صحيفة المثقف

البلاغة والايمان الحق

يسري عبد الغنيومن ذلك أننا وجدنا كثيراً من أهل الفكر من أمثال: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين، وسانت توماس قد ربطوا بين الجمال والنفع أو الجمال والخير، وفي ذات الوقت فإننا نجد كثيراً من علماء البلاغة يؤكدون على الصلة الوثيقة بين مفهوم البلاغة، وبين الخير والنفع .

ومن هؤلاء العالم الزاهد / عمرو بن عبيد، الذي سأله سائل ذات مرة: ما البلاغة؟، فأجابه: ما بلغ بك الجنة، وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك، وعواقب غيك ! .

قال السائل: ليس هذا أريد !!، قال عمرو: فكأنك إنما تريد تخير لفظ في حسن إفهام ؟ ـ قال: نعم، قال عمرو: إنك إذا أردت تقرير حجة الله في قلوب المريدين بالألفاظ الحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة، كنت قد أُتيت فصل الخطاب، واستوجبت على الله جزيل الثواب

وفي رواية أخرى لنفس الشاهد أن (عمرو بن عبيد) عرف البلاغة بقوله: تحبير اللفظ (تخير اللفظ) في حسن الإفهام، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان، والمقبولة عند الأذهان.

ويقال أن (عمرو بن عبيد) نصح سائله بألا يطول الكلام، لأن طول الكلام يدعو إلى التكلف (وبالتالي إلى ملل السامع أو القارئ)

وعليه فإن عنصر الخير ومعه النفع ـ في هذا المقام ـ أساسيان ضروريان عند شيخنا / عمرو بن عبيد، في مفهوم البلاغة أو بمعنى آخر: من أجل تحقيق الكلام لهدفه المراد (الإمتاع والإقناع)، كما هما أساسيان في مفهوم الجمال عند رجال الفكر، لأنه لا نفع ولا خير أكثر للإنسان العاقل مما يبلغه الجنة، ويعدل به عن النار، ويبصره مواقع الفلاح والصلاح التي بها يحدد مواقع رشده في الدنيا وفي الآخرة .

أساس البلاغة:

وإذا كان أفلاطون قد وصل بنظريته في الجمال إلى أن هناك مثال للجمال، هو مصدر كل جمال وهو الأصل فيه، وأن الأشياء تحرز منه، وتنال بقدر قربها منه أو بعدها عنه .

وإن كان الجميل عند المدرسة الأفلوطينة تشير إلى الواحد المطلق، الواحد الخير، الذي تصدر عنه الصور المشعة بالجمال .

فإن جانباً كبيراً من جهود علماء البلاغة والتي بذلوها من أجل استنباط أسسها، والأصول التي تقوم وتعتمد عليها، إنما مصدره الأول وأساسه المتين مستقى من كلام الله جل شأنه المبين في القرآن الكريم، فكلامه سبحانه وتعالى هو أساس البلاغة ودستورها، ومصدرها الوثيق، وجمالها منبثق من جمال الأسلوب القرآني البديع الرائع الذي من المحال أن يرتقي إليه أي أسلوب آخر مهما كانت بلاغة صاحبه .

فإذا أضفنا إلى ذلك أن جانباً كبيراً من جهود علماء البلاغة موجهة في الأساس إلى إثبات وجود الله العلي القدير وقدرته، وأنه سبحانه وتعالى هو المتصف بكل صفات الجلال والجمال والإكرام، وإنه عز وجل مصدر كل خير ونفع، وهو جميل يحب الجمال .

كل ذلك من خلال تفسير كتاب الله المجيد، وسنة رسوله الكريم محمد بن عبد الله الهادي البشير (صلى الله عليه وسلم) .

وإذا ما عرفنا أن جماعة من أهل البلاغة وهم المتكلمون أو رجال التوحيد، كانت غايتهم العظمى هي إثبات كل صفات الكمال للمولى الواحد الأحد، ودفع كل شبهة نقص عنه جل شأنه .

وأن أهل البلاغة بوجه عام يدركون كل الإدراك أن طريق الإيمان الحق، لا يمكن أن نبلغه إلا بنبراس يضيء لنا الطريق، هذا النبراس هو العقل المنصف المرشد، العقل الذي يعد أعظم نعمة منحه الله للبشر، ومع العقل الواعي السليم تأتي الروح الطيبة الطاهرة .

إذا علمنا ذلك جيداً، وفهمناه كل الفهم، وأدركنا وحدة الطريق والتشابه في الغاية، والاتفاق في الوسيلة المحققة لذلك، ووعينا أيضاً أن المفكر المنصف الملتزم والبليغ الأريب المتمكن من أدواته، كلاهما يبحث عن غاية عظمى، ومقصد محمود، وبمعنى آخر لا فكر ولا أدب بدون هدف، بدون إقناع وإمتاع، بدون جدوى أو نفع .

ومن هنا كان البليغ الحق في نظر شيخنا / عمرو بن عبيد هو الذي يستطيع تقرير حجة الله العلي الحكيم في عقول المكلفين، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بالحكمة والموعظة الحسنة المقتبسة من القرآن المجيد، وذلك هو النجاح التام الذي يورث صاحب الكلمة الثواب الجزيل من الله سبحانه وتعالى، وذلك خير ونفع لا ريب فيه.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم