صحيفة المثقف

المِرْحاض

انمار رحمة اللهلم أُصادفْ في مهنة الصباغة على مدى سنوات، عرضاً مثل الذي أغراني للعمل في مرحاض المدينة العمومي. حين أقبل مالكه وأخبرني أن مرحاضه يحتاج إلى تعديلات على جدرانه وصبغ فوري، ولم أفهم في البدء سببَ استعجاله بعد أن أخبرته عن أعمال يجب عليّ إنجازها، إلا أنني امتثلت لأمره فوراً بسبب الأجرة العالية التي قرر دفعها لي. خصوصاً أن عملي في صبغ المنازل والمدارس الذي كنتُ منهمكاً به، لم يجلب لي الخير الوفير الذي جلبه لي عملي هذا. احضرتُ عدتي المتكونة من فرشاة وماسحة ودلوين وأصباغ، وبدأت أطالع تفاصيل المرحاض من الداخل، السقف والأبواب والجدران الواسعة، فلم يكن الأمر صعباً ولن يأخذ مني هذا البناء المكون من غُرفة صغيرة الكثير من الوقت، بل أستطيع إنهاء المهمة كلها في ساعة من نهار. كان مالك المرحاض واقفاً فوق رأسي وأنا أجسُّ بنظري الجدران التي كانت مليئة بالعبارات، وحقيقة في أول الأمر لم تهمني تفاصيلها، لأنني كنتُ منشغلاً الجدران وما تحتاجه من تعديل، ثم أن مثل هذه العبارات نجدها كثيراً في المراحيض العامة لهذا لم أبال. وكان المالك يدلف ويخرج، ويلتفت يميناً وشمالاً، حتى أنه لم يهمه رأيي في نوعية التعديل والصبغ، بل أجاب بكلمات تدحرجت مسرعة من فمه: لا يهم لا يهم .. أي لون وأي شكل.. المهم أن يتم صبغ الجدران بأسرع وقت.. وحين خرجت من باب البناء الرئيسي إلى الشارع، لمحتُ أشخاصاً يروحون ويجيئون، وينظرون نحوي وأعينهم تراقبني أثناء عملي!. وكان مالك المرحاض ينظر إليهم مبتسماً، فتبين لي أنهم بحاجة إلى التخلّي بعد أن سألته: من هؤلاء؟ فردّ وهو يطالعهم: زبائن. وحين علموا أن المكان مقفل بسبب العمل على طلائه غادروا. خاطبت المالك والذي يدعونه (العم سامي): أظن أن واجهة المرحاض الخارجية لا تحتاج إلى دهان فهي نظيفة كما يبدو. فأجاب: نعم لا تحتاج.. استعجل في صبغ جدران البناء الداخلي فأنا أريدها خالية من الكتابات في أسرع ما يمكن، وانت تعلم أن الطلاء يحتاج إلى مدة لكي يثبت ويجف.. باشرت بعملي وبدأت بتقشير الجدران وحكّها، وتنظيف السقف من الأتربة فنبهني العم سامي أن لا شأن لي بالسقف العالي، بل المهم عنده هو الجدران. عندها انتبهت إلى العبارات التي كانت تملأ الجدران الداخلية!. وكأنها رسائل..!!. رسائل ما بين أشخاص يعرف بعضهم البعض ولكن من دون ذكر أسمائهم الصريحة!!. أحدهم كتب رسالة تهديد لشخص يبدو أنه من أصحاب السوق المقابل لنا، يهدده في الرسالة المكتوبة على الجدار أنه إذا زوّج ابنته لشخص غيره سيثأر منه، وإذا بأبي الفتاة يرد عليه برسالة ويقول له إن كان رجلاً يفعل ما يحلو له!!. عبارة أخرى يوبّخُ فيها كاتبُها صاحبَ محل بشأن البيع والأسعار، مع عدة تعليقات أسفل وعلى جانب العبارة كلها توبخ الشخص المعني، على أسعاره وغلاء تعامله!!. أحدهم كتب فضيحة شخص ذكره بالاسم، ووقع على عبارته باسم مستعار، وإذا بعبارات لآخرين بعضها يضحك على المفضوح، وأخرى تنصح بعدم التشهير بإنسان!!. حتى تخيّلتُ أنني أقرأ صحيفة فضائح تلك التي تُباع بكثرة، لا فرق سوى أن الشخصيات التي كتبت على جدران المرحاض كانت أغلبها بل كلها بأسماء مستعارة. ثم انتبهت ساعتها لنفسي على صوت العم سامي وهو ينبهني لتمهلي وتأخري، فلم أجد بداً من سؤاله:

- الجدران مليئة بهذه العبارات؟! من الذي كتبها؟ وهل تعرفهم؟

أجاب وقد بان الضيقُ  في عينه الزرقاوين:

- لا أعرفهم وليس شغلي أن اعرفهم.. المهم تنهي عملك بسرعة

ضحكت وقلت له:

- على رسلك.. دعك من اسئلتي وأريد الجواب على سؤال واحد.. هؤلاء ألا يملكون مراحيض في منازلهم؟!.

تأفَّف الرجل وأجابني:

- هذا يُسمى قطع للأرزاق ما شأنك أنت يا عم؟ الناس يروق لها أن يتمرحضوا في هذا المكان العام دعهم وشأنهم.. يملكون أو لا يملكون هم مرتاحون لهذا الأمر.. اكمل عملك

وبالفعل ظل السؤال في بالي، لماذا يترك شخصٌ بيت الخلاء في منزله، ويأتي لهذا الكنيف العام حيث التزاحم وغياب الخصوصية؟!. كنت أحتمل على أقل تقدير نظافة البناء ودواخله، فانا لم أشمُّ فيه رائحة كريهة، وذلك كما يبدو لاهتمام العم سامي وتنظيفه الدائم لمصدر رزقه حفاظاً على كسب رضا الزبائن. لكن الجواب الذي أخفاه العم سامي عرفته لاحقاً بعد أربعة أيام من إنهاء عملي. جاءني ليخبرني أنه يريد طلاء الجدران من جديد!!. سألته مستغرباً: أهناك خطأ ظهر مني أم حدث شيء بعد إنجاز العمل؟!. أجاب: لا هذا ولا ذاك، لكن الجدران تحتاج إلى طلاء جديد وحسب.. عجّل فعملي متوقف ورزقي انقطع، فلم تعد في الجدران مساحة خالية للكتابة...آآه.. أقصد لم تعد الجدران نظيفة.. ابتسمتُ في وجهه وأخبرته أنني سأكون عنده في الصباح الباكر، متسائلاً بيني وبين نفسي ما علاقة الجدران برزقه؟! لكن عبارته التي تسربت منه من دون قصد اتضح سببها. فالعم سامي صار زبوناً دائماً عندي. وصرتُ أصبغ جدران بنائه في الأسبوع مرتين. والثمن الذي كان يضعه في جيبي كان مغرياً صراحةً. حتى أن في بعض الأحيان كنت أخفي أدوات الصبغ خاصتي في زاوية من زوايا المبنى، فأطلي الجدران على وجه السرعة قبل أقفال المالك لمرحاضه، لكي أجدها جافة عند الصباح.. لولا الهجمة الكبيرة التي حدثت ذات يوم وبسببها ضاعت وتبعثرت أدوات عملي. بعد أن هجم جيش من الزبائن جاءوا لكي يثأروا من كتابات نالت من زعيم قبيلة عندهم. وملأوا الجدران بكتابات تمجّد زعيمهم وتنال من الكتابات الأخرى بالشطب والتلطيخ.. لقد كانت مرْحضة عنيفة خرجنا بعدها بخسائر طفيفة ومدخول وفير.. فأنا والعم سامي كنّا بالطبع في أوج سعادتنا، وكنتُ مستمتعاً بهذا العمل السهل ذي الدخل المغري.. ما علاقتي أنا..؟!. أنا مجرد صبّاغ ينهي عمله ويستلم أجرته، ولم أتأسف على ضياع مجهودي في الدراسة، والاهتمام بالثقافة في صباي وفتوّتي، وحصولي على شهادة لم تنفعني عند تخرّجي، فعملي في الصباغة وفي هذا المكان بالذات، منحني مالاً لن تمنحني إياه الشهادة والاطلاع الواسع والثقافة التي كنتُ أفتخر بها على أقراني قديماً. ها أنا ذا كلّما زاد عدد الزبائن المتمرحضين زاد معهم مدخولي، وذاع صيتُ مرحاضنا العمومي في أرجاء المدينة، وهجر الناسُ مراحيضهم الخاصة وصاروا يتوافدون أفواجاً عندنا، ليثأر كلُّ صاحب قضية من الآخر الذي يعارضه، والأسماء التي كانت تمارس هذا خلف الألقاب المستعارة، كثيرٌ منها صار يكتب باسمه الصريح. يُشهر كلُّ صاحب ضغينة على الآخر، فيبلّغ بعضهم المخصوصَ بالعبارة التي تعنيه ليأتي ويرد على من هاجمه وهكذا. من دون أن تحدث عركة حقيقية، فالعراك كله كان يجري في مرحاض العم سامي، وَلَكمْ كان يخبرني العم أننا بهذا الفعل نحنُ نحافظ أيضاً على السلام، بدل أن يتقاتل هؤلاء كالضباع في الشوارع. مرت أيامٌ لم نعد نسيطر فيها على مداخيل عملنا من كثرة الزبائن. ولو حسبتُ عدد الطلاءات التي دهنتها على أوجه الجدران لتاه الحساب!!. لكنني لم أنتبه للمثل الذي يقول "الطمع يقل ما جمع" فقد تطور الأمر ولم يعد كالسابق، حين كان زبائننا من أصحاب المحلات والبسطات المقابلة. وكانت عباراتهم  بسيطة وساذجة ولا يجيء من ورائها ضرر بالغ.. الأمر تطور كثيراً.. حيث تحولت جدران المرحاض إلى لافتات تسقيط وسخرية من نوع آخر.. أتباع جماعة ما يهاجمون أتباع جماعة أخرى، ثم ترد الجماعة المُهاجَمة بالمثل. شعارات وعبارات زادت عن الحد المعقول. وشعرتُ بالخشية من تطور هذا الأمر، لكن منظر المال ينسي المرء كل شيء فلم أكترث. حتى أن صبياً صغيراً صار يبيع الأقلام "الماجك" الملونة قرب المرحاض، وهو الآخر درّت عليه هذه المهنة بالرزق الوفير.. ثم حدث الأمر الفادح ذات ليلة، حين فخَّخت جماعةٌ متطرفة المرحاضَ وفجّرته. كنتُ على فراشي في المنزل أجهّز نفسي للنوم وسمعت صوتَ الانفجار، لكنني قلتُ في نفسي أنه إطار سيارة انشرم وهذا صوته، ولم نعلم بتفجير المرحاض إلا عند الصباح.. وقف رجال الشرطة للكشف عن ملابسات الحادثة. وزبائن كثر يمسكون بأقلامهم وقفوا حول الأنقاض خائبين.. كنتُ أرى في أعينهم الحزن ذاته الذي في عينيّ العم سامي الزرقاوين، وهو يندب حظه ويلعن الذي أعتدى على باب رزقه. صراحة أنا كنت حزيناً أيضاً فلم أرغب في أن يزول هذا، لأنني سأعود كما في السابق صبّاغاً للمنازل والمدارس، وهو عمل شحيح لا أجني منه المال الوفير كعملي في المرحاض. لكن الأمر الذي أفرحني وأفرح زبائننا أيضاً، أن العم سامي قرر بناء مرحاض أحدث وأوسع، مع التركيز على جدران كبيرة وعالية تكفي لكي يكتب عليها الزبائن عباراتهم براحة.. بدأ العمل على إزالة الأنقاض وحفر الأساس، وكشف المخزن السفلي الذي كانت تتجمع فيه الفضلات لتوسعته. لكننا تفاجأنا أنا والعم سامي والبناؤون أن المخزن كان فارغاً؟!. ولم يتطلب الامر تنظيفه وتعديله أو حتى توسعته، وكأنه قد بُني للتو ولا يحتاج إلى أي ترميم بل وربما يحتاج إلى إلغائه أصلاً. لهذا نصحتُ العم سامي أن لا يخسر فلساً واحداً على المخزن السفلي وأن يتركه كما هو، لأننا عرفنا ساعتها أن الزبائن كانوا يتمرحضون على الجدران وليس في البلاليع..

 

أنمار رحمة الله

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم