صحيفة المثقف

المادة وجود غير موجود

علي محمد اليوسفيعتبر بيركلي زوال المادة من العالم يقوّض كل أساس مذهب الشك ويجعل معركة المعرفة ممكنة. إنكار بيركلي للمادة في موضعتها المستقلة خارج إدراك العقل، يستعيض عنها بيركلي بالإدراك الذي يعتبره الوجود المادي للشيء بذاته. معتمدا مذهبه الابستمولوجي الواحدي أننا ندرك الافكار عن كينونة الشيء في العالم الواقعي له ولا فرق بين الفكرة والمادة المدركة. وهو المبدأ الذي خالفه به ديكارت ولوك بالثنائية الابستمولوجية في إعتبارهما الأفكار عن الموضوع لا تمثل حقيقة الموضوع المادي بل هي صورة له من صور عديدة.

وطرح بيركلي أمام الفلاسفة الذين ينكرون عليه مقولته الفلسفية هذه لا وجود لعالم مادي خارج مدركات الذهن بالفكر المجرّد. طرح بيركلي أسئلة إشكالية فلسفية أراد أن يفحم بها الماديّون الذين لا يشاركونه الرأي هي:

- أيمكن للمادة أن تفكر؟

- أيمكن للمادة أن تنقسم الى ما لانهاية له؟

-  كيف تؤثر المادة على أذهاننا؟

بيركلي يعترف أننا لا ندرك من الاشياء سوى صفاتها ولا ندرك حتى الصفات الحقيقية الاولية للاشياء، عندها لا مناص أمامنا بحسب رأيه في عدم الشك بإدراكاتنا الصحيحة للاشياء، والشك يكون في الوجود المادي للشيء الذي ليس مهّما طالما الادراك والتفكيرللواقع خاصّية الذهن وليس المادة. بيركلي يتغاضى عن حقيقة الموجود المادي المستقل يتسّم بثبات كينونة صفاته بينما الإدراك له هو قدرة إستيعابية محدودة لصفات متغيّرة ممكن تحميل الشك بها كفكرة مجردة عن الشيء.

لو نحن حاكمنا أفكار بيركلي في محاولة إنكاره وجود المادة في عالمنا الخارجي كي لا نقع في شرك الشك الذي لا يفتح أبواب المعرفة ألموصدة أمامنا بخلاف معيار فلسفة ديكارت إعتباره الشك مفتاح كل معرفة يقينية حقيقية لا تحتاج البرهنة العقلانية على صحتها. لو أخذنا بمبدأ ديكارت في الشك الفلسفي لتوّقفّنا أمام نكران بيركلي للواقع المادي خارج الفكر نقطة رأس سطر.

رغبة بيركلي زوال المادة من عالمنا الخارجي كي لا نسقط بالشك معناه إنعدام إمكانية الإدراك الذهني، فالإدراك لا ينوب عن المادة التي في حال إلغائنا لها نكون مع إستحالة تفكيرية هي الإدراك المجرد يدرك نفسه كموضوع يمّثل الوجود كما يرغب بيركلي، بمعنى الأفكار الذهنية التي يؤمن بها بيركلي تدرك نفسها بنفسها في إنعزال تام عن علاقة جدلية الإدراك الفكري بالشيء المادي. والأفكار هي التي تخلق موجودات العالم الخارجي بالذهن. في إعتباره الإدراك التجريدي لتلك الموجودات المادية هو وجود العالم المادي الخارجي بالذهن. ولا يبقى هناك أهمية للموجودات في عالم الواقع سواء أدركناها أم لم ندركها.

الإفتراض التعسّفي في التمّني الأخرق زوال المادة من عالمنا هو الكفيل بتقويض الشك وفتح أبواب المعرفة على مصراعيها كما يرغب الاسقف بيركلي، يصدمنا بحقيقة مادية لا يمكن نكرانها أنه لا يبقى للذهن ما يفكر به كموضوع مادي من جهة، ومن جنبة أخرى الإدراك لا يكون موضوعا بديلا عن المادة كموضوع لإدراك آخر يجانسه الصفات والماهية يكون فضاء إشتغاله هو الذهن التجريدي المفّكروليس الواقع فقط ولا حتى العلاقة الجدلية التي تربطهما حسب رغبة بيركلي. حين يصبح الإدراك موضوعا لإدراك يليه فيه ندخل الفكر متاهة من الدوران حول لا شيء له صلة بالواقع له معنى. وتبقى حقيقة الوجود في الفكر وليس في عالم الطبيعة والموجودات. تخليق بيركلي للادراك عوضا عن الوجود المادي يدخلنا في إنفصام إدراكي لا معنى له ولا نتيجة متوخاة منه.

ولا يبدو مصادرة فكرية لرأي مخالف حين نقول الإدراك بلا موضوع مادي أو خيالي لا يكون ولا يوجد وهو إستحالة معرفية، فالإدراك لا يدرك نفسه بدائرة مغلقة من الفكر التجريدي الذي لا يدخل في علاقة جدلية مع الواقع . الفكر المجرّد يخلق مواضيعه المادية والخيالية نتيجة إستثارة مادية أو إستثارة خيالية متعالقة بالذاكرة والذهن سابقة عليه، الإدراك تفكير بمحتوى مادي ولا يعمل الإدراك بغياب موضوع تفكيره. وليس كل مايدركه العقل يمكن تعبير الفكر واللغة عنه في حقيقته الموجودية. بالمجمل المقتصد ليس هناك إدراك يقبله الذهن التفكيري ناتج عن فراغ لا يسبقه مادة أو موضوع.

أي الادراك لا يدرك نفسه كموضوع مجرد من جهة، ولا يدرك الإدراك ما لا معنى له من جهة أخرى. بمعنى الإدراك هو فعالية ذهنية قصدية لا تعمل في فراغ ولا توجد في إنفصالها عن الواقع المادي. صحيح جدا الإدراك هو لغة تصورّية تجريدية للمادة لكن الإدراك لغة في التعبير عن شيء عن موضوع عن بماذا يفّكر؟

رب قائل يقول الإدراك يعبّر عن واقع خيالي بالذهن لا علاقة له بالعالم المادي. حتى المواضيع الخيالية التي يستذكرها الذهن بالتفكير المجرد بها هي نتاج خبرة تراكمية مصدرها الواقع المادي يجرى تخزينها بالذاكرة تجريديا. مصدر وجود الأفكار بالذهن المادة وليس مصدر وجود المادة أفكار الذهن المجرّدة.

من المسائل التي يتجاهلها بيركلي هي إلغاء إلوجود المادي برغبة شخصية لا تكون متحّققة ملزمة لغيره من نوعه إنسان آخر يعيش ذلك الوجود المادي ويدركه. رغبة إزالة بيركلي المادة كي نخلص من الشك لا يوجد ما يدعمّها أنها تقود فعلا الخلاص من الشك الذي هو ليس مرضا يجب الشفاء منه بل هو مفتاح التفكير الصحيح للوقوف على يقينية مدركاتنا وصحّتها التجريبية العملانية. الشك معرفة مسبّقة لمعرفة يقينية نستمّدها منه. فليس كل مدركاتنا تحمل حقائقها التي لا يطالها الشك بها ولا بنسبيتها. عليه يكون الشك بداية كل معرفة صائبة تثبت صحتها.

في إنكارنا المادة والشك المصاحب لها نقع في منطقة عازلة من اللاإدراك الحقيقي أننا نعيش ضمن عالم يموج بحركة المادة وسجالا معرفيا مفتوحا بما لا يمكن الإحاطة به تماما في محاولة الوصول الى حقائق واقع نحياه بمعنى ليس في خيالنا فقط وبذلك لا نكون ضمن فئة العصابيين الانفصاميين الذين يرون حقيقة ما يعيشونه من خيالات هو الواقع الأسمى الذي يعلو الواقع المادي الذي يعيشه الآخروين بغباء إدراكي غير مجنون.

إنكار الواقع المادي خارج تفكير الذهن ممكن أن تكون مشكلة بيركلي وحده لا مشكلة غيره، كون الواقع المادي هو الواقع الحيوي الذي يجد الناس الأسوياء واقعهم الحياتي فيه. الإدراك تجريد مادي في معرفة الاشياء في وجودها الواقعي المستقل ولا يكون بديلا عن ذلك الواقع في إنتاجية الفكر عنها.

بيركلي كي يعطي تفكير الذهن الأسبقية الأولية للإدراك. يضع المعيارين التاليين:

- الذهن لا يمكنه التأثير على الجسم والموضوعات الخارجية سوى وفقا لقوانين الطبيعة1، بمعنى أننا طالما أن كل شيء من حولنا تحكمه قوانين الطبيعة الثابتة التي هي من صنع إلهي لذا لا يبقى معنى أن يكون الفكر أداة أو وسيلة تغيير الواقع المادي الذي تحكمه قوانين طبيعية ثابتة لا يمكن التلاعب بها وتسخيرها لصالح الانسان في حياته.

- " يقول بيركلي "الوجود المطلق للاشياء لا يمكن تصورها بعيدا عن ذهن يفّكر بها هو كلمات بلا معنى"2، المآخذ الواضحة على هذا المعيار هو أنه لا توجد مادة مطلقة في الوجود سوى السديم الكوني والذات الالهية، وإلا أصبح مفهوم مطلق المادة مفهوما من الميتافيزيقا التي لا تحدّها حدود، لا يتعامل الذهن معها كموجودات يدركها. المادة التي يدركها العقل لا تمتلك صفة المطلق غير المحدود وإلا خرجت عن الادراك لها.

ألذهن لا يدرك مطلقات وجودية لا في الطبيعة المادية ولا في الخيال اللامادي. فكلاهما لايمكن الذهن إدراكهما. إكتساب المادة صفات مطلقة لا يدركها العقل هي فعلا تعبير عن لاشيء بلا معنى أيضا. المادة وجود متحقق متعيّن بصفات فيزيائية وليس وجودا سديميا مطلقا غير محدود لا يدركه العقل.

الخبرة مادة

كل مكتسب معرفي يجري إدراكه وتخزينه بالذاكرة والذهن هو خبرة متراكمة إنما يقوم على مصدر إستثارات ماديّة أخذت صفة الإدراك لها كمواضيع، حتى مدركات الخيال لا تتم معرفيا بالذهن من دون جدليّة التفكير معها كمواضيع قابلة للإدراك المادي في عالم الاشياء كتجريد معبّر عن واقع إفتراضي.

- سؤال بيركلي الاول هل تمتلك المادة خاصّية التفكير؟ طبعا لا يمكننا تصديق المادة غير العاقلة تدرك وتفّكر كما يفكّر الانسان وتمنحه الأفكار الجاهزة الإدراك الحقيقي للعالم الخارجي في علاقة جدلية متكافئة بين المادة كموجود مستقل وعقل الانسان كجوهر ماهيته التفكير على حد تعبير ديكارت.

المادة لا تفكر لأنها ليست عقلا مفّكرا بل تبقى مادة تستثير الإدراك الذهني لها على التفكير. بيركلي حين يطرح هذا التساؤل غير المنطقي (هل يمكن للمادة أن تفكر؟) إنما يتوّخى مصادرة كل تفكير مصدره ماديّا، وطالما المّادة لا تمتلك خاصيّة التفكير فهي لا تمتلك خاصّية التأثير بالأفكار التي هي تقرر وجود المادة وتأخذ عنها كل ما يلزم من عملية الإدراك التي تتم داخل الفكر فقط بمعزل عن الواقع. ولا يقر بيركلي بحقيقة فيزيائية علمية مطلقة هي الوجود المادي يسبق الفكر التجريدي عنه.

إذا كانت المادة موجودا بلا تفكير تجريدي يدركه ألعقل فهي تصبح موجودا لا قيمة لتفكيرالعقل من دونها. بيركلي يريد تسويق أن كل ما لا يستطيع مجاراة خاصيّة التفكير العقلي مثل المادة غير العاقلة، فهذا يترتّب عليه أن الذي يقرر وجوده المادي هو الفكر وليس كينونته المادية المستقلة في عالم الاشياء. لذا ليس هناك عالم مادي خارج الفكر حسب فلسفة بيركلي وكل معرفتنا العالم المادي هي تفكير ذهني لا علاقة له بالوجود المادي خارج الفكر.. موجودات العالم الخارجي عند بيركلي هو مايدركه الفكر تجريدا وما لا يدركه الفكر العقلي التجريدي لا وجود له في عالم المادة.

المادة والادراك

حين ندمغ المادة أنها لا تمتلك تفكيرا ذهنيا فهذا يعني حسب بيركلي أنها لا تمتلك إحساسات هي إستثارات لكل إدراك عقلي يقصدها معرفيا، وبذا ينخلع عنها توصيف أن تكون المادة موضوعا مدركا من غيرها يمتلك إدراكا عقليا هو الانسان لاغيره. وهذا لا يمنح الإدراك العقلي أن ينكر وجود المادة كونها لا تمتلك إدراكا عقليا جدليّا تربطها مع الانسان. إننا ندرك المادة غير العاقلة ولا تستطيع هي إدراكنا. الذات العاقلة عند الانسان تدرك المادة موضوعا لها، والذات الانسانية لا تكون موضوعا لإدراك مادي غير عاقل. وبهذه الطريقة حسب فهم بيركلي يمكننا أن ننكر وجود الطبيعة لأننا ندركها من جانبنا ولا تستطيع هي إدراكنا. أو بمعنى اخّف لا قيمة لوجود الطبيعة سواء أدركناها ماديا أم لم ندركها طالما كل موجود فيها حسب بيركلي يتم تخليقه بالفكر وما عداه لا وجود له في الواقع.

هل المادة تنقسم على نفسها؟

تساؤل بيركلي هل المادة تنقسم الى ما لانهاية له؟ هنا بدورنا نتجاوز فيزياء المادة وقوانينها ونتساءل على صعيد الفلسفة، ما علاقة قابلية المادة الانقسام الذاتي على نفسها الى ما لا نهاية وربط هذه الخاصيّة بموضوع نكران وجودها؟

المادة في كل حالات وجودها هي وجود يسبق الإدراك والفكر ولغة التعبيرعنها، والمادة في بديهية قانونية يتداولها طلاب المرحلة الثانوية لاتفنى ولا تستحدث. وحين تمتلك بعض المواد قابلية الانقسام وفق صيرورة مادية تحكمها قوانين فيزيائية عامة فهذا لا يغيّر من حقيقة إدراكنا المادة في كليتّها الموجودية وفي إدراك جزئياتها معا هو إدراك قائم على وجود مادي أو على موضوع خيالي لا مادي.

أمّا عن تساؤل بيركلي هل تؤثر المادة على أذهاننا؟ فبألتاكيد المادة هي مصدر إدراكات الذهن بالتفكير، وحتى في حال إنكار بيركلي وجود المادة كي نخلص من الشك فهذا لا يلغي حقيقة كل إدراك يترتّب عليه تفكير يختزنه الذهن في الذاكرة موضوعا لمدرك مادي أو خيالي...وتأثير المادة على أذهاننا أنها تمّثل مصدر إستثارة الإحساسات الصادرة عنها عبر الحواس، وبغير الوجود المسّبق للمادة ليس هناك إدراك حسّي ولا تفكير تجريدي بموضوع لا يتمكن الذهن الإحاطة به ولا يحيط تعبير الوعي به بوسيلة إفصاح الفكر واللغة عنه. وهذا يسري على تفكير الذهن بموضوعات الخيال أيضا.

ميزة التفكير العقلي المنبعث عن الذهن أنه لا يستطيع التفكير بلا موضوع محدّد يكون مادة التفكير. كما لا يستطيع الإدراك المجرّد للاشياء المادية إنتاج مادة غير موجودة بالواقع يوجدها التفكير المجرد إفتراضا غير متحقق واقعيا، فالتفكير هو بالحتم تفكير بموضوع معيّن ماديّا أو خياليّا. بيركلي عندما تخذله الحجّة المعرفية المنطقية يلجأ الى تعليل ميتافيزيقي قوله " كل موضوعات العالم الخارجي التي تكون بالفعل أفكارا تبقى بإستمرار محفوظة بعقل الله سواء أدركناها أم لم ندركها"3 بيركلي في عبارته يعتمد مبدأ الوجود المادي الخارجي هو فكر مدرك فقط لا وجود له خارج مدركاتنا الفكرية..

- ما ضمانة أن ما لا تدركه عقولنا من أشياء مادية تكون محفوظة في إدراك عقل الله وما فائدة وكيفية إستفادة الانسان منها وهي محفوظة في عقل الله؟

- الأفكار حسب بيركلي سابقة على كل وجود تعبّر عنه سواء ادركنا تلك الأفكار أم لم ندركها، وبهذا التصريح لبيركلي يعترف ضمنا أن المادة سابقة على الفكر سواء أدركناها أم لم ندركها بدليل أن الافكار هي تخليق إنساني مصدرها العقل التوليدي على عكس المادة فهي جزء من معطى طبيعي موجود غير عاقل لا يدرك ولا يفكر. ولم يسهم تفكير الانسان بخلقه بدلا من إحتواء الطبيعة له كأحد مكوّناتها أو موجود تم تصنيعه وإكتسب صفة المادة مثال ذلك جميع المواد غير العاقلة التي يصنعها الانسان لاستعمالاته لها..

- الإدراك تجريد لموجود مادي سابق عليه أما أن يكون الإدراك يدرك ذاته في فهمه العالم تفكيرا ذهنيا محضا دونما تداخل جدلي معه، فهذا يكون إستحالة إدراكية لا يقبلها العقل. ثم ما فائدة وأهمية الإدراك يدرك نفسه؟

- بيركلي حين تعجزه الحيلة البرهنة على عدم وجود المادة خارج الفكر، نجده يلجأ الى تكليف الله في مرجعية إدراك ما لا يمكننا إدراكه الذي هو إدراك تجريد إفتراضي أيضا. في وقت يتعامل بيركلي مع أشكال لا حصر لها من المادة في حياته اليومية. كما يجد بالذهن إمكانيته تحويل المادة الى فكر تجريدي وهو لاغبار على صحته. لكن هذا لا يجعل من تفكير الذهن هو عوّض المادة في وجودها الواقعي. المادة وجود مستقل متعيّن بصفات وأبعاد والإدراك والفكر تعبيران تجريديان عن ذلك الوجود. الفكر المنهجي يكتسب من المادة التعبير عن صفاتها المادية الحقيقية لكنه لا يكون بديلا عن المادة في وجودها الانطولوجي المستقل في عالم الاشياء.

مذهب الواحدية والثنائية الابستمولوجية

بيركلي على العكس من ديكارت وجون لوك يؤمن بمذهب الواحدية الابستمولوجية التي مفادها "أننا ندرك أفكارا هي إدراك حقيقي لموجودات العالم والاشياء في حقيقتها الواقعية، كما ندرك من الاشياء عن طريق الحواس ظواهرها الخارجية ولا ندرك حتى صفاتها الاولية"4. بيركلي يؤمن أننا ندرك الشيء في حقيقته الموجودية وليس في صفاته المجردة التي هي محمولات كل إدراك لشيء لكن تلك الصفات لا تمّثل حقيقة وجود الشيء.

في حين أن الثنائية الابستمولوجية التي يتبّعها ديكارت وجون لوك أننا لا ندرك الاشياء والموجودات في كليّتها الكينونية الكاملة، ولا في وجودها المستقل الكامل كصفات أولية وصفات ثانوية وجواهر في حال وجودها. وإدراكنا الاشياء لا يتوقف عند معرفة ظواهرها الخارجية فقط، بل لا ندركها بمجملها كيانا كليّا واحدا، ولا يمكننا تجزئة الإدراك على مراحل من الوعي بالشيء.

صحيح أن كل مدركاتنا للاشياء هي إدراكات تجريدية ناقصة بسبب قصور تعبير اللغة وقصور إستيعاب التفكير الذهني لكن هذا لا يترتّب عليه تجزئة الإدراك للشيء على مراحل تحليلية لمعرفته هي ليست من خاصّية الحواس ولا من خاصّية الذهن. الإحساسات الصادرة المنبعثة عن الاشياء في وجودها المستقل في عالم الاشياء هي كل ما يستطيع الإدراك الذهني إستيعابه لكنه بنفس الوقت هو إدراك لا يمكن الحكم على نقصانه قبل قراءتنا تعبير ردود الأفعال الصادرة عن مدركات العقل المادية له في تعبير ملازمة الوعي واللغة.

الفكرة والحقيقية

حسب مذهب الواحدية الابستمولوجية التي يؤمن بها بيركلي، أننا لا ندرك من الواقع الخارجي سوى (الافكار) التي هي حقيقة الشيء بمجمل وجوده ولا أكثرمنها.. في إدراكنا الاشياء على حقيقتها الموجودية الكاملة بالواقع لإنها مدركات فكرية مجردة نستطيع إدراكها. وهذا يقودنا الى تساؤل هو النسخة الثانية من هذه المقولة الإشكالية هل الفكرة تعبيرا عن صورة الشيء أم هي تعبيرا عن حقيقته؟ إذا نحن أخذنا بمبدأ الواحدية الابستمولوجية كما يعتمدها بيركلي يعتبر إدراكنا الشيء يعني إدراكنا لحقيقته الكاملة في وجودها الكلّي كينونة مستقلة واحدة. لكن الإعتراض على بيركلي أننا ندرك الافكار التي هي تعبير عن الصفات الخارجية للمدركات فقط ولا يستطيع الإدراك الفكري المجرّد معرفة الشيء على حقيقته كاملة.

التعقيد المشترك الذي يجعل مثل هذا إلإختلاف قائما هو أن كلا المذهبين الواحدية والثنائية الابستمولوجية يقرّان أن الادراكات هي تصورّات ذهنية مجردة عن الأشياء التي تنطبع بالذهن، لذا يذهب ديكارت ولوك الى أن الإدراكات التجريدية هي تعبيرناقص لإمكانية الإدراك الحسّي إستيعابه في التعبير عن الشيء كينونة موجودية حقيقية وليس تعبيرا فكريا تجريديا يكتفي معرفة الصفات فقط.

لكن يبقى التساؤل الشّكي بين المذهبين قائما هو كيف نميّز إدراك الشيء هو إدراك لفكرة صفاتية ليست حقيقية جوهرية، وبين إدراك الشيء هو إدراك حقيقي يشمل كينونة الشيء المدرك بتمامها؟ مالذي يمكننا إعتماده في التمييز والوصول لحقيقة الإدراك الذي هو في الحالتين إدراك مجرّد عن الاشياء والموجودات في الواقع؟

خاصة عندما نجد أن بعض المدركات الطبيعية يكون إدراكنا لصفاتها الخارجية هو إدراك لحقيقتها الوجودية الماهوية مثل إدراكنا لحيوان أو كرسي. حيث تكون صفات الحيوان الخارجية هي حقيقة إدراكية كاملة لوجوده من حيث هو حيوان محدد لا يمتلك جوهرا ولا يعي ذاته. وكذا تعميم الحال مع كل مدرك جماد من حولنا.لكننا لو نحن طبّقنا هذا المبدأ على إدراكنا لإنسان في صفاته الخارجية لن يكون إدراكنا كافيا لمعرفتنا حقيقته الجوهرية وكينونته الوجودية كاملة، ونكون أوقعنا أنفسنا بخطأ من حيث الانسان لا تكمن معرفة حقيقته الوجودية بإدراكنا لصفاته الخارجية فقط فهو يمتلك بخلاف الحيوان جوهرا أو ماهيّة وهو يعي ذاته جيدا بما لا يتوّفر عليه الحيوان.

عليه يكون إدراكنا الصفات الخارجية لشخص ما لا يجعلنا نمتلك حقيقته كموجود أو كائن حي.هذا الإختلاف الذي ذهبنا له يؤكده العديد من الفلاسفة "أن الافكار تختلف بطبيعتها التصورية عن الصور في حقيقتها. وأننا نعي بالفعل ذواتنا الخاصة الذي يختلف عن وعينا بإحساساتنا عن الاشياء والموضوعات الخارجية ." 5. مذهب بيركلي في الواحدية الابستمولوجية كان مصيبا به تعبيره "كيف يمكن لافكار أن تشبه بصورة صحيحة موضوعات العالم الخارجي التي هي في حقيقتها ليست افكارا؟ وكان رد بيركلي اننا ندرك الموضوع الواقعي في حقيقته ولا نرك صورة منه"6

يزعم بيركلي " أن كل ما هو حقيقي يكون ذهنيا"7، لونحن تماشينا مع مقولة بيركلي هذه لوجدنا أنفسنا نشك بالإدراك وسيلة معرفية للعالم الخارجي، من حيث نرجع الى نقطة البداية في تساؤلنا كيف يمكننا تمييز ماهو مدرك حقيقي عن ما هو مدرك زائف؟ الادراك هو فكرة تجريدية لصورة شيء أو موضوع، والذهن لا يمتلك قابلية تمييزها هل هي مدركات حقيقية ام زائفة؟ كون الذهن بتعريف بيركلي "الذهن لا يكون وحدة بذاتها لأنها فكرة مجردة "8. ولا يمكن تصورنا أن تصدر عن بيركلي المؤمن بالله مثل هذا القول "الوجود المطلق لاشياء لا يمكن تصورها بعيدا عن ذهن يفكر بها هي كلمات بدون معنى"9، لا يمكن لاشياء يدركها الذهن أن تمتلك فضاءا مطلقا وجوديا لا تدخل في مجال الميتافيزيقا التي لا ينكرها بيركلي في تفسير ما يعجز عنه منطقيا فلسفيا.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

...................

الهوامش:

1- وليم رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ت: محمود سيد احمد، تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح. ص 189

2- نفسه نفس الصفحة

3- نفسه ص 193

4- نفسه ص 195

5- نفسه ص 191

6- نفسه ص 189

7- نفسه نفس الصفحة

8- نفسه نفس الصفحة

9- نفسه ص 199

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم