثبوت تصديقه فكيف الأمر مع الخالق العظيم؟ إن العرب في لغتهم أنشأوا ظاهرة "نائب الفاعل" وعزوا كثيراً  من الحكم والموعظة في أقوال الشعر والنثر إلى قائل مجهول فزادوا شدة تعلق الناس بهذه الحكم والموعظة.

كم من الناس من يستطيع مقابلة حاكمٍ من حكامهم بسهولةٍ في المكان والزمان؟ إذا كان هذا هو ما يحدث مع حاكمٍ بشري فكيف يكون الأمر مع حاكم الحكام، ملك الملوك؟.

د - فلسفة الموت: إختار الله لذاته الخلود، فكلُ مَن عليها فان.ولو خَلَدَ الإنسان لحدث الآتي:

1 - تزدحم الأرض بمن عليها وتضيق موارد العيش.

2 - تزداد الجريمة التي ترتبط طرداً بكثرة البشر.

3 - تقِلُ الموارد وتشيع المجاعة

4 - تفقدالحياة قيمتها لأنه لا يوجد موتٌ يُهددها بالزوال

5 - يشارك المخلوق خالقه في صفةٍ متفردة.

6 - تشيع الأمراض النفسية، فكثيرٌ من الأمراض التي لدينا تظهر في آخر العمر حيث أفردَ  لها قاموس الطب النفسي مُسمى " أمراض آخر العمر" وسبب ذلك أن الشعور بالخلود يُولد الرتابة والرتابة سبب من أسباب الكآبة.

7 - تنتفي الحاجة إلى العالم الآخر حين يخلد الإنسان وتُصبح الأرض مكاناً لعقابه وثوابه.

هذه هي الحكمة من الموت. وظاهرة الموت جزءٌ من متطلبات الإيمان التي أشرنا إليها مثلما أشار القرآن، وهي، مرةً أُخرى، صورة من صور النهاية التي جعلت وتجعل الكثيرين من المُلحدين يراجعون أنفسهم في مسألة إلحادهم بحكيمٍ عظيمٍ هو الله.

 

د. ريكان إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم